يرى الفقه الجنائي أن الضمانات والحقوق الإجرائية التي يتمتع بها المتهم ترجع في أصلها إلى “قرينة البراءة“، هذا المبدأ الهام الذي يعتبر كل شخص متهم أو مشتبه فيه بارتكاب جريمة بريئا إلى أن تثبت إدانته بمحاكمة علنية تؤمن له فيها ضمانات الدفاع.
ويعد مبدأ الأصل في الإنسان البراءة دعامة أساسية لضمان الحرية الشخصية للمتهم، وبمقتضاها يظل الشخص بريئا مما أسند إليهن ويبقى هذا الأصل قائما إلى انم يصدر حكم نهائي بإدانته. ويقتضي ذلك أن يحدد وضعه القانوني في الفترة السابقة على ثبوت الإدانة على أنه شخص بريء.
ومن هنا سنتطرق من خلال هذا المبحث لقرينة البراءة في التشريع المغربي المقارن(المطلب الأول)، وكذلك للقيمة القانونية لهذه القرينة(المطلب الثاني).
الفقرة الأولى: قرينة البراءة في التشريع المغربي والتشريع المقارن
اولا: قرينة البراءة في التشريع المغربي
إذا كان مبدأ “قرينة البراءة” غير منصوص عليه في ظهير 1959 المنظم لقانون المسطرة الجنائية الملغى، ولا في الدستور المغربي لسنة 1996 أو الدساتير التي صدرت قبله، فإن قانون المسطرة الجنائية الجديد قد أقر مبدأين هامين، هما:
قرينة البراءة وتفسير الشك لفائدة المتهم في المادة الأولى منه والتي تنص على أنه:“كل متهم أو مشتبه بارتكاب جريمة يعتبر بريئا إلى أن تثبت إدانته قانونا بمقرر مكتسب لقوة الشيء المقضي به، بناء على محاكمة عادلة تتوفر فيها كل الضمانات القانونية… يفسر الشك لفائدة المتهم”.
وجاءت صياغة هذه المادة مشابهة لصياغة المادة 11 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمادة 14 من العهد الولي للحقوق المدنية والسياسية، حيث تقرر المادتان بأن كل متهم بجريمة يعتبر بريئا إلى حين ثبوت إدانته قانونا في إطار محاكمة عادلة.
إن النص صراحة على قرينة البراءة، هو مظهر من مظاهر ملائمة التشريعات الوطنية مع المواثيق الدولية، ذلك أن المغرب قد صادق على العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، ونص على الالتزام بحقوق الإنسان المتعارف عليها دوليا.
وقد نوه المشرع المغربي بالنص صراحة على قرينة البراءة في ديباجة قانون المسطرة الجنائية رقم 22.01 وأحاطها بعدة تدابير عملية لتعزيزها وتقويتها، من بينها:
ـ اعتبار الاعتقال الاحتياطي والمراقبة القضائية تدبيرين استثنائيين.
ـ تحسين ظروف الحراسة النظرية والاعتقال الاحتياطي، وإحاطتها بإجراءات مراقبة صارمة من طرف السلطة القضائية.
ـ ترسيخ حق المتهم بإشعاره بالتهمة الموجهة إليه.
حقه في الاتصال بمحام خلال فترة تمديد الحراسة النظرية، وحق المحامي في تقديم ملاحظات كتابية خلال تلك الفترة.
ـ حقه في أن تشعر عائلته بوضعه تحت الحراسة النظرية.
كما أقر المشرع في الفقرة الثانية من المادة الأولى “مبدأ الشك يفسر لمصلحة المتهم”، والذي يقضي بألا يدان المتهم إلا بناء على أدلة ثابتة قاطعة، وكل شك في أدلة الإدانة تجعل الحكم بالمؤاخذة غير مبني على أساس.
وقاعدة الشك يفسر لمصلحة المتهم ما هي إلا نتيجة لقرينة البراءة التي لا تسمح بأن يدان الشخص بناء على التخمينات أو الظنون أو الاحتمالات، لأنها لا ترقى إلى درجة اليقين بثبوت الجريمة، واليقين هو الذي ينفي افتراض البراءة في المتهم.[1]
ثانيا: قرينة البراءة في التشريع المقارن
حضي هذا المبدأ باهتمام غالبية الدول، فحرصت على النص عليه في دساتيرها، منها الدستور المصري لسنة 1971 الذي ينص في المادة 67 منه على أن: “المتهم بريء حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية تكفل له ضمانات الدفاع عن نفسه”.
وإذا كانت هذه الدول جعلت من “قرينة البراءة” مبدأ دستوريا يسمو على القوانين العادية، فقد اقتصرت دول أخرى على النص عليها في قوانينها الإجرائية، منها القانون الإجراءات الروسي الصادر سنة 1961(المادة 20)، والقانون اليوغسلافي لسنة 1973(المادة 3).
وبخصوص القانون الروسي، فبعدما أكد على قرينة البراءة في المادة 20، نمص في المادة 309 على عدم جواز إلقاء عبء الإثبات على المتهم، وعلى واجب تبرئته إذا لم تثبت مساهمته في الجريمة. كما نص صراحة في المادة 310 من نفس القانون على عدم جواز تأسيس حكم الإدانة على القرائن.
ولتعزيز وتقوية قرينة البراءة أكد على أن اعتراف المتهم بالجريمة لا يكفي وحده بالإدانة ما لم يكن معززا بأدلة أخرى في الدعوى(الفقرة 2 من المادة 77).
وفي فرنسا فإن قرينة البراءة هي من مستجدات الإصلاح التي جاء بها قانون 15 يونيو 2000 الذي نص في المادة الأولى منه أن كل شخص مشتبه فيه أو متهم يعتبر بريئا إلى أن تثبت إدانته، ولتعزيز هذا المبدأ نص المشرع على معاقبة كل من يمس بهذا المبدأ، وأكد على حق الشخص في إشعاره بالأفعال المنسوبة إليه وعلى حقه في الاستعانة بمحام، كما نص على حق الشخص الموضوع تحت الحراسة النظرية في الصمت.
الفقرة الثانية : القيمة القانونية لقرينة البراءة
لم تبقى قرينة البراءة في التشريعات الحديثة مجرد صورة تزين قانون المسطرة الجنائية، بل أصبحت إطارا ينظم إجراءات البحث والتحقيق والمحاكمة. فاعتبار المشتبه فيه أو المتهم بريئا يعني معاملته على هذا الأساس، وتمتيعه بكافة الضمانات القانونية إلى حين صدور حكم في الدعوى العمومية.
ولأهمية هذا المبدأ، ولاعتبارات مختلفة، فإنه أحيط بضمانات تكفل احترامه حتى لا يتحول إلى مجرد قرينة لا تكفل حقوق المتهم. ويمكن إجمال الاعتبارات التي ساقها الفقه الجنائي تأييدا لهذا المبدأ فيما يلي:
1 ـ عبء الإثبات يتحمله الطرف الذي حرك الدعوى العمومية، أما المتهم فهو غير ملزم بإثبات براءته، لأن الأصل هو البراءة والاتهام استثناء، فإذا لم ينجح المدعي في تقديم دليل الإدانة وجب الإبقاء على الأصل.
2 ـ يسهم هذا المبدأ في تجنب الأخطاء القضائية التي تؤدي إلى إدانة الأبرياء، فهذه الأخطاء تفقد الثقة في النظام القضائي، ذلك أن قرينة البراءة تستلزم بأن تبقى الإدانة على الجزم واليقين لا على الظن والاحتمال، وكل شك في الأدلة يجب أن يفسر لمصلحة المتهم.
3 ـ إذا لم تفترض البراءة في المتهم، فإنه سيكون ملزما بإثبات وقائع سلبية وهو دليل يصعب تقديمه، ويصبح المتهم غير قادر على إثبات براءته، مما سيؤدي إلى تسليم المحكمة بجرمه ولو لم يقدم رافع الدعوى دليلا ضده، وهذا ما يتعارض ومصلحة المجتمع، فهي وإن كانت تقتضي إدانة المجرمين فإنها تأبى إدانة الأبرياء.
وإذا كانت قرينة البراءة تبقى قائمة بغض النظر عن وقوع الجريمة أو كيفية ارتكابها أو طبيعة الإجراءات المتخذة من أجل الكشف عن الحقيقة، فهل يجوز اتخاذ بعض الإجراءات الماسة بحرية المتهم كالاعتقال الاحتياطي أو الوضع تحت الحراسة النظرية أو بحرمة مسكنه كالتفتيش قبل صدور الحكم البات الذي ينفي البراءة؟
هنا نكون أمام قرينتين متعارضتين، أحدهما قرينة على براءة المتهم والأخرى قرينة على ارتكاب الجريمة، فالأولى تحمي مصلحة المتهم، والثانية تحمي مصلحة المجتمع، ويتعين التوفيق بينهما، أي التوفيق بين قرينة البراءة ومتطلبات حماية أمن واستقرار المجتمع.
فاعتقال المتهم إجراء خطير يمس بحرية الفرض المفترضة براءته، إلا أن الإجراء قد تقتضيه حاجيات التحقيق، فبقاء المتهم في حالة سراح سيمكنه من التأثير في الشهود أو العبث بأدلة الإدانة، بل وقد يساعده على الهروب من تنفيذ الحكم الذي سيصدر ضده.
ويتضح مما سبق أنه لا تختلف تطبيقات قاعدة افتراض البراءة في القانون الوضعي عنها في القانون الإسلامي، بل إن بعض المحاكم المغربية في تطبيقها لنتائج مبدأ افتراض البراءة، تؤسس قضائها دون حرج على قواعد فقهية إسلامية. فلا يوجد تعارض بين ما تقرره النظم القانونية المعاصرة من أن الأصل في الإنسان البراءة وبين ما سبق أن قرره الفقهاء المسلمون من أن “الأصل براءة الذمة”. وإذا كانت القاعدة الفقهية الإسلامية ـوسع نطاقا في تطبيقها من القاعدة القانونية، فإنها تلتقيان في المجال الجنائي، حيث تفرضان بناء إدانة المتهم على دليل قاطع، وإذا لم يتوافر مثل هذا الدليل فإنه يتعين على القاضي الحكم ببراءة المتهم، فلا فرق إذن من حيث النتيجة بين قضاء جنائي يقوم على الأحكام الإسلامية، وبين قضاء جنائي يقوم أساسه على النظريات الإجرائية الحديثة، فاختلاف التعبير عن القاعدة عند الفقهاء المسلمون عن فقهاء القانون الوضعي لا أثر له على نتيجتها، والعبرة بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني.
خـاتمــة
من خلال بحثنا للأنظمة الإجرائية الجنائية المختلفة، نجد أن أغلبية التشريعات التي تنتمي إلى النظام اللاتيني لم تفرق بوضوح بين المشتبه فيه والمتهم، أي بين مرحلتي الاشتباه والاتهام.
وإذا كان مشرعنا لم يعرف المتهم ولم يميز بينه وبين المشتبه ىفيه، فإنه أطلق “المشتبه فيه” على الشخص خلال مرحلة البحث التمهيدي، واعتبره متهما في مرحلة التحقيق والمحاكمة، أما المشرع الفرنسي فهو إن أطلق لفظ المشتبه فيه على الشخص الخاضع لإجراءات البحث البوليسي، فإنه ميز في التسمية بين الشخص المحال على المحكمة أي محكمة الجنايات، والشخص المحال على محكمة الجنح والمخالفات كما اشرنا لذلك سلفا.
هذا بخلاف التشريع المصري الذي استخدم لفظ المتهم على الشخص ابتداء من مرحلة الاستدلال إلى حين صدور الحكم.
[1] محمد بازي، م س، ص 118.
المراجع:
• أحمد الخمليشي، شرح قانون المسطرة الجنائية، تشريعات قضاء التحقيق في الدول العربية، إصدار المركز العربي للبحوث القانونية والقضائية، الرباط 1989.
• أحمد فتحي سرور، الوجيز في قانون الإجراءات الجنائية، دار النهضة العربية، القاهرة، 1995.
• شادية شومي، حقوق الدفاع خلال مرحلة ما قبل المحاكمة في النظام الجنائي المغربي، أطروحة دكتوراه، كلية الحقوق، جامعة الحسن الثاني، الدار البيضاء، 2002/2003.
• عبد السلام علي مزوغي، حقوق الإنسان بين الانتهاك أو الحماية، الطبعة الأولى، دار الكتب الوطنية، بنغازي، ليبيا.
• محمد بازي، الاعتراف الجنائي في القانون المغربي، دراسة مقارنة، أطروحة لنيل دكتوراه الدولة في القانون الخاص، 2006/2007
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire