نظام الإعسار في القانون المدني الحديث وفي الفقه الإسلامي


مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى:" وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى مسيرة".
وعن الحارث ابن هشام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"أيما رجل باع متاعا فأفلس الذي ابتاعه منه، ولم يقبض الذي باعه من ثمنه شيئا فوجده بعينه فهو أحق به، وإن مات الذي ابتاعه فصاحب المتاع في إسوة الغرماء".
وقال تعالى:" يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه".
"وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبة فرهان مقبوضة".
 يتضح من الآيات الكريمة والحديث النبوي الشريف، أن الشريعة الإسلامية الغراء قد عالجت مسألتي الإعسار والإفلاس والمداينة، والمسالفة معالجة إنسانية في الوقت الذي كانت فيه الشرائع الأخرى كالشريعة الرومانية التي كانت تستبيح تملك المدين عند عدم الوفاء بالدين، كما تجيز التشهير به في الأسواق والأماكن العامة.
 والآيات الكريمة والحديث الشريف ذكرت هنا على سبيل المثال وليس على سبيل الحصر.
وتأثرا بالشريعة الإسلامية سارت على هداها التشريعات المغربية قديما وحديثا، وكذا التشريعات الأخرى.
ونظاما الإعسار والإفلاس من ضمن ما أخذت هذه التشريعات من الفقه الإسلامي. ونظام الإفلاس قننته كافة التشريعات في العالم، وذلك سواء بعدم التفريق بينه وبين نظام الإعسار، وذلك مثل ما فعلت تقنينات كل من هولندا، وألمانيا، وإنجلترا، والسويد، والنرويج، والدانمارك. حيث تخضع هذه التقنينات المدين المعسر التاجر وغير التاجر لنظام واحد هو الإفلاس، أو بالتفريق بينه وبين نظام الإعسار، وقد نهج هذا النهج التقنين الإسباني، وبعض التقنينات اللاتينية التي سارت على منواله.
 أما التشريعات العربية، فلقد نظم بعضها الإعسار، مثل التقنين المصري الذي تداركه في تشريعه الحديث تلافيا للقصور الذي كان يتسم به التشريع القديم، وكذلك نظمه التشريع العراقي، والتشريع السوري، بينما التشريعات العربية الأخرى فلقد غفلت عن تناوله ضمن تقنيناتها، ومن بين التشريعات العربية التي سكتت عن موضوع الإعسار التشريع المغربي، سواء في قانون الالتزامات والعقود أو في القانون التجاري.
 وكان هذا السكوت ناتجا عن كون التشريع المغربي مأخوذا من التشريع الفرنسي كما هو معروف. وبما أن التشريع الفرنسي لم يتناول بالتنظيم موضوع الإعسار، فإن التشريع المغربي لم يتناوله هو أيضا.
وينقسم هذا إلى فصلين:
 الفصل الأول: الإعسار في القانون المدني الحديث.
الفصل الثاني: الإعسار في الفقه الإسلامي.
 الفصل الأول
الإعسار في القانون المدين الحديث
سبق القول أن التشريعات العربية التي تناولت نظام الإعسار هي التشريعات: المصرية، والسورية، والعراقية. أما غيرها من التشريعات العربية فلم تتناوله. وقد يكون هناك بعض التدارك لموضوع الإعسار في السنوات القليلة الأخيرة من طرف هذه التشريعات التي كانت قد سهت عنه، إلا أن هذا التدارك لم يتم الاطلاع عليه لسبب أو آخر.
أما التشريع المغربي فلم يزل مقتصرا على تنظيم الإفلاس فقط، باستثناء ذكر الإعسار في عبارات متفرقة في قانون الالتزامات والعقود. مثال ذلك ما ورد في المادة 139 من هذا القانون بخصوص سقوط أجل الديون المؤجلة إذا أشهر إفلاس المدين. ويرى الدكتور الكزبري تطبيق هذه المادة على الإعسار أيضا.
 وورد ذكر المعسر كذلك في التضامن بين المدينين في المادة 179 إذا كان أحدهما معسرا. لذا فإن هذا الموضوع يتناول الإعسار في القانون المصري والقانون العراقي والقانون السوري. كما هو منظم في هذه القوانين الحديثة. وسينقسم هذا الفصل إلى خمسة فروع.
 الفرع الأول: ما هو الإعسار، وهل هناك فرق بينه وبين الإفلاس؟
هذا ما سيتناوله هذا الفرع في مبحثين:
المبحث الأول: التعريف بالإعسار.
ورد في محيط المحيط:"أعسر الرجل: ضاق وافتقر، وعسر الغريم يعسر ويعسره عسرا وعسرا، طلب منه الدين"، هذا من الناحية اللغوية. أما تعريف الإعسار من الناحية القانونية، فإن الدكتور السنهوري في القسم الذي خصصه للإعسار لم يورد أي تعريف للإعسار رغم المبدأ الفقهي القائل:" بأن وضع التعاريف هو من صنع الفقه وليس من صنع التشريع". وكذلك الدكتور حسن غانم فقد سكت هو أيضا عن تعريف الإعسار رغم التطرق إليه في كتابه "النظرية العامة للالتزام".
 لكن، بقراءة المادة 249 من التقنين المدني المصري التي ورد فيها:" يجوز أن يشهر إعسار المدين إذا كانت أمواله لا تكفي لوفاء ديونه المستحقة الأداء"، وبقراءة الفقرة الأولى من المادة 197 من القانون التجاري المغربي التي ورد فيها بأن:" كل تاجر توقف عن دفع ديونه يعتبر في حالة الإفلاس" ويستنتج أن الإعسار هو عدم كفاية أموال المدين غير التاجر لأداء ديونه المستحقة الأداء. فالشخص غير التاجر إذا توقف عن دفع ديونه المستحقة، فإنه يكون في حالة الإعسار وليس في حالة الإفلاس، والإعسار في القانون المدني المصري نوعان: إعسار فعلي، وإعسار قانوني، وسيرد ذلك بالتفصيل.
 المبحث الثاني: المقارنة بين الإعسار والإفلاس.
الإعسار والإفلاس كلاهما يعنيان العجز عن الوفاء بالديون، إنما عجز الشخص التاجر يخضع لنظام الإفلاس التجاري، أما عجز الشخص غير التاجر عن الوفاء بديونه فيخضع لنظام الإعسار المدني.
وبين النظامين تشابه في بعض الأمور واختلاف في بعضهما الآخر.
 أولا: الإعسار المدني والإفلاس يتشابهان في الآتي:
1-لا يجوز لأحد الدائنين أن يستأثر وحده بمال المدين دون غيره من الدائنين العاديين، أما الدائنون الممتازون والمرتهنون فيختلف فيهم الإفلاس عن الإعسار، ذلك أن القانون التجاري المغربي منحهم امتيازا على أموال المدين المفلس، ونفس الشيء بالنسبة لأصحاب حقوق الامتياز الخاصة على منقول أو عقار، فلهؤلاء جميعا حق الأفضلية في الاستئثار بأموال المدين المفلس المثقلة بالامتياز أو الرهن قبل غيرهم من الدائنين العاديين وإذا لم تكف هذه الأموال فإن القدر الباقي من ديونهم يدخلون به ضمن أعضاء الاتحاد بقدر الأموال الباقية في ذمة المدين المفلس، وهذا بصريح المادة 301 من القانون التجاري المغربي.
 أما الدائنون العادون فيتقاسمون مال المدين بالمحاصة سواء في نظام الإعسار أو في نظام الإفلاس. وقد نصت المادة 256 في فقرتها الثانية على أنه:" لا يجوز أن يحتج على الدائنين الذين يكون لهم حقوق سابقة على تسجيل صحيفة دعوى الإعسار بأي اختصاص يقع على عقارات المدين بعد هذا التسجيل".
 2-تغل يد المدين المفلس أو المعسر عن التصرف في ماله. فالمادة 203 من القانون التجاري المغربي نصت على "... الحكم بإشهار الإفلاس يوجب بمجرد صدوره على يد المفلس من تاريخ هذا الحكم عن إدارة جميع أمواله...".
وتنص المادة 257 من القانون المدني المصري على:" متى سجلت صحيفة دعوى الإعسار فلا يسري في حق الدائنين أي تصرف للمدين يكون من شأنه أن ينقص من حقوقه أو يزيد في التزاماته، كما لا يسري في حقهم أي وفاء يقوم به المدين".
