ربط المسؤولية بالمحاسبة في تدبير الشأن الترابي وحكامته الجيدة


يقترن التدبير الترابي وحكامته الجيدة بما يقدمه كل متدخل في المجال الترابي الذي يعنيه، وما ينتجه في الزمان والمكان الذي يتولى فيه المسؤوليات المنتدب بشأنها. وهو ما يقود لوسيلة الحكامة الترابية التي تؤكد على تعدد الروابط والتدخلات على مستوى التنسيق أو التنافس بين كل الفاعلين والمتدخلين القادرين على تنظيم سياسات تكون من نتاج المبادرة الترابية دون حاجة للدولة.
ويتبوأ التدبير الترابي أهمية خاصة في تحقيق التنمية المتكاملة والمنسجمة على المستويين المحلي والوطني عبر ما منحه دستور 2011 وبعده القوانين التنظيمية للجماعات الترابية من اختصاصات للهيئات اللامركزية ومن صلاحيات لأجهزتها التقريرية، لاسيما المجالس المنتخبة. فالتنمية الوطنية الشمولية والمستدامة، لن تتحقق إلا بالتدبير الناجع للشأن الترابي عبر تدخلات المجالس المنتخبة طبقا لصلاحياتهم المنصوص عليها في نص القانون التنظيمي رقم 113.14 المتعلق بالجماعات والقانون التنظيمي رقم 112.14 المتعلق بالعمالات والأقاليم ثم القانون التنظيمي رقم 111.14 المتعلق بالجهات[1].
غير أن هذه التنمية التي تتوخاها السلطات العمومية وينتظرها المواطن، يصعب بلوغها كما يغيب معناها دون ربط المسؤولية بالمحاسبة في تدبير الشأن الترابي وحكامته الجيدة من خلال تقييم النهوض بالمرفق العام ومدى تلبية حاجيات المواطنات والمواطنين وتقديم الخدمات وجودتها، ضمانا للرقي ولاستمراره.
إن الحكامة عامة، والترابية بشكل خاص، هي وسيلة وليست غاية. في المقابل، وبالرغم من تداول هذا المفهوم لدى البعض من الفقه الإداري المتخصص مع تواتر اجتهادات المشرع لصقل تعريف واحد وشامل له ولمفهوم الحكامة الترابية، إلا أن القوانين التنظيمية للجماعات الترابية لم تُفصل فيها بقدر ما هي تكون قد نسخت فقط ما ورد في مضامين دستور 2011. وفي هذا الصدد، لقد ورد لفظ "الحكامة" سبع مرات فقط في نص القانون التنظيمي رقم 111.14 المتعلق بالجهات[2]، حيث أكدت مادته الأول أن هذا القانون التنظيمي يحدد قواعد الحكامة المتعلقة بحسن تطبيق مبدإ التدبير الحر لشؤون الجهة. لكن، ومع البحث عن المفهوم المذكور في القسم الثامن من القانون التنظيمي المومإ إليه، يتبين بأن مقتضياته قد أدرجتها كقواعد عامة للقانون ومتعارف عليها في أدبيات التدبير الإداري والمالي كالمتعلقة منها بالمساواة بين المواطنين أمام المرفق العام واستمرارية هذه المرافق وسيادة القانون إلى غير ذلك من المبادئ العامة المعروفة لدى الفقه الإداري، دون أن تفصل فيها وتحيل على نص تنظيمي بشأنها[3].
إن تدبير الشأن الترابي من المجالس المنتخبة وفقا لما تقوم به بغية النهوض بالمرفق العام وحكامته الجيدة عبر ما ورد من مقتضيات في دستور 2011 وباقي النصوص القانونية والتنظيمية الأخرى، لن تتم بمعزل عن إعادة النظر في تدبير أشخاص القانون العام وفي تدبير العلاقة الوظيفية بين الدولة والجماعات الترابية. ولهذه الغاية، تجدر الإشارة، بأن الأخيرة، أي الجماعات الترابية، لا تتوفر على اختصاص تحديد الاختصاص لأن للدولة اختصاص كل الاختصاص، فآنذاك نتكلم عن السياسة الوطنية، أما التراب فهو مستوى ثاني، وآنذاك نتكلم عن السياسات الترابية[4]. ولأجل حكامة إدارية ومالية، يبقى الدستور لوحده غير كاف لأن يغير المجتمع وبنيات الدولة[5]، وبالتالي تكون المعاينة القائلة بربط المسؤولية بالمحاسبة في تدبير الشأن الترابي وحكامته الجيدة، على أساس بيّن وأصل واضح.
إن الحكامة كما سبقت الإشارة لذلك، هي وسيلة وليست غاية، والدليل على ذلك أن دستور 2011 أتى بعدة تعاريف لها، الأول لصيق بالنظام السياسي (الفصل الأول من الدستور)[6]، والثاني بالحكامة الترابية، وبالرغم من وجود تعريف لها في تقرير اللجنة الاستشارية للجهوية المتقدمة[7]، إلا أن مضامين الدستور المذكور لم تفصل فيها بقدر ما اعتبرت أن الحكامة الجيدة تقوم على تنظيم المرفق العام على أساس المساواة بين المواطنات والمواطنين في الولوج إليها مع المساهمة في تخليق الحياة العامة، ذلك أن مقتضيات الفصل 167 من الدستور نفسه قد أردفت ترسيخ مبادئ الحكامة الجيدة بترسيخ ثقافة المرفق العام مع قيام المواطنة المسؤولة حين حددت مهام الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها باعتبارها هيئة للحكامة الجيدة والتقنين.
إن ربط المسؤولية بالمحاسبة في تدبير الشأن الترابي و حكامته الجيدة وحيث كانت تهم بالأساس المجالس المنتخبة ورؤسائها طالما أن الهيئات التقريرية للجماعات الترابية هي الموكول لها أمر ومهام النهوض بالمرفق العام وتقديم الخدمات وتلبية حاجيات المواطنات والمواطنين، فهي بذلك قد تقودنا إلى التعمق في مساطر التأديب وما تزخر به مضامين القوانين التنظيمية المذكورة في هذا الباب. فنص القانون التنظيمي رقم 111.14 المتعلق بالجهات كشأن القوانين التنظيمية الأخرى، قد تضمن عدة مقتضيات واضحة بخصوص عزل المنتخبين والتصريح ببطلان مداولات مجالس الجماعات الترابية وبإيقاف تنفيذها إلى جانب باقي القرارات التي قد تشوبها عيوبا قانونية أو مساسا بمصداقية التنظيم اللامركزي الترابي[8].
وبالتالي أمكن القول بأن ربط المسؤولية بالمحاسبة في تدبير الشأن الترابي وحكامته الجيدة تتحقق من خلال الغوص في القوانين التنظيمية للجماعات الترابية وباستنباط ما أسندته من صلاحيات للمجالس المنتخبة كمرحلة أولى. ثم تبيان أشكال مسؤوليات المجالس المذكورة من خلال إبراز كيفيات محاسبتها من المواطن ومن أجهزة الرقابة والتفتيش عن تدبير الشأن الترابي وحكامته الجيدة كوسيلة في التدبير وليست غاية لتفادي الخلط الحاصل بشأنها.
وإذا كانت الأخيرة قد أسندت لرئيس كل مجلس، حسب الحالة، صلاحية اتخاذ تدابير وقرارات فردية وتنظيمية والمصادقة على الصفقات العمومية ثم قرارات السلطة التنظيمية تبعا لمداولات المجلس، فضلا عن صلاحيات أخرى مادية كإجراءات نزع الملكية مع إسناد التمثيل أمام القضاء لهم كآمرين بالصرف… ففي دلك دلالة مفادها، إن القوانين التنظيمية المذكورة رسخت إحدى المهام الكبرى الملقاة على عاتق رؤساء مجالس الهيئات اللامركزية المنتخبة لأجل التأمين القانوني لتدخلهم في التدبير العمومي الترابي، وكذا الدفاع عن الجماعات الترابية وصون مصالحها، ثم الحد من تزايد الأحكام والقرارات القضائية النهائية الصادرة في مواجهتها، والمتمثلة أساسا بمباشرة الدفاع عنها تجنبا للمسؤوليات الناشئة عن ذلك. فأي إخلال  أو عدم الوفاء في هذا الباب يؤدي بالنتيجة لتحريك المساطر التأديبية في حقهم.
وحيث إن إدراج مقتضيات قانونية للتأديب في صلب القوانين التنظيمية ليبين حجم المسؤوليات الملقاة على عاتق الجميع لأجل الحفاظ على مصداقية التنظيم اللامركزي الترابي وصيانته. لذلك كانت مساطر التأديب الواردة في هذا الباب من المطالب التي هي في حاجة ماسة للتسليط الضوء عليها ثم النقاش بشأنها.
وحيث إن رؤساء المجالس من جهة ثانية ملزمون باتخاذ جميع الإجراءات المقرة للتأمين القانوني لتصرفاتهم فيما يتخذونه من قرارات إدارية و أعمال مادية تفاديا لانطواء أفعالهم على الخطأ الجسيم وترتيب المسؤولية ضدهم. وإن أي مجازفة في هذا الشأن، تؤدي للتصدي لهم بالمساطر المعمول بها قانونيا ولاسيما المادة 67 من القانون التنظيمي رقم 111.14 المتعلق بالجهات والمادة 65 من القانون التنظيمي رقم 112.14 المتعلق بالعمالات والأقاليم والمادة 64 من القانون التنظيمي رقم 113.14 المتعلق بالجماعات، فضلا عن مقتضيات الفقرة الأولى من الفصل 80 من قانون الالتزامات والعقود بصرف النظر عن مساطر التأديب المعروفة في قانون المحاكم المالية (مجالس الحسابات). مما يجعل من هذه المعاينة على أساس.
وحيث تبعا لذلك فإن ارتكاب أي عضو من أعضاء مجلس الجماعة غير رئيسها، أفعالا مخالفة للقوانين والأنظمة الجاري بها العمل وتضر بأخلاقيات المرفق العام ومصالح الوحدات اللامركزية، يؤدي لقيام الوالي أو عامل العمالة أو الإقليم حسب الحالة، أو من ينوب عنهم عن طريق رئيس المجلس بمراسلة المعني بالأمر للإدلاء بإيضاحات كتابية حول الأفعال المنسوبة إليه داخل أجل حددته القوانين التنظيمية المذكورة، ونفس الشيء ينطبق على رؤساء المجالس إثر ارتكابهم لأفعال مخالفة للقوانين والأنظمة الجاري بها العمل. لذلك يجوز للوالي أو العامل (دائما حسب الحالة أو من ينوب عنهم)، بعد التوصل بالإيضاحات الكتابية المذكورة أو عند عدم الإدلاء بها بعد انصرام الأجل المحدد، إحالة الأمر إلى المحكمة المختصة (الإدارية) وذلك لطلب عزل عضو المجلس المعني من المجلس أو عزل الرئيس أو نوابه من عضوية المكتب أو المجلس لتبت المحكمة في الطلب حسب مضمونه؛ أي داخل أجل شهر أو 48 في حالة توفر عنصر الاستعجال والجدية من سلطة المراقبة الإدارية العـارضة المحيلة لذلك أمام القضاء.
لهذه الأسباب تم تسليط الضوء على الموضوع، وتجدر الإشارة إلى أنه وقبل البت موضوعا من طرف المحكمة، يكون المعني بالأمر في حالة توقيف عن ممارسة مهامه إلى حين البت في طلب العزل. ولا تحول المتابعة المذكورة دون المتابعات القضائية الأخرى عند الاقتضاء كالانتصاب بالمطالبة بالحق المدني والحجز على ممتلكاته تحسبا لإقرار المحكمة الزجرية لأي تعويض في هذا الباب.

[1]  الجريدة الرسمية عدد 6380، بتاريخ 23 يوليوز 2015، ص 6585.
[2]   المواد 1 و223 و242 و243 و244 و247 و250 من القانون التنظيمي رقم 111.14 المتعلق بالجهات الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 1.15.83 بتاريخ 7 يوليوز 2015، الجريدة الرسمية عدد 6380، بتاريخ 23 يوليوز 2015، ص 6585.
[3]   المادة 243 من القانون التنظيمي رقم 113.14 المتعلق بالجهات، نفس المرجع.
[4] Jean-Marie Auby et Jean-Bernard Auby, Institutions administratives: Organisation générale. Fonction publique. Contentieux administratif. Interventions de l’administration dans l’économie. Prix. Planification. Aménagement du territoire, PRECIS DALLOZ, 6’’ édition 1991, p 97.
[5]  أحمد بوعشيق، التأصيل الدستوري للمرفق العام وحكامته الجيدة، مساهمة في اللقاء العلمي الأول من سلسلة اللقاءات العلمية حول الحكامة المالية والإدارية المنظم من فريق البحث في "التعمير والبيئة"، يوم السبت 23 ماي 2015 بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بسلا –جامعة محمد الخامس بالربط- في الساعة التاسعة (9) صباحا (غير منشورة).
[6]  الفصل الأول من الدستور المغربي لسنة 2011 الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 1.11.91 بتاريخ 29 يوليوز 2011، الجريدة الرسمية عدد 5964 مكرر بتاريخ 1يوليوز 2011، ص 3621.
[7]  تقرير اللجنة الاستشارية للجهوية المتقدمة، الكتابين الأول والثاني.
[8] أُسْنِدَ اختصاص عزل المنتخبين والتصريح ببطلان مداولات مجالس الجماعات الترابية وبإيقاف تنفيذها إلى جانب باقي القرارات التي قد تشوبها عيوب قانونية، ثم حل المجلس، للقضاء وحده. لذلك فإثارة الانتباه لمسألة التأديب في القوانين التنظيمية رقم 111.12 المتعلق بالجهات و112.14 المتعلق بالعمالات والأقاليم و113.14 المتعلق بالجماعات، هي أساس ما ألزام به المشرع التنظيمي رؤساء المجالس الجماعية بالتطبيق القانوني السليم للصلاحيات الموكولة لهم، كنتيجة لحجم الأدوار والمسؤوليات الموكولة لهم من خلال مضامين القوانين التنظيمية المذكورة. 

في ربط المسؤولية بالمحاسبة

محمد إنفي

لقد أصبح ربط المسؤولية بالمحاسبة أحد أهم المبادئ الدستورية العامة ببلادنا؛ إذ نصت النسخة الجديدة من الدستور المغربي (يوليوز 2011)، في الفقرة الثانية من الفصل الأول منه، على مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة. وقد بات لهذه العبارة، بعد نشر الوثيقة الدستورية، حضور ملحوظ وجاذبية خاصة في بعض الخطاب السياسي؛ لكن دون أن نلحظ أي تجسيد حقيقي وفعلي لمضمونها على أرض الواقع.
وسوف يشكل التركيز على هذا المبدأ، في إحدى أقوى فقرات خطاب العرش الأخير، ناقوس إنذار قوي اللهجة و"حكما" بالنفاذ المعجل، حيث جاء في الخطاب الملكي: "أشدد على ضرورة التطبيق الصارم لمقتضيات الفقرة الثانية من الفصل الأول من الدستور التي تنص على ربط المسؤولية بالمحاسبة. لقد حان الوقت للتفعيل الكامل لهذا المبدأ".
وهنا، أتساءل، كمواطن مهتم بالسياسة وبالشأن العام، إن كان التنصيص على هذا المبدأ في الوثيقة الدستورية كافيا لإعطائه صفة الإنفاذ أم أن تفعيله يحتاج إلى مراسيم تطبيقية.
شخصيا، لست مؤهلا للجواب على هذا التساؤل. فلا أنا رجل قانون ولا أنا من المتخصصين في العلوم السياسية والقانون الدستوري. لكني أعرف أن كثيرا من القوانين، رغم أهميتها، تبقى حبرا على ورق بسبب غياب المراسيم التطبيقية.
وكيفما كان الجواب الذي يمكن أن يعطى لسؤالي، فالشيء المؤكد هو أن تفعيل هذا المبدأ قد أصبح ملحا وذا أولوية، باعتبار الأوضاع العامة في البلاد وبفعل بعض السلوكات التدبيرية والسياسية التي تثير الاستغراب والاشمئزاز، إلى حد أن حتى رئيس الدولة لم يخف غضبه من هذا الوضع.
لقد أصبح من الضروري تحديد المسؤوليات بدقة حتى تتم المحاسبة بموضوعية ونزاهة وشفافية؛ أي طبقا للقانون. ألم يقل ملك البلاد في نفس الفقرة من خطابه: "فكما يطبق القانون على جميع المغاربة، يجب أن يطبق أولا على كل المسؤولين بدون استثناء أو تمييز، وبكافة مناطق المملكة".
ومن شأن تفعيل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، إذا ما تم على الوجه الأصح والأكمل، أن ينقلنا إلى دولة الحق والقانون؛ أي إلى دولة يعرف فيها كل فرد (مسؤولا كان أو مواطنا عاديا) ما له وما عليه؛ دولة تجعل من القطيعة مع كل مظاهر الاستبداد والفساد والظلم واستغلال النفوذ والإفلات من العقاب...وسيلتها المثلى في المصالحة الدائمة مع المواطن ومع الوطن من أجل تحقيق العدل والعدالة الاجتماعية والمجالية وغيرها.
نظريا، يمكن لمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة أن يتم تطبيقه في كل مجالات الحياة: السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والرياضية والجمعوية...فحيثما هناك تدبير، وحيثما هناك مصلحة عامة أو خاصة، وحيثما هناك ميزانية، وحيثما هناك خدمات إدارية أو غيرها...، هناك ضرورة للمراقبة وتقييم الأداء، وبالتالي المحاسبة وترتيب الجزاءات، حتى لا تعم الانتظارية واللامبالاة وحتى لا يسود "منطق" (أو تعامل) لا يميز بين الصالح والطالح، وبين المُجِدِّ والكسلان، وبين الأمين والخائن...الخ. فمن العدل والإنصاف التمييز بين هؤلاء بتحفيز من يستحق التحفيز، ولو بكلمة شكر، ومعاقبة من يستحق العقاب، ولو بمجرد توبيخ أو لفت نظر.
لكن المشكل يكمن في الكيفية والوسيلة التي يمكن أن يتحقق بها هذا العدل وهذا الإنصاف الذي من شأنه أن يجسد الربط الحقيقي والفعلي بين المسؤولية والمحاسبة. فمشكل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة يكمن، إذن، في التفعيل؛ أي في التطبيق. وهو مشكل كل النصوص، كيفما كان مجالها ومحتواها ومستوى جودتها. فالأمر لا يختلف كثيرا عما هو معروف عن الفرق بين النظرية والتطبيق، سواء في المجال الفكري أو السياسي أو الديني أو غيره.
جميل، إذن، أن يكون لنا دستور متقدم. وجميل أن ينص هذا الدستور على ربط المسؤولية بالمحاسبة. لكن الأجمل أن نوفر لهذا المبدأ كل شروط التفعيل الأمثل. ومن أهم هذه الشروط، التوفر على موارد بشرية كفئة ونزيهة وعلى مؤسسات رقابية محددة المهام ومتوفرة على الوسائل الكافية للقيام بواجبها.
ليس من الممكن، في وضعنا الحالي، أن نطمح إلى تفعيل أمثل لمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة. ومن أجل بلوغ هذا الهدف، فإن بلادنا تحتاج إلى إعادة البناء، وفي مقدمة ذلك بناء الإنسان. ولن يتأتى ذلك إلا بثورة ثقافية حقيقية تروم تغيير العقليات. ولتحقيق هذه الغاية، يجب اللجوء إلى كل الوسائل التثقيفية والتربوية والزجرية عند الحاجة من أجل ترسيخ قيم المواطنة وتنقية مؤسسات الدولة والمجتمع مما أصابها من الاختلالات وما شابها من مظاهر الانحلال والفساد.
وبدون ذلك، لن تزيد الأحوال إلا سوء؛ إذ لا يمكن أن ننتظر ، مثلا، من المرتشي أن يحارب الرشوة أو من الظالم أن يحقق العدل أو يساهم في انتشاره؛ كما لا يمكن أن ننتظر ممن ليس قلبه على المصلحة العامة أن يحمي المال العام؛ باختصار، لا يمكن أن ننتظر من الفاسد أو المفسد أن يساهم في الإصلاح؛ كما لا يمكن أن ننتظر من عديمي الكفاءة، في مجال تدبير الشأن العام بمفهومه الواسع، انجازات في المستوى، تليق بمبدأ الحكامة الجيدة، الذي هو بدوره مبدأ دستوري، تم التنصيص عليه في نفس الفقرة التي نصت على ربط المسؤولية بالمحاسبة.
وبالرغم من النواقص التي يمكن أن تحول دون التفعيل الأمثل لهذا المبدأ الأخير(وقد ذكرنا البعض منها)، فإن من شأن تفعيله، في ظروفنا الحالية، بشكل سليم في مواجهة كل مسؤول كيفما كان موقعه، أن يساعد بلادنا على إصلاح مؤسستها (مؤسسة الدولة والمجتمع) من أجل تحسين أدائها وتحصينها ضد المؤثرات الخارجية. ونقصد بسلامة التفعيل، من جهة، عدم قبول مبررات الفاشلين وعدم التستر عليهم أو إيجاد تبرير لفشلهم؛ ومن جهة أخرى، عدم تبخيس نجاحات الكفاءات الوطنية أو عرقلة عملها.
وأشير، في الأخير، إلى أن المجال السياسي، بمفهومه العام، هو الأولى بالإصلاح من أجل تحقيق بناء ديمقراطي سليم؛ ذلك أن الممارسة السياسية الخاطئة هي، في نظري المتواضع، أصل كل الأدواء. فإذا صلحت السياسة ، يمكن أن يعم الصلاح كل المجالات.
لقد ارتكبت الدولة المغربية خطأ تاريخيا فادحا بإضعافها للأحزاب الحقيقية وصناعة أحزابها الموالية (المعروفة في القاموس السياسي المغربي بالأحزاب الإدارية)؛ وهو ما ميَّع الحياة السياسية وهَجَّن التعددية الحزبية وشجَّع على انتشار ثقافة "الهمزة" وأعطانا نخبا، الصالح العام، بالنسبة إليها، ثانوي.