 3-وهناك حالة يتفق فيها الإعسار المدني والإفلاس حسب القانون التجاري المغربي. وهذه الحالة هي طرق شهر الإعسار والإفلاس وهي كما يلي:
أ ـ شهر الإعسار أو الإفلاس من طرف المدين نفسه. فلقد نصت المادة 250 من القانون المدني المصري على ما يأتي:" يكون شهر الإعسار بحكم تصدره المحكمة الابتدائية التي يتبعها موطن المدين بناء على طلب المدين نفسه أو طلب أحد دائنيه...".
ونصت المادة 200 من القانون التجاري المغربي على :" يقع شهر إعسار الإفلاس بواسطة حكم من المحكمة الابتدائية بصدر إما بناء على بيان المفلس وإما بناء على طلب واحد أو أكثر من الدائنين...".
وحتى من حيث الصيغة تكاد تكون المادتان 200 من القانون التجاري المغربي والمادة 250 من القانون المدني المصري متوافقتين لولا ذكر عبارة المفلس في المادة 200 تجاري مغربي فالمدين المعسر في القانون المدني المصري يستطيع أن يطلب من المحكمة الابتدائية أن تشهر إعساره.
 والمدين المفلس في القانون التجاري المغربي يستطيع هو أيضا أن يطلب من المحكمة الابتدائية شهر إفلاسه.
ب ـ شهر الإعسار أو الإفلاس من طرف أحد الدائنين:" بالرجوع إلى المادة 250 من القانون المدني المصري نجد أن لأحد الدائنين الحق بأن يطلب شهر إعسار مدينه. وكذلك بالرجوع إلى المادة 200 من القانون التجاري المغربي نجد أيضا أن لأحد دائني المفلس أو دائنيه الكثر الحق في طلب شهر إفلاس من المدين.
هذه هي النقط الرئيسية التي يتفق فيها الإعسار والإفلاس (وخاصة الإفلاس في القانون التجاري المغربي).
ثانيا: ويختلف الإعسار المدني والإفلاس التجاري في الآتي:
 1-تصفية أموال المدين: ففي الإفلاس التجاري تجرى تصفية أموال المدين تصفية جماعية، إ يعين وكيل الدائنين أو "السنديك" للقيام بهذه المهمة ممثلا بعمله هذا اتحاد الدائنين. وهذا الاتحاد يتشكل بقوة القانون (المادة 281 من القانون التجاري المغربي).
 أما في الإعسار المدني فتتم تصفية أموال المدين المعسر عن طريق إجراءات فردية، بحيث يتقدم كل دائن أصالة عن نفسه فقط ـ ولا يمثل بقية الدائنين الآخرين ـ بطلب شهر الإعسار.
ولقد نصت المادة 256 من القانون المدني المصري على الآتي: (فقرة أولى) "لا يحول شهر الإعسار دون اتخاذ الدائنين لإجراءات فردية ضد المدين...".
 2-شهر الإفلاس عن طريق المحكمة بالعودة إلى المادة 200 من القانون التجاري المغربي والمادة 196 من القانون التجاري المصري يظهر اختلاف آخر بين الإفلاس التجاري والإعسار المدني.
وهذا الاختلاف هو في جواز شهر الإفلاس التاجر عن طريق المحكمة دون أن يطلب ذلك المدين المفلس ذاته أو أحد الدائنين أو أكثر.
 فلقد نصت المادة 200 من القانون التجاري المغربي على الآتي:" يقع إشهار الإفلاس بواسطة حكم من المحكمة الابتدائية يصدر إما بناء على بيان المفلس وإما بناء على طلب واحد أو أكثر من الدائنين وإما تلقائيا، وهذا الحكم قابل للتنفيذ المعجل".
 ونصت المادة 196 من القانون التجاري المصري على :" الحكم بإشهار الإفلاس يجوز أن يصدر بناء على طلب نفس المفلس، أو طلب مداينيه أو الوكيل أو تصدره المحكمة من تلقاء نفسها".
أما في الإعسار لا يجوز للمحكمة ولا للنيابة العامة أن تطالب به. ولقد نصت المادة 250 من القانون المدني المصري على الآتي:" يكون شهر الإعسار بحكم تصدره المحكمة الابتدائية التي يتبعها موطن المدين بناء على طلب المدين نفسه أو طلب أحد دائنيه. وتنظر الدعوى على وجه السرعة"، ويتضح من نص هذه المادة عدم ورود ذكر المحكمة كما ورد في النصين السابقين بخصوص الإفلاس. ولم تكلف المحكمة بالإعسار التلقائي.
 وفي القانون العراقي نصت المادة 270 على ما يأتي:
"... إذا خاف غرماؤه ضياع ماله أو خافوا أن يخفيه أو أن يجعله باسم غيره وكان خوفهم مبنيا على أسباب معقولة وراجعوا المحكمة في حجره عن التصرف في ماله أو إقراره بدين لآخر، حجرته المحكمة".
ويلاحظ هنا أيضا عدم تكليف المحكمة بالحجر التلقائي كما في الإفلاس والذي يثير الانتباه من المادة 200 من القانون التجاري المغربي الخاصة بالإفلاس والمادة 250 من القانون المصري الخاصة بالإعسار هو وجود الصفة الاستعجالية في الحكم الذي تصدره المحكمة، وهذه نقطة فرعية يشترك فيها الإعسار مع الإفلاس.
 ولم يكتف المشرع المصري في المادة 250 من القانون المدني بعدم منح السلطة للمحكمة الابتدائية بإشهار إعسار المدين، بل أوجب عليها في المادة 251 عدم إشهار المدين حتى ولو طلبه المدين نفسه أو أحد دائنيه إلا بعد أن تتقصى ظروف المدين المعسر. ويتضح هذا الوجوب في عبارة "على المحكمة". ونص المادة 251 هذه ورد كما يلي:" على المحكمة في كل حال قبل أن تشهر إعسار المدين أن تراعي في تقديرها جميع الظروف التي أحاطت به سواء كانت هذه الظروف عامة أم خاصة، فتنظر إلى موارده المستقبلية ومقدرته الشخصية...".
هذا هو ملخص المقارنة بين الإعسار المدني والإفلاس التجاري.
 الفرع الثاني: أطراف الدعوى في الإعسار.
إن شهر الإعسار يتطلب أن يكون هناك من يطالب به، وهذا شخص المدعي بالإعسار، ويتطلب أيضا أن يكون هناك شخص معسر مطالب بالوفاء بديونه، وهذا هو الشخص المدعى عليه. وذلك ما يتناوله هذا الفرع في مبحثين:
الأول: المدعى عليه في دعوى الإعسار، والثاني: المدعى في دعوى الإعسار.
المبحث الأول: المدعى عليه في دعوى الإعسار.
 لا جرم أن المدعى عليه في دعوى الإعسار هو المدين المعسر، لأنه هو المطالب قضاء بأداء ديونه بعد عجزه عن أدائها رضاء. ويعتبر المدين المعسر عاجزا عن الوفاء بديونه، فإن كانت هذه الديون المستحقة الأداء لا تكفي أمواله المتوفرة لديه للوفاء بها. ويقصد بالديون المطالب بها المدين، الديون الحالة والمستحقة الأداء وحدها. فإن كانت أمواله كافية للوفاء بهذه الديون الحالة فلا يمكن شهر إعساره. أما الديون المؤجلة فلا تكون الداعي إلى شهر إعسار المدين العاجز عن الوفاء بها، لأن هذه الديون غير حالة، والديون غير الحالة ليست ديونا مستحقة الأداء.
والمدين المدعى عليه في هذه الحالة، هو المدين المعسر إعسارا قانونيا. أما المدين المعسر إعسارا فعليا فلا يشهر إعساره. (وسيرد نوعا الإعسار الفعلي والقانوني).
 والديون المؤجلة والديون المعلقة على شرط فاسخ، والديون غير المقدرة في القانون المدني المصري تعتبر ضمن الإعسار الفعلي.
ولا يوجد هذا التحديد في نظام الإفلاس لا في القانون التجاري المصري ولا في القانون التجاري المغربي. ففي نظام الإفلاس يعتبر التاجر مفلسا عندما يتوقف عن دفع ديونه وعندئذ يشهر إفلاسه.
 ونجد هذا صريحا في الفقرة الأولى من المادة 197 من القانون التجاري المغربي حيث يقول:" كل تاجر توقف عن دفع ديونه يعتبر في حالة الإفلاس"، وتجدر الإشارة في آخر هذا المبحث، إلى أن عبء إثبات الإعسار يقع على من يطلب شهر إعسار المدين، وكل الطرق صالحة لإثبات الإعسار الذي يعتبر واقعة مادية يجوز إثباتها بكافة وسائل الإثبات.
 المبحث الثاني: المدعى في دعوى الإعسار.
من يدعي بأن المدين عاجز عن الوفاء بديونه المستحقة الأداء؟ في غالب الأحيان يكون الدائن هو الذي يدعي عجز المدين. لكن قد يدعي المدين نفسه هذا العجز، ويدعي على نفسه الإعسار لأسباب معينة، وهذا ما سيتناوله هذا المبحث.
 أولا: المدعي هو الدائن: المدعي في دعوى الإعسار يكون غالبا هو أحد دائني المدين نظرا للآتي:
-الحرص على استيفاء دينه قبل أن يعمد المدين إلى تبديد أمواله أو التصرف فيها أو إجراء تصرفات صورية قصد إخفاء هذه الأموال التي تعتبر الضمان الوحيد لتسديد الديون المستحقة عليه.
وبلجوء الدائن إلى تقييد دعوى الإعسار ضد المدين، فإنه يستطيع أن يبطل جميع التصرفات التي يكون قد لجأ إليها المدين للتملص من ديون غرمائه.
 -وبما أن للمدين دائنين آخرين قد يتمكنون من اكتساب حق الأفضلية على عقارات المدين قصد استفاء ديونهم منها ـ إذا لم يبادر الدائن إلى المطالبة بشهر إعسار المدين ـ فإنه يلجأ إلى المطالبة بشهر إعسار مدينه قبل أن يتمكن هؤلاء الدائنون الآخرون من اكتساب حق الأفضلية على عقارات المعسر.
 -وقد يكون للدائن على مدينه المعسر حق مؤجل لم يحن أوان المطالبة به، ولكن لديه من الأسباب ما يدعوه للشك في ملاءة المدين عند حلول أجل حقه، فيسرع إلى المطالبة بشهر إعساره. لأنه إذا انتظر حلول أجل حقه فلن تكون للمدين أموال يفي بها دينه، ويجب شهر إعساره لا للمطالبة بديون مؤجلة بل بديون حالة.
 وفي هذه الحالة، إذا طلب الدائن شهر إعسار مدينه، فإن الديون التي كانت مؤجلة، تسقط آجالها وتصبح ديونا حالة.
والمستند لسقوط آجال الديون المؤجلة عند شهر الإعسار هو المادة 255 من القانون المدني المصري التي نصت على:" يترتب على الحكم بشهر الإعسار أن يحل كل ما في ذمة المدين من ديون مؤجلة وسيرد ذكر لهذا في الفرع الرابع، المبحث الثاني".
 هذه هي بعض الأسباب التي تحدو بالدائن إلى تقييد دعوى شهر الإعسار. وكما سبق القول فإن عبء الإثبات يقع على الدائن الذي طالب بإشهار إعسار المدين، وفقا للمادة 239 من التقنين المدني المصري الذي ورد فيها:" إذا ادعى الدائن إعسار المدين، فليس عليه إلا أن يثبت مقدار ما في ذمته من ديون. وعلى المدين نفسه أن يثبت أنه له ما لا يساوي قيمة الديون أو يزيد عليها".
 وقد سبق القول أيضا إن القانون المصري لم يخول المحكمة حق شهر الإعسار من تلقاء نفسها بل أوجب عليها حتى ف حالة طلب المدين نفسه أو أحد الدائنين شهر الإعسار، أن يراعي ظروف المدين وعلى هذا، فإنه لا يكفي أن يثبت الدائن أن أموال المدين لا تكفي لتسديد ديونه المستحقة الأداء، كذلك لا يكفي أن يثبت المدين نفسه "أن له ما لا يساوي قيمة الديون أو يزيد عليها" (المادة 139) بل يجب أن تكون للمحكمة قناعة بضرورة شهر إعسار المدين.
 فلقد نصت المادة 251 من القانون المدني المصري على ضرورة توفر هذه القناعة كما يلي:
"على المحكمة في كل حالة قبل أن تشهر إعسار المدين أن تراعي في تقديرها جميع الظروف التي أحاطت به سواء أكانت هذه الظروف عامة أم خاصة، فتنظر إلى موارده المستقبلية ومقدرته الشخصية ومسؤوليته عن الأسباب التي أدت إلى إعساره، ومصالح دائنه المشروعة، وكل ظرف آخر من شأن أن يؤثر في حالته المالية".
 ومن الظروف العامة التي يتعين على المحكمة مراعاتها تلك التي مثل لها الدكتور السنهوري "الأزمة الاقتصادية الطاحنة سبقت إعسار كثير من الناس، أو حرب نشبت، أو ثورة اندلعت، أو فيضان استثنائي، أو آفة زراعية انتشرت...".
 ومن أمثلة الظروف الخاصة كما ذكرها السنهوري، مسؤولية المدين عن أسباب شهر إعساره، أو سوء حظه أو تبذيره أو رعونته وعدم خبرته، أو ضعف إدراكه إلخ.
ولا يوجد مثل هذه السلطة التقديرية في نظام الإفلاس، وخاصة الإفلاس في القانون التجاري المغربي.
 ثانيا: المدعى هو المدين نفسه: إن الدائن له من الأسباب السالفة الذكر ما يحمله على ادعاء إفلاس مدينه. وهذا شيء طبيعي، لأن توافر كل ما يحمله على الخوف على ضياع حقوقه، يجعله يطالب بشهر إعسار مدينه بادعاء في شكل طلب يقدمه إلى المحكمة.
 لكن ما الذي يدفع المدين إلى أن يكون هو المدعي ضد نفسه؟
بالرجوع إلى المادة 250 من القانون المدني المصري، يلاحظ أن للمدين نفسه أن يطلب شهر إعساره، فيضحي بطلبه، هذا هو المدعي ضد نفسه. ولا يمكن للمدين أن يقيم الدعوى ضد نفسه إلا عندما يتوخى مصلحة له في هذه الدعوى. وهذا الادعاء ضد نفسه لا يتسم بأية سمة إجبارية كما هو الشأن في الإفلاس إنما يفعل ذلك ابتغاء مصلحة يرمي إليها، فما هي هذه المصلحة؟ تتمثل هذه المصلحة في الآتي:
 1-إن المدين هو أدرى الناس بأحواله المالية، فعندما يقتنع أن أمواله ليست كافية للوفاء بديونه المستحقة، فإن خير طريق له للحصول على تجديد آجال لتسديد ديونه هو طلب شهر إعساره.
2-وقد يرى أنه إذا لم يطلب شهر إعساره بنفسه فإن الدائنين سيعملون على الحجز على إيراداته وفقا للمادة 259 من القانون المدني، ولن تبقى له أموال للنفقة على حاجاته المعيشية فيلجأ إلى طلب شهر إعساره حتى يحق له تقديم عريضة إلى رئيس المحكمة الابتدائية المختصة بشهر الإعسار، يطلب فيها تخصيص نفقة يتقاضاها من إيراداته المحجوزة.
ويتبادر إلى الذهن سؤال: إذا لم يطلب المدين شهر إعساره بنفسه فهل لا يحق له في هذه الحالة تقديم عريضة يطلب فيها نفقة من إيراداته المحجوزة إلى رئيس المحكمة الابتدائية المختصة بشهر الإعسار؟
 إن المادة 259 من القانون المدني المصري والمادة 272 من القانون المدني العراقي لم تذكرا شيئا في مثل هذه الحالة. فالمادة 259 من القانون المدني المصري ورد فيها:" إذا أوقع الدائنون الحجز على إيرادات المدين كان لرئيس المحكمة المختصة بشهر الإعسار أن يقرر للمدين بناء على عريضة يقدمها، نفقة يتقاضاها من إيراداته المحجوزة".
 إلا أن الدكتور السنهوري، أورد:" فهو إذا لم يكن قد شهر إعساره جاز لدائنيه أن يحجزوا على جميع أمواله، أما إذا أشهر إعسار المدين فبالإضافة إلى الأموال التي لا يجوز الحجز عليها وتبقى غير قابلة للحجز بعد شهر الإعسار، يستطيع المدين إذا كان الدائنون قد أوقعوا الحجز على إيراداته فبقي دون مورد يعيش منه، أن يقدم عريضة لرئيس المحكمة المختصة بشهر الإعسار يطلب له نفقة يتقاضاها من إيراداته المحجوزة...".
 ويفهم من هذا، أن عدم شهر الإعسار بناء على طلب المدين نفسه يحرمه من حق طل النفقة من إيراداته المحجوزة، لكن رغم ما ذكره الدكتور السنهوري بهذا الخصوص، فإن هذه الحالة تحتاج إلى بعض الإيضاح، الشيء الذي لم يدره المؤلف المذكور.
 وهنا في الإعسار يعتبر طلب شهر الإعسار بادعاء من المدين نفسه لا يتسم ـ كما سبق القول ـ بأية سمة إجبارية كما هو الأمر في الإفلاس، بل يعتبر طلب المدين شهر إعساره مسألة إجبارية. بينما في الإفلاس يعتبر طلب المفلس شهر إفلاسه مسألة إلزامية. فإذا لم يبادر إلى طلب شهر إفلاسه بمجرد شعوره بعدم قدرته على الوفاء بديونه، يعتبر ذلك جريمة التفالس البسيط ويعرض صاحبه للعقوبة الجنائية الوارد عليها في النص في المادة 557 من القانون الجنائي المغربي وهي الحبس من ثلاثة أشهر إلى ثلاث سنوات وجريمة التفالس البسيط هذه نصت عليها الفقرة الثالثة من المادة 558 من القانون الجنائي المغربي التي  تورد فيها:" يعد مرتكبا للتفالس البسيط ويعاقب بالعقوبات المقررة في المادة السابقة التاجر المتوقف عن الدفع إذا ارتكب بسوء نية أحد الأفعال الآتية: (إذا امتنع عن التصريح في كتابة الضبط المختصة بتوقفه عن الدفع وإيداعه ميزانيته، وذلك في ظرف خمسة عشرة يوما الموالية ليوم التوقف عن الدفع).
 وهذا الإلزام لا مثيل له في الإعسار، لا بل حتى ولو طلب المدين من المحكمة شهر إعساره، فإن المحكمة المختصة ـ
كما سبق بيان ذلك ـ لا تشهر الإعسار إلا بعد أن تراعي في تقديرها جميع الظروف التي أحاطت بالمدين...
(المادة 251).
 طرق شهر الإعسار: إذا طلب أحد الدائنين شهر إعسار مدينه المعسر أو طلب المدين نفسه شهر إعساره فإن هذا الطلب يقدم إلى المحكمة. وشهر الإعسار الذي تصدره هذه المحكمة يكون في شكل حكم.
فما هي المحكمة التي تصدر هذا الحكم؟ وهل هذا الحكم منشئ أم كاشف؟
المبحث الأول: المحكمة المخولة شهر الإعسار.
سبق إيراد نص المادة 250 من القانون المدني المصري وهو: "يكون شهر الإعسار بحكم تصدره المحكمة الابتدائية التي يتبعها موطن المدين بناء على طلب المدين نفسه، أو طلب أحد دائنيه، وتنظر الدعوى على وجه السرعة".
وورد في المادة 271 من القانون العراقي ما يلي:" يكون الحجز بحكم تصدره المحكمة الابتدائية بناء على طلب أحد الدائنين".
ويتبين من نص هاتين المادتين، وكذلك مما ورد في المادتين 250 و251 من القانون المدني السوري أن المحكمة المختصة بشهر الإعسار هي المحكمة الابتدائية التي يوجد فيها موطن المدعى عليه، وهو موطن المدين المعسر.
وطلب شهر الإعسار من الأمور التي منحها القانون الصفة الاستعجالية.
وحتى في الإفلاس، يوجد هذا الاختصاص النوعي والمحلي في شهر الإفلاس، وكذلك الصفة الاستعجالية التي منحها القانون لمحكمة شهر الإعسار، توجد كذلك في محكمة شهر الإفلاس في المادة 200 من القانون التجاري المغربي. ولقد نصت المادة التي سبق إيرادها ـ في اختلاف الإعسار عن الإفلاس ـ على "... وهذا الحكم قابل للتنفيذ المعجل".
والحكم الذي تصدره المحكمة الابتدائية بشهر الإعسار يقبل المعارضة في حالة صدوره غيابيا خلال مدة ثمانية أيام من تاريخ تبليغ الحكم للمدين.
ومدة ثمانية أيام هذه، الممنوحة للمعسكر كي يتعرض على الحكم الصادر غيابيا بشهر إعساره وفق المادة 252 من القانون المدني المصري، هي نفس المدة الممنوحة للمفلس وفق المادة 390 من القانون المصري أيضا والتي ورد فيها "أن الحكم بشهر الإفلاس تجوز المعارضة فيه من المفلس في ظرف ثمانية أيام...".
وهي نفس المدة كذلك في القانون التجاري المغربي، فلقد ورد في المادة 328 ما يلي:
"تكون مدة الأجل للتعرض على جميع الأحكام الصادرة بشأن الإفلاس ثمانية أيام ابتداء من تاريخ صدورها". أما الحكم الصادر بشهر الإعسار، أو رفض شهره فيقبل الاستئناف خلال مدة خمسة عشرة يوما من تاريخ إعلان الحكم للمدين. ولقد نصت على هذه المدة المادة 252 من القانون المدني المصري التي ورد فيها:" مدة المعارضة في الأحكام الصادرة في شأن الإعسار ثمانية أيام، ومدة استئنافها خمسة عشرة يوما، تبدأ من تاريخ إعلان تلك الأحكام"، وأجل الخمسة عشرة يوما الممنوح للمعسر ليستأنف الحكم هو الأجل ذاته الممنوح للمفلس ليستأنف الحكم الصادر ضده في المادة 300 من القانون التجاري المغربي.
المبحث الثاني: هل الحكم بشهر الإعسار منشئ أم كاشف؟
إذا صدر الحكم من المحكمة الابتدائية التي يوجد بها موطن المدين المعسر، فهل يعتبر هذا الحكم منشئا لحالة قانونية جديدة لم تكن موجودة قبل شهره، أم يعتبر كاشفا لهذه الحالة التي كانت موجودة قبل الحكم بشهر الإعسار؟
إن الحكم الصادر بشهر الإعسار في القانون المدني المصري منشئ لا كاشف. فهو منشئ لأنه نقل المدين إلى حالة إعسار يرتب عليها القانون نتائج هامة.
فقبل الحكم بشهر الإعسار لم يكن المدين خاضعا لأية إجراءات قانونية بخصوص أمواله وكيفية التصرف فيها، ولقد سبق القول إن القانون المدني المصري يعرف نوعين من الإعسار: الإعسار الفعلي والإعسار القانوني.
فالإعسار الفعلي هو حالة "واقعية" ليس إلا، وبمقتضاها تكون ديون المدين المستحقة الأداء وغير المستحقة الأداء تفوق ما عنده من أموال.
بينما الإعسار القانوني يعتبر حالة قانونية عندما تكون ديون المدين المعسر المستحقة الأداء تفوق أمواله. وفي هذه الحالة يحتم القانون شهرها عن طريق حكم قضائي. ولقد ساق الدكتور السنهوري مثالا للإعسار الفعلي والإعسار القانوني فكتب:" فلو كانت أموال المدين تقدر بعشره آلاف، وكانت ديونه الحالة ثمانية آلاف، وديونه المؤجلة أربعة آلاف، فهذا المدين معسرا إعسارا فعليا، لأن مجموع ديونه الحالة والمؤجلة يربو على مجموع أمواله وهو غير معسر إعسارا قانونيا، لأن ديونه الحالة لا تزيد على ما عنده من مال. ولو كانت ديونه الحالة إثني عشرا ألفا بدلا من ثمانية آلاف لكان المدين معسرا أيضا إعسارا قانونيا، لأن ديونه الحالة أصبحت تربو على أمواله"، ويوجد لهذا نظير له في الإعسار في الفقه الإسلامي، مع تغيير في العدد، ولا جرم أن الفقه الحديث قد قاس على الفقه الإسلامي، وبما أن حكم شهر الإعسار منشئ فإن له حجية على الكافة لا على الدائنين الذين طلبوا شهر إعسار المدين فقط، بل على جميع الدائنين وعلى الغير:
والحكم بشهر الإعسار المنشئ ينتج عنه ما يلي:
1-لكل من له مصلحة أن يطعن في الحكم بشهر الإعسار عن طريق اعتراض الخارج عن الخصومة، بشرط إثبات الغش في الدعوى المرفوعة بشهر الإعسار بالتواطؤ بين المدعي والمدعى عليه.
2-ألزم القانون شهر هذا الحكم بمختلف الوسائل التي تكفل العلم به على نطاق واسع ممن لهم مصلحة في العلم به.
أما بخصوص الإفلاس فقد وقع الخلاف عما إذا كان الحكم بشهره منشئ أم كاشفا. إلا أن الرأي الفقهي الصائب قد اعتبر أن الحكم بشهر الإفلاس منشئ لحالة قانونية. وقد أخذ القضاء المغربي بهذا الرأي.
الفرع الرابع: آثار شهر الإعسار.
بعد شهر إعسار المدين تترتب آثار قانونية، وهذه الآثار منها ما يتعلق بالمدين، ومنها ما يتعلق بالدائن، ولذا سيقسم هذا الفرع إلى مبحثين:
 المبحث الأول: آثار الإعسار بالنسبة للمدين.
تتلخص هذه الآثار فيما يلي:
أولا: بمجرد تسجيل دعوى الإعسار فإن كل تصرف يجريه المدين لا يسري في حق دائنه، سواء كان هذا التصرف ينقص في حقوقه أو يزيد في التزاماته (المادة 257 من القانون المدني المصري).
ثانيا: يمكن للمدين أن يتصرف في ماله ولو رغم إرادة دائنيه، لكن هذا التصرف مقرون بشرطين:
أن يكون البيع بثمن المثل، وإلا فإن هذا البيع لا يكون ساريا في حق الدائنين.
إيداع ثمن المثل في خزانة المحكمة باسم الدائنين، وذلك كيما يوزع عليهم حسب طريقة التوزيع القانونية، (المادة 258 من القانون المدني المصري)، ونفس هذين الشرطين نصت عليهما المادة 277 من القانون المدني العراقي التي ورد فيها:
"يجوز للمدين بإذن من المحكمة أن يتصرف في ماله بغير رضاء الدائنين، على أن يكون بثمن المثل، وأن يقوم المشتري بإيداع الثمن بصندوق المحكمة ليستوفي الدائنون منه حقوقهم".
إلا أن الفارق بين المادة 258 من القانون المصري والمادة 277 من القانون العراقي هو أن المادة 277 تجيز التصرف في ماله بإذن من المحكمة الشيء الذي لم تتضمنه المادة 258 وعلى أية حال فإن جواز بيع المدين ماله وفق هذين الشرطين السالفي الذكر هو استثناء نصت عليه المادتان المصرية والعراقية المذكورتان أعلاه.
ثالثا: تخصيص نفقة للمدين: إن إيقاع الحجز على أموال المدين المعسر يجعله محروما مما يصرف به على شؤونه وشؤون أهله، لذا، فإنه يحق له أن يتقدم إلى رئيس المحكمة الابتدائية المختصة يشهر إعساره. بعريضة يطلب فيها نفقة يتقاضها من إيراداته المحجوزة، ولقد نصت على تخصيص نفقة للمدين المعسر المادتان 259 من القانون المدني المصري و272 من القانون المدني العراقي.
وإذا كانت النفقة غير كافية، فإنه يجوز للمدين أن يتظلم لدى رئيس المحكمة الابتدائية ليطالب بالزيادة فيها، كما يجوز للدائنين أن يتظلموا لدى نفس المرجع إذا كانت هذه النفقة مبالغا فيها، ومدة التظلم حددتها المادة 259 من القانون المدني المصري بثلاثة أيام من تاريخ صدور أمر التقدير.
رابعا: معاقبة المدين المعسر بعقوبة التبديد. نصت المادة 260 من القانون المدني المصري على حالتين يعاقب فيهما المدين بعقوبة التبديد.
الحالة الأولى: إذا رفعت عليه دعوى بدين فتعمد الإعسار بقصد الإضرار بدائنيه، وانتهت الدعوى بصدور حكم عليه بالدين بشهر إعساره.
الحالة الثانية: إذا كان الحكم بشهر إعساره أخفى بعض أمواله ليحول دون التنفيذ عليها، أو اصطنع ديونا صورية أو مبالغا فيها، وذلك كله بقصد الإضرار بدائنيه.
هذه هي خلاصة ومجمل للآثار شهر الإعسار التي تطبق على المدين المعسر في القانون المصري والقانون السوري، والقانون العراقي.
وتوجد بعض هذه الآثار أيضا في آثار الإفلاس على المدين وفق القانون التجاري المغربي، ومنها:
أولا: بمقتضى المادة 206 من القانون التجاري المغربي، تعتبر باطلة الأثر بالنسبة للدائنين الأعمال الآتية: إذا صدرت عن المدين بعد الوقت الذي عينته المحكمة على أنه وقت التوقف عن دفع ديونه أو داخل الأيام العشرة التي قبله...".
كل عقد تبرع بنقل ملكية عقار أو منقول...
كل وفاء دين لم يحل أجله بنقود أو بحوالة أو بيع أو مقاصة أو بأية وسيلة أخرى...
كل رهن رسمي تعاقدي أو قضائي وكل رهن حيازي ينشأ على عقارات المدين أو على منقولاته لصيانة ديون سابقة على الوقت المذكور...
وهنا في الإفلاس يلاحظ عدم وجود الاستثناء الذي نصت عليه المادتان 258 من القانون المصري و277 من القانون المدني العراقي السابقتا الذكر.
ثانيا: تخصيص نفقة للمدين المفلس، فقد ورد في المادة 228 من القانون التجاري المغربي ما نصه:
"يجوز للمفلس أن يحصل من أموال تفليسته على ما يقوم بمعيشته هو وعائلته، ويعين القاضي المنتدب بناء على اقتراح وكلاء الدائنين القدر اللازم لهذا الغرض". ويبدو من هذه المادة أن المفلس تخصص له نفقة من أمواله التي وقع الحجز عليها دون عريضة يتقدم بها إلى المحكمة كما هو الشأن في الإعسار، ولم تذكر المادة كذلك ما إذا كان في وسع المدين أن يتظلم في حالة عدم كفاية هذه النفقة، أو ما إذا كان في وسع الدائنين أن يتظلموا في حالة المبالغة في تقديرها.
المبحث الثاني: آثار الإعسار بالنسبة للدائنين.
تتلخص آثار الإعسار بالنسبة للدائنين فيما يلي:
أولا: حلول "كل ما في ذمة المدين من ديون مؤجلة، ويخصم من هذه الديون مقدار الفائدة الاتفاقية أو القانونية عن المدة التي سقطت بسقوط الأجل..."، مع جواز الحكم "بناء على طلب المدين وفي مواجهة ذوي الشأن من دائنيه بإبقاء الأجل أو مده بالنسبة إلى الديون المؤجلة..."، المادة 255 من القانون المدني المصري، والمادة 273 من القانون المدني العراقي.
ثانيا: ضرورة اتخاذ الدائنين لإجراءات فردية ضد المدين" المادة 256 من القانون المدني المصري والمادة 257 من القانون المدني العراقي.
من هاتين المادتين، يتضح أن الإجراءات الجماعية لا يجوز اتخاذها ضد المدين المعسر، وهذه هي إحدى النقط التي يختلف فيها الإعسار عن الإفلاس التجاري، وقد سبقت الإشارة إليها في المقارنة بين الإعسار والإفلاس ولا توجد مثل هذه الآثار في الإفلاس في القانون التجاري، إلا فيما يتعلق بحلول الديون المؤجلة والتي ورد النص عليها في الفقرة الأولى من المادة 139 من قانون الالتزامات والعقود التي نصت على أن المدين لا يستفيد من الأجل عند شهر إفلاسه، والمادة 204 من القانون التجاري المغربي التي نصت على أنه:" يترتب على الحكم بإشهار الإفلاس أن يصير ما على المفلس من الديون التي لم يحل أجل دفعها مستحق الطلب حالا".
الفرع الخامس: انتهاء الإعسار.
إن الإعسار حالة طارئة على حياة المدين المعسر، فلابد أن تنتهي هذه الحالة فقد يتدبر المدين المال ليتمكن من تسديد ديونه، وقد تنتهي حكما بقوة القانون.
وبانتهاء حالة الإعسار تترتب عنه نتائج معينة، وعليه فإن هذا الفرع يتناول هذين الموضوعين في مبحثين:
المبحث الأول: طرق انتهاء حالة الإعسار.
إن انتهاء حالة الإعسار نصت عليه المواد 261 و262 من القانون المدني المصري و261 و262 من القانون المدني السوري، والمادة 278 من القانون المدني العراقي، فالمادة 261 من القانون المدني المصري تضمنت أن حالة الإعسار تنتهي بحكم قضائي صادر من المحكمة الابتدائية التي يقع فيها موطن المدين المعسر بأحد السببين:
السبب الأول: إذا ثبت يسار المدين، حيث أصبحت لديه أموال تفي جميع ديونه الحالة وقت شهر الإعسار والتي حلت بعد سقوط الأجل بسبب الإعسار.
وطرق حصول المدين على الأموال المتعددة: كان يحصل المدين على هبة، أو يستفيد من إبراء من بعض ديونه، والديون الباقية يستطيع أن يتغلب عليها، بما يتوفر لديه من مال.
السبب الثاني: إذا وفى المدين المعسر جميع ديونه الحالة وقت شهر الإعسار أو التي حلت بعد شهر الإعسار وذلك بانقضاء أجلها، بينما الدون التي سقطت آجالها بسبب شهر الإعسار، ولم تكن آجالها قد حلت عند شهر الإعسار فإنها لا تدخل في هذه الديون المطالب الوفاء بها حينا لكي ينتهي الإعسار، لأن هذه الديون تصبح بعد انتهاء حالة الإعسار غير حالة.
هذان هما السببان اللذان ينتهي بهما الإعسار بحكم قضائي لا بقوة القانون، والحكم القضائي الذي ينهي حالة الإعسار شأنه شأن الحكم الصادر بشهر الإعسار، هو حكم منشئ لا كاشف، ويقبل مثله مثل الحكم الصادر بشهر الإعسار الطعن بالطرق المعروفة في المواعيد العادية وذلك أمام المحكمة الابتدائية التي أصدرت الحكم بشهر الإعسار، وهي المحكمة التي يقع موطن المدين المعسر في دائرتها، أما إذا غير المدين موطنه فإن المحكمة المختصة بقبول الطعن هي المحكمة الابتدائية التي يقع فيها الموطن الجديد للمدين المعسر.
أما المادة 262، فلقد نصت على أن حالة الإعسار تنتهي قانونا في حالة واحدة، ألا وهي مرور "خمس سنوات على تاريخ التأشير بالحكم الصادر بشهر الإعسار".
فإذا انقضت خمس سنوات ولم يكمل فيها الدائنون تصفية أموال المدين فإن المعسر إياه لا يستطيع أن يبقى أكثر من هذه المدة محروما من التصرف في أمواله.
ولم تذكر المادة 262 من القانون المدني ما إذا كانت هذه المدة مدة إسقاط أم مدة تقادم، إلا أن المادة 264 ورد فيها:" انتهاء حالة الإعسار بحكم أو بقوة القانون لا يمنع الدائنين من الطعن في تصرفات المدين، ولا من التمسك باستعمال حقوقه وفقا للمادة 233 إلى 245"، والمواد التي أحالت عليها المادة 264 تنظم أحكام الدعوى البولصية والدعوى غير المباشرة، ويتبين من هذه أن انتهاء حالة الإعسار قانونا بمرور مدة خمس سنوات لا يجعل حقوق الدائنين تتقادم، بل يمكن لهم أن يلجئوا ـ بعد مرور خمس سنوات التي تنهي حالة شهر الإعسار ـ إلى استعمال الدعوى غير المباشرة والدعوى البولصية ضد المدين للحصول على حقوقهم، لأن المدين بعد انتهاء حالة الإعسار القانوني بحكم أو بقوة القانون، أصبح معسرا إعسارا فعليا، فيجوز للدائنين أن يباشروا ضده الدعوى البولصية أو الدعوى غير المباشرة وهي دعوى عدم نفاذ تصرفات المدين تجاه دائنيه.
هذا في التقنين المصري، ويشابهه التقنين السوري.
أما في التقنين العراقي فلقد أجملت المادة 278 انتهاء الإعسار في أربع حالات على الشكل التالي:
"ينتهي الحجر بحكم تصدره محكمة البداءة بناء على طلب كل ذي شأن في الحالات الآتية:
متى ثبت أن ديون المدين أصبحت لا تزيد على أمواله.
متى قبل الدائنون أو بعضهم إبراء المدين من بعض ديونه بحيث يصبح الباقي في ذمته، لا يزيد على ما عنده من مال.
متى قام المدين بوفاء ديونه التي حلت دون أن تكون لحجز أثر في حلولها، وفي هذه الحالة تعود آجال الديون التي حلت بالحجز إلى ما كانت عليه من قبل، بشرط أن يكون المدين قد وفى بجميع أقساطها التي حلت.
متى انقضت ثلاث سنوات من تاريخ صدور الحكم الصادر بالحجز".
ويبدو في مقارنة المادة 278 بالمادة 261 أن الحالتين الأولى والثانية في القانون العراقي قد أدمجهما القانون المصري في حالة واحدة، أما الحالة الثانية فلقد وردت في القانون المصري تحت الحالة الثانية، بينما الحالة الرابعة في المادة 278 من القانون العراقي قد خصص لها القانون المصري مادة مستقلة وهي المادة 262.
ويبدو من المقارنة أيضا بين التقنينين أن انتهاء الإعسار قانونا في القانون العراقي يكون بعد مرور ثلاث سنوات لا خمس الواردة في القانون المصري.
المبحث الثاني: النتائج المترتبة عن انتهاء الإعسار.
تتلخص النتائج المترتبة عن انتهاء حالة الإعسار في الآتي:
يحق للمدين أن يطالب "إعادة الديون التي كانت قد حلت بسبب شهر الإعسار، ولم يتم دفعها إلى آجالها السابقة بشرط أن يكون قد وفى ديونه التي حلت دون أن يكون لشهر الإعسار أثره في حلولها" المادة 263 من القانون المدني المصري).
يستطيع الدائنون بعد انتهاء شهر الإعسار سواء بحكم أو بقانون أن يطعنوا في تصرفات المدين عن طريق الدعوى غير المباشرة والدعوى البولصية (المادة 264 من القانون المدني المصري).
زوال آثار شهر الإعسار  بصفة عامة ومن هذه الآثار التي تزيل عودة حق المدين في التصرف بأمواله بعد أن كانت يده رفعت عن إدارتها بسبب شهر الإعسار وتكون تصرفاته نافذة بحث دائنيه، لكن يبقى مع ذلك للدائنين الحق في مباشرة الدعوى غير المباشرة والدعوى البولصية لحماية حقوقهم وقد سبق ذكر هذا الحق.
ومن هذه الآثار التي تزيل أيضا عدم تعرض المدين لعقوبة التبديد، بل يكون معرضا فقط لأحكام الدعوى الصورية والدعوى البولصية التي ترمي إلى عدم نفاذ تصرفات المعسر إزاء دائنيه.
وعودة حق المدين المعسر في التصرف في أمواله نصت عليها كذلك المادة 279 من القانون المدني العراقي إذ ورد فيها:" يكون للمدين الحق بمقتضى الحكم الصادر بانتهاء الحجز أن يحصل من دائرة الإجراء على قرار برفع الحجز الموقع على أمواله بسبب الحجز وهذا دون إخلال بما اتخذه كل دائن من الإجراءات على أموال المدين باسمه خاصة ولمصلحته وحده".
هذا هو مجمل أحكام تنظيم الإعسار في القوانين الحديثة العربية التي تطرقت لهذا الموضوع وهي ـ كما ذكر ـ القوانين المصرية والسورية والعراقية.
الفصل الثاني الإعسار في الفقه الإسلامي
إن الفقه الإسلامي افترى عليه من جاهلية بأنه فقه ديني بحث،  ولكنه في الحقيقة لم يذر مسألة من المسائل ولا قضية من القضايا إلا وعالجها بعد تقصيها تفصيلا دقيقا، وهو أحيانا كثيرة يفترض  وقائع  لم  تحدث ويضع لها حلولا. ولم يقتصر على مسائل وقضايا دينية فحسب، بل تناول  بالدرس  والتحليل  العميقين  هذه  المسائل والقضايا الدينية منها والدنيوية، وذلك في عهد ازدهار أمة العرب والمسلمين، إذ تفرغ العلماء  ونذروا  أنفسهم  للعلم  ولخدمة  العلم  ابتغاء مرضاة الله، لا حبا في المال والجاه، ولا تملقا وتزلفا للحاكم، متخذين أساسا لهم في هذا العلم القرآن والحديث. فما ورد في القرآن أو في الحديث أو فيهما معا كانت آراءهم مجمعة عليه. أما ما لم يرد فيهما فلقد  اختلفت  فيه  الآراء وكثرت الاجتهادات. وهذه الآراء والاجتهادات  استقطبها  أربعة  أئمة  لمذاهب  معروفة،  وهي: المذهب  المالكي،  والمذهب الحنفي، المذهب الشافعي والمذهب الحنبلي.
وعند انحطاط الأمة العربية والإسلامية ونهضت الأمم الأخرى  وخاصة الأمم الغربية توقف البحث العلمي ثم أهمل، فتولى الغرب دراسة الفقه الإسلامي وأخذ الكثير منه  لشرائعه  الدنيوية، ومازالت بصمات هذا الفقه واضحة بينه في القوانين الغربية كما هي مأخوذة من الفقه الإسلامي إما نصا وحرفا وإما  تحريرا. إلا أن العلوم الفقهية الإسلامية التي أخذوها وبوبوها ونظموها في شكل مواد وفصول مرتبة ترتيبا حديثا.
ولقد تطرق الفقه الإسلامي ـ ضمن الكل الذي تطرق له ـ لمسألة الإعسار، إلا أن المذاهب الأربعة اختلفت في أساليب معاملة المعسر، لا في الجوهر وه الإعسار ذاته، وقبل عرض ما ورد في كل مذهب، يلاحظ ما يلي:
أ ـ عدم تنظيم الاعسار التنظيم المعروف حديثا، فلا توجد في الفقه الإسلامي مواد تقننه، ولا توجد كذلك لا محاكم مختصة بشهره، ولا طرق للتظلم من شهره. والسبب ـ ولا شك في ذلك ـ أن الدولة العربية والإسلامية في ذلك الوقت لم تكن بالفصول والمواد المعروفة حديثا، ولم يكن هناك اختصاص في القضاء كما هو معروف الآن. فلا نيابة عامة، ولا محكمة ابتدائية، ولا محكمة استئناف، ولا طرق الطعن ولا دعوى غير مباشرة، الخ.
فالقاضي الذي كان يحكم يفصل باسم المذهب الذي ينتمي إليه أو المذهب الذي يرجحه.
ب ـ عدم مراعاة الفرق بين الاعسار والإفلاس: إذ توجد عبارة " المدين المفلس" أو عبارة " المفلس" أو عبارة "الدين" مجردة والسبب كما يبدو عدم التفرقة بين المدين التاجر، والمدين عير التاجر، فكل من عجز من أداء ديونه يعتب معسرا وبالتالي فهو مفلس ويقع تحت طائلة الحجر.
والآن كيف عامل كل مذهب من المذاهب الأربعة المدين المعسر؟ وما هي أوجه الاتفاق والاختلاف بين هذه المذاهب؟ هذا سيتناوله هذا الفصل في فرعين:
الفرع الأول
معاملة المدين المعسر في المذاهب الأربعة
إن المعسر يحجر عليه في كل مذهب بطريقة غير طريقة المذهب الآخر. وهذا ما سيتناوله هذا الفرع في أربعة مباحث.
المبحث الأول: المذهب المالكي.
ورد في كتاب الخرشي ما يلي:" من أحاط الدين بما له يفلس بشروط ثلاثة:
الأولى: أن يطلبه أرباب الديون بديونهم الحالة كلهم أو بعضهم ويأبى البعض...
الثانية: أن يكون الدين المطلوب تفليسة قد حل أصالة أو لانتهاء أجله، إذ لا حجر بدين مؤجل.
الثالثة: أن يكون الدين الحال زائدا على مال المفلس، إذ لا حجر بالدين المساوي، أو بقي من ماله بعد وفاء الحال ما لا يفي بالدين المؤجل. مثلا عليه مائتان، مائة حالة ومائة مؤجلة، ومعه مائة وخمسون، فالباقي بعد وفاء المائة الحالة لا يفي بالدين المؤجل فيفلس ولو أتي بحميل...". وهذا المثال الوارد هنا سبق أن قاس عليه الدكتور السنهوري في الاعسار الفعلي كما تقدم ذكره.
ويلاحظ هنا أن مذهب مالك لم يكن يميز بن الإعسار الفعلي والإعسار القانوني كما هو موجود في التقنيات الحديثة التي نظمت الإعسار، بل يفلس المدين سواء كانت ديونه المستحقة الأداء وحدها تزيد على أمواله، أو كانت الديون المستحقة الأداء والديون المؤجلة معا تزيد على أمواله.
ولقد أورد الفقه المالكي ثلاث حالات يفلس فيها المدين. والشروط الثلاثة التي سبقت تتضمنها الحالة الثاالثة. وسيرد ذكرها بعد حين. والحالات الثلاث لإفلاس المدين هي:
الحالة الأولى: قبل التفليس، ففي هذه الحالة يحق للدائنين المطالبة بسجنه ومنعه من التعامل والبيع.
الحالة الثانية: وهي حالة التفليس الخاص، وهذه الحالة يقول الدكتور السنهوري أنها تقابل الإعسار في الفقه الغربي. ويشترط فيها الشروط الثلاثة الآنفة الذكر.
( فإذا توافرت هذه الشروط " حكم الحاكم بتفليس المدين وحجر عليه" ويقسم ماله بين دائنيه، وذلك بمحضر المدين أو غيابه).
وينتج عن التفليس الخاص في مذهب مالك ما يلي:
الحجر على المدين ومنعه من التصرف في ماله " تبرعا أو معارضته بمحاباة أو بغير محاباة" فلا تجوز له الهبة أو الصدقة أو الوقف. ولا يجوز له إجراء أية معاملة كالبيع أو الشراء...ولا يحق للمدين المحجور على ماله حتى أن يتزوج بالمال الذي أفلس فيه.
بيع مال المدين وقسمة ثمنه بين الدائنين كل بنسبة حصته من المدين. ويتم البيع بأمر من الحاكم وبحضور المدين. وإذا كان للمدين ديون على الغير فإنها يشملها البيع أيضا. وفي الفقه المالكي إذا كان للمدين آلة صناعة فإنها لا يشملها البيع. وذلك كي يتكسب منها معاشه. واحتاط الفقه المالكي لقوت زوج المدين وعياله، وكسوتهم، كل هذا يؤخذ مما بيع من مال المدين.
حلول الديون المؤجلة: ورد في كتاب الخرشي:" الدين المؤجل على الشخص يحل بفلسه أو بموته على المشهور، لأن الذمة في الحالتين قد خربت. والشرع قد حكم بحلوله، ولأنه لو لم يحل للزم إما تمكين الوارث من القسم أو عدمه، وكلاهما باطل لقوله تعالى:" من بعد وصية يوصي بها أو دين".
" استرداد من باع عينا من المدين ولم يقبض ثمنا لهذه العين" : سبق أن ورد في مقدمة هذا البحث حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه الحارث بن هشام أنه قال:" أيما رجل باع متعا..." وقد أخذ المذهب المالكي بهذا الحديث وطبقه في حالة التفليس الخاص والتي تقابل الإعسار في الفقه الغربي كما يرى السنهوري.
فلقد ورد في المدونة الكبرى:" قلت أرأيت من مات وعليه دين وقد اشترى سلعة وهي قائمة بعينها، أيكون الغرماء وهذا الرجل الذي باع هذه السلعة أسوة الغرماء في هذه السلعة إذا لم يدع الميت مالا سواها؟ قال: نعم. قلت وهذا قول مالك؟ قال نعم. قلت وإنما يكون أولى بسلعته إذا أدركها من الغرماء في التفليس لا في الموت في قول مالك؟ قال نعم".
المبحث الثاني: المذهب الحنفي.
في هذا المذهب يلاحظ أنه يحجر على المدين بشرطين:
الأول: أن يكون دين المدين الحال منه والمؤجل مستغرقا لكل مال المدين.
الثاني: أن يطلب الدائنون الحجر عليه. أما إذا لم يطلبوا ذلك فلا حجر على المدين.
ويتم الحجر من طرف القاضي بعلم المدين. أما النتائج المترتبة عن الحجر في هذا المذهب فهي:
منع المدين من التصرف في ماله الذي كان موجودا وقت الحجر فقط، ولا يشمل المال الذي يتملكه بعد الحجر عليه. وهذا الحجر يشمل كل التصرفات المضرة بحق الدائنين الذين باشروا الحجر على المدين. أما الذين لم يباشروا الحجر فإن التصرفات التي يباشرها المدين فلا يشملها الحجر.
بيع مال المدين وقسمة ثمنه بين الدائنين كل بنسبة حصته من الدين. والبيع يتم أولا ببيع ما يخشى تلفه، ثم ما لا يخشى تلفه، وأخيرا يباع العقار. لكن يراعى عند عملية البيع تجنيب بيت سكنه وعدم بيعه. وتراعى من ثمن المبيعات نفقته ونفقة أهله، فيخصص مقدار من هذا الثمن لهذه النفقة.
المبحث الثالث: المذهب الشافعي.
لا يحجر على المدين في حالة زيادة أمواله على ديونه الحالة. أما الديون المؤجلة فلا يحجر على المدين بسببها. فوجود الأجل يمنع الدائنين من المطالبة بالدين.
ولكن الديون الحالة إذا كانت تفوق أموال المدين وطالب الدائنون القاضي بالحجر فإنه يحجر عليه.
وإذا كانت أمواله تفوق ديونه الحالة لكنه ينفق أكثر مما يربح ففي هذه الحالة قولان:
أحدهما: يحجر عليه لأنه إذا لم يتم الحجر عليه فإن ماله سيبذر.
وثانيهما:" لا يحجر عليه لأنه مليء بالدين".
ولقد ورد في نهاية المحتاج ما يلي:" والأمل فيه ما صح أنه صلى الله عليه وسلم حجر على معاذ وباع ماله في دين كان عليه، وقسمه بين غرمائه فأصابهم خمسة أسباع حقوقهم فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم:" ليس لكم إلا ذلك....
وينتج عن الحجر عن المدين في المذهب الشافعي ما يلي:
منع المدين من التصرف في ماله: يتناول الحجر على مال المدين الذي يوجد وقت الحجر عليه، والمال الذي يملكه بعد الحجر بالشراء أو الميراث أو الوصية أو الهبة، وكل هذا المال الذي يملكه المدين قبل الحجر عليه وبعده يمنع من التصرف فيه، سواء كان التصرف بعوض كالبيع والإيجار، أو بغير عوض كالهبة والوصية.
بيع مال المدين وقسمة ثمنه بين الدائنين كل بنسبة حصته، ولا تحل ديونه المؤجلة، ويقوم الحاكم بعملية البيع، ويستحسن حضور المدين عملية البيع. وهنا ـ كما سبق في المذهب الحنبلي ـ يباع ما يخشى على تلفه أولا، فالحيوان ثم العقار. ويقسم الثمن بين الدائنين بالمحاصلة. ولا تحل الديون المؤجلة بسبب الحجر في المذهب الشافعي بل تبقى على آجالها.
وهنا كما في المذهبين المالكي والحنفي يترك لمدين نفقة وكذا لعياله، حتى تنتهي حالة الحجر ويعود إلى التصرف في ماله.
استرداد من باع عينا من المدين ولم يقبض ثمنا لهذه العين. وهنا أخذ المذهب الشافعي شأنه شأن المذهب المالكي بالحديث المروي عن الحارث ابن هشام.
المبحث الرابع: المذهب الحنبلي.
إذا كانت ديون المدين الحالة أكثر من أمواله، وطلب الدائنون من الحاكم أن يحجر عليه، فإن المذهب الحنبلي يلزم هذا الحاكم بالحجر على المدين.
وبصورة أوضح يحجر على المدين في المذهب الحنبلي في حالتين:
أن تكون ديون المدين المستحقة تستغرق جميع أمواله، أما الديون المؤجلة فلا توجب الحجر.
أن يطالب الدائنون الحاكم بالحجر على مدينهم، أما إذا لم يطالبوا بذلك فإن الحاكم لا يستطيع أن يحجر على المدين من تلقاء نفسه.
وينتج عن الحجر على مال المدين عن المذهب الحنبلي ما يلي:
منع المدين من التصرف في ماله: عندما يحجر على المدين هنا في المذهب الحنبلي ـ كما في المذاهب الأخرى ـ فإن المدين لا يحق له أن يتصرف في ماله بعوض كالبيع والإيجار، أو بغير عوض كالهبة والوصية أو الوقف.
إلا أن الحنبليين أجازوا للمدين أن يتصرف في ذمته بطريق الشراء أو الاقتراض أو التكفل لأن الحجر يتعلق بماله وليس بذمته.
بيع مال المدين وقسمة ثمنه بين الدائنين كل بقدر حصته من الدين، ولا تحل الديون المؤجلة، فمتى تمت عملية الحجر على المدين ومنع من التصرف في ماله فإن الحاكم يقوم ببيع مال المدين بحضور المدين نفسه استحسانا، وذلك للأسباب التالية:
إحصاء ثمن ما تم بيعه والتحقق منه.
إنه أدرى بماله وبما يستحق به البيع.
حضور المدين عملية البيع ترغيب فيه وإقبال على شرائه.
إشراف المدين على بيع المال أربح لنفسه.
وهنا أيضا عند بيع المال يبدأ بالمال سهل التلف، ثم بالمال الذي يحتاج إلى نفقات كالحيوان، فالمال المتبقي كالعقار والأثاث وغير ذلك، ثم يوزع الحاكم ثمن المبيعات على الدائنين حسب حصة كل واحد منهم.
وفي المذهب الحنبلي ـ كما في المذاهب الأخرى السابقة ـ تجنب للمدين من ثمن المال المبيع نفقة . لمعيشته ومعيشة ذويه، إلا إذا كان له دخل يتكسب منه.
أما الديون المؤجلة فلا تحل بتوقيع الحجر عند الحنبليين مثلهم مثل أصحاب المذهب الشافعي.
استرداد من باع عينا من المدين ولم يقبض ثمنا لهذه العين ذاتها: لقد طبق الحنابلة ـ شأنهم شأن الشافعية والمالكية ـ الحديث النبوي الذي سبق ذكره والمروي عن الحارث بن هشام. فلقد ورد في كتاب الإنصاف للماوردي:" إن من وجد عنده عينا باعها إياه فهو أحق بها بشرط أن يكون المفلس حيا ولم ينقد من ثمنها شيئا، والسلعة بحالها لم يتلف بعضها ولم تتغير صنفتها بما يزيل اسمها....
الفرع الثاني
أوجه الاتفاق والاختلاف بين المذاهب الأربعة
تجمع المذاهب الأربعة على الموضوعات الرئيسية التالية:
الحجر يكون على المدين عندما تزيد ديونه الحالة على أمواله.
يتم الحجر بناء على طلب الدائنين.
يتم الحجر بأمر من الحاكم.
منع المدين من التصرف في ماله.
تخصيص نفقة للمدين ولعائلته.
بيع مال المدين للوفاء بثمن ديونه المستحقة الأداء.
وهناك بعض الأمور لا تتفق فيها المذاهب الأربعة هي:
أ ـ أن من أحاط الدين بماله في المذهب المالكي له ثلاث حالات وهذه الحالات ـ كما سبق ذكرها ـ هي التالية:
الحالة الأولى قبل التفليس، والحالة الثانية تفليس عام، والحالة الثاالثة تفليس خاص.
وفي هذه الحالة الأخيرة ثلاثة شروط:
أن يطلب أرباب الديون بديونهم الحالة.
أن يكون الدين المطلوب تفليسه قد حصل أصالة أو لانتهاء أجله.
أن يكون الدين الحال زائدا على مال المفلس.
وإذا تحققت هذه الشروط حجر على المدين،. ولا يوجد في المذاهب الأخرى مثيل لهذا التفصيل.
ب ـ لا تحل الديون المؤجلة بسبب الحجر في المذهبين الشافعي والحنبلي. في حين تحل الديون المؤجلة في المذهب المالكي. أما المذهب الحنفي فلقد ورد فيه أن الحجر يتم على المدين عندما تزيد ديونه الحالة والمؤجلة على أمواله.
هذه هي أهم الجوانب الرئيسية الهامة التي هي موضع اتفاق واختلاف بين المذاهب الأربعة المشهورة في الفقه الإسلامي.
ويتضح من كل ما سبق أن الفقه الإسلامي عالج موضوع الإعسار بدقة وتفصيل، وراعى كل الجوانب العادلة سواء بالنسبة للدائنين أو بالنسبة لمدين. فقسم ثمن مبيعات المدين بين الدائنين محاصة، واستبقى منه ما يتقوت منه هو وأسرته عدلا وإنسانية.
ولم يمنح الفقه الإسلامي للدائنين أية فرصة للتصرف في أموال المدين دون اللجوء إلى المحاكم الذي يتعين عليه ألا يؤثر جانبا دون جانب.
وهذا عين ما يوجد في التقنينات الحديثة جوهرا، إلا ما اختلفت عنه في المهام والاختصاصات تنظيما حديثا، وفي المواد والفصول تبويبا وترتيبا.

Aucun commentaire: