الرشوة - ملامح القانون والعمل القضائي


ذ. عبد الرحيم الجامعي
اصطدام سلطة الرشوة بسلطة القانون، موضوع يصعب تحليله واحيانا فهمه
الرشوة، اصطدام بين عدة مفاهيم يؤدي في النهاية الى وحدتها وحدة  متكاملة لا تنافر بينها  حتى  أننا  في  النهاية  نحكم بتحالفها كثوابت تعطينا لوحة مصاغة بصياغة تركيبية، يمكن ان يقراها السوسيولوجي والسياسي والقانوني والاقتصادي والصحفي، ليصلوا غالبا عند معانيها المطابقة لانعدام المساواة بين المواطنين وترسيخ تفرقة ظالمة بين الافراد، بين من يقدر على دفع أموال للحصول على خدمات او مقابل ومصالح مشروعة او غير مشروعة، وبين من لا يقدر على ذلك او  لا يريد او لا يقدر على اثباته، وليصلوا كذلك عند معناها المطابق لاختفاء الثقة في الإدارة والدولة وبالمهمة التي اودعتها لدى موظفيها. وافتقاد الثقة معناه تعميم الفساد واستسلام الجميع لقوته.
وان هذه الورقة ستلامس بتركيز دون إطالة او تفصيل الجانب القانوني والقضائي في تعامله مع الجريمة وليس الظاهرة، اذ ان تدخل التشريع وان كان يبدو انه يعالج مظاهر اجتماعية وينظمها ويكبح  جماح  الخارجين  عن  نظامها،  فان  ذلك يمكن ان يكون من باب دراسة فلسفة القانون او دراسة القانون والسوسيولوجيا، لكن ما يهم هو تناول الجريمة من الناحية التشريعية ومن ناحية العمل القضائي.
وبالتالي تتعين الاشارة بصدد الحديث عن تعامل القانون والعمل  القضائي  مع  جريمة الرشوة، بشكل ربما يظهر ويبدوا جافا، لكن المرجعية القانونية والقضائية هي المطاف الاخير  الذي  عليه  مناهضة هذا السلوك ومحاولة ايقاف انتشارها.
الرشوة في التشريع
اولا : الرشوة والموظف
لابد ان يكون الموظف العمومي هو المرتكب للفعل من اجل ان يقال اننا امام جريمة "رشوة". فصفة الفاعل عنصر هام وبالتالي اذا ما انتفت هذه الصفة او زالت فاننا نخرج من باب جريمة الرشوة.
ولا بد ان نؤكد على ان الموظف في المفهوم الجنائي أي في نظر المشرع الجنائي يختلف عن مفهومه في القانون العام، أي في القانون المعتبر كنظام اساسي للموظف الصادر سنة 1957 وهو المعروف بقانون الوظيفة العمومية.
فالقانون الجنائي عرف الموظف في المادة 224 ونص على انه يعد موظفا عموميا كل شخص كيفما كانت صفته :
-  يعهد اليه في حدود معينة مباشرة وظيفة او مهمة ولو مؤقتة باجر او بدون اجر، ويساهم بذلك في خدمة الدولة او المصالح العمومية او الهيئات البلدية او المؤسسات العمومية او مصلحة ذات نفع عام.
فالجاني في جريمة الرشوة هو شخص يعمل :
-  إما لصالح الادارت العمومية
-  إما لصالح المؤسسات العمومية
-  إما لصالح المؤسسات الجهوية والمحلية
-  إما لصالح المصالح ذات  النفع العام
-  إما عملا مؤقتا او عابرا
-  إما باجرة (مادية او رمزية او معنوية...)
-  إما بدون اجر (تطوع، تبرع...)
من هنا يبدو ان من يعتبر موظفا في القانون الاداري هو موظف في القانون الجنائي. وهناك من يعتبر موظفا في المفهوم الجنائي و لا يعتبر في القانون الاداري كذلك، و لا يدخل في حكم الموظف الخاضع لاحكام قانون الوظيفة العمومية.
وكما سيظهر لاحقا فان اتساع مدلول الموظف في المعنى الجنائي استطاع ان يساعد القضاء كلما عرضت عليه قضايا من هذا النوع ان يصوغ بالاجتهاد دلالات تسع او تشمل عددا من الاشخاص (مستخدمي الابناك، مستخدمي بعض القطاع الشبه العمومي).
ثانيا : العنصر المادي في جريمة الرشوة
الصورة التي تاتي على الوصف القانوني للجريمة قد تتخذ مظاهر منها :
1.  قيام الموظف بتقديم طلب الى صاحب المصلحة بحصوله على مقابل ليقوم بعمله الوظيفي، فالجريمة تقوم بمجرد تقديم الطلب والاعلان عنه باي شكل من الاشكال مباشرة او بصفة ضمنية حتى ولو لم يستجب صاحب المصلحة، فالطلب يعد بصفة مجردة عنصر تنفيذيا وماديا مجرما.
2.  قبول الموظف لوعد او هبة او فائدة، فالمبادرة هنا لا تاتي من الموظف المرتشي بل تاتي من الراشي، حيث يلتقي الطرفان احدهما بالعرض والاخر بالقبول كيفما كانت الطريقة التي تم بها ذلك والوسيلة التي نفذت بها. لا بد هناك من الاشارة الى ملاحظة اساسية وهي هل يمكن الاعتداد بما يسمى "التحريض على الرشوة؟" أي القيام رجال المباحث او الشرطة في التحايل على موظف ما،  وذلك بتدبير تورطه عن طريق دفع شخص لارتشائه؟. سؤال دقيق لابد ان يطرح اشكالا يتعلق بدور رجال الضابطة او الشرطة هل يمكنهم ان يخلقوا ويدعوا جرائم يلصقونها بالموظفين؟ وهل يدخل ذلك في اختصاصهم ام ان وظيفتهم محددة في البحث عن الجرائم وجمع الادلة عنها والبحث عن مرتكبيها، وبالتالي فانهم غير مؤهلين لصناعة المجرمين وصناعة الجرائم؟ وبالتالي  فهل عملهم هذا يعد عملا قانونيا او هو اعتداء على حقوق الموظف وتدبير مؤامرة ضده؟
ولا شك ان هذه الوسيلة وان كانت احيانا تكشف عن المرتشين المتمرسين فانها ستكون خطرا على الابرياء وستفتح الباب لمتابعات مقصودة تتستر في ثوب قانوني صوري وتمس بالمشروعية.
3.  المقابل او المنفعة المراد الحصول عليها في الرشوة قد تكون نقدية باية عملة، وفي أية صورة(السهم، تحويل من حساب لحساب)، وقد تكون غير نقدية في شكل خدمات قابلة للتقويم (سهرة، رحلة سياحية، ليلة جنسية...).
ثالثا : العنصر المعنوي في الرشوة
وهو النية لدى الجاني في التلاعب باعمال الوظيفة، اذ بهذا العنصر تقوم المسؤولية الجنائية ، ولابد في ذلك من ان يتوفر لدى الموظف العلم بان ما تسلمه هو من اجل عمله الوظيفي، ثم الارادة في قبول او طلب الرشوة، فاذا التقى العلم بالارادة قام الركن المعنوي او القصد الجنائي.
وهذا العنصر ــ النية ــ يمكن اكتشافها والتاكد من توفرها بوسائل الاثبات المباحة والمشروعة قانونيا، حيث لم يحدد المشرع للوقوف عليها والتحقق من توفرها لدى الجاني اية طريقة او وسيلة اثبات محددة.
رابعا : الوسيط في عملية الرشوة
الوسيط ادة لتعميم الرشوة واتساعها وهو يعتبر مسؤولا مع المرتشين لان دوره يكون غالبا تحريض الموظف على ارتكاب الرشوة كيفما كان نوع التحريض اما بالقول او بالاشارة.
خامسا : الرشوة جنحة امام المحاكم العادية
جريمة الرشوة اعتبرها القانون الجنائي في الفصل 258 و256 جنحة.
تختلف العقوبة  باختلاف الجهة التي ارتكبتها.
فهي تتراوح بين سنتين و5 سنوات وغرامة اذا ارتكبت من :
-  القاضي.
-  الموظف العمومي.
-  المتولي لمركز نيابي.
-  الحكم.
-  الخبير المعين من السلطة او المختار من قبل الاطراف.
-  المحلف او احد اعضاء هيئة المحكمة.
-  الطبيب، الجراح، طبيب الاسنان او المولدة.
وهي معاقب عليها من سنة الى ثلاث سنوات وغرامة اذا ارتكبت من :
عامل او مستخدم او موكل باجر.
وهي معاقب عليها بنفس العقوبة المقررة اذا :تمت باستعمال العنف او التهديد سواء اكان لذلك نتيجة ام لا.
وهي معاقبة بنفس عقوبة الجناية اذا ادت الى صدور حكم بعقوبة جنائية ضد متهم بفعل الرشوة القاضي او الاعضاء المحلفين او احد قضاة المحكمة.
سادسا : الرشوة الجنائية امام محكمة العدل الخاصة
انشئت محكمة العدل الخاصة بمقتضى قانون 20 مارس 1968 المعدل بظهير06/10/1972 و 25 دجنبر1980.
ولا تعتبر جريمة الرشوة من اختصاص محكمة العدل الخاصة الا اذا توفر شرطان :
-  الاول ان يكون الجاني موظفا طبقا لمفهوم الموظف المحدد في الفصل 224 من القانون الجنائي.
-  الثاني ان تكون قيمة الرشوة 25000 درهم.
-  فالمشرع اعتبر الرشوة جناية اذا ارتكبت من قبل موظف وحدد لها :
1.  عقوبة عادية ما بين 5 و 10 سنوات وغرامة.
2.  عقوبة مشددة اذا كان الغرض من الرشوة القيام بجناية.
الرشوة والعمل القضائي
لا يمكن الحكم على العمل القضائي الا من خلال ما يعرض عليه من ملفات تتعلق بجريمة الرشوة، وبالتالي فان المختصين يعتبرون بان هذه الجريمة تشكل نسبة ضئيلة جدا بالمقارنة مع الملفات التي تحال على القضاء (المحاكم العادية او محكمة العدل الخاصة) (من سنة 1966 الى 1975 احيلت على محكمة العدل الخاصة 333احصاء ماخوذ من مجلة (المحاكم المغربية عدد 12 ص 34، 1976).
ومن جهة اخرى، ان قلة الملفات التي تنظر فيها المحاكم بصدد هذا النوع من الجرائم تفيد من يحاول ان يدرس الظاهرة من حيث ارتفاع او انخفاض نسبتها احصائيا.
ولعل ذلك يعود لاسباب متعددة منها :
1.  ان الرشوة عادة تتم بطريقة مستترة يصعب كشفها بسهولة.
2.  ان الظواهر تفيد انها متفشية بصفة واسعة في مرافق عمومية وشبه عمومية وفي القطاع الخاص، مما لا يمكن معه القيام بعملية انتقائية تستهدف البعض ولا تشمل كل متورط او مشبوه.
3.  انها احيانا تتخذ صورة استغلال لنقود، او شطط في استعمال السلطة، وان كانت هذه ظاهرة خطيرة، فان طبيعتها تختلف عن طبيعة جريمة الرشوة.
4.  ان التخوف والتردد واحيانا التهديد لا يشجع ضحايا الرشوة على فضح المرتشين، وتقديم شكاوى ضدهم او التبليغ عنهم .
5.  انها جريمة ذات جدور اقتصادية اجتماعية، أي هناك تسامح غير رسمي معها وغير معلن ولكنه ضمنيا مستتر وراء ظاهرة فساد عامة لا يتاتى القضاء عليها الا بالقضاء على الامية  والفقر وتحقيق المساواة  وسيادة القانون واستقلال القضاء.
واذا حاولنا النظر الى اتجاه العمل القضائي أي الاتجاهات التي تناولت بها المحاكم هذا الموضوع، فانه سيمكننا من ابراز ملاحظات منها :
1.  ان هناك صعوبة للتعرف على مدى اتساع او تقليص جرائم الرشوة المحالة على المحاكم، وذلك نظرا لعدم نشر القرارات والاحكام.
2.  ان الاحصائيات التي يمكن الحصول عليها غالبا ما تتعلق بعدد الجرائم سواء في ميدان المخدرات، او السرقات او حوادث السير، او جنح الاحداث... ام ما يتعلق بجرائم الرشوة فانه يصعب العثور على ارقام واحصائيات تبين القطاعات الاكثر تعرضا لهذه الجرائم و الطبقة المحددة من الموظفين الذين تنتشر في وسطهم هذه الظاهرة.
لكن، يمكن ان نقدم ملاحظات حسب بعض الدراسات التي قام بها بعض المهتمين القانونيين.
ان الاتجاهات العامة للعمل القضائي في ميدان مكافحة جريمة الرشوة تتميز بما يلي :
1.  ان القضاء لا يعتد بنوع العمل او الوظيفة التي يقوم بها الموظف لدى الادارة أو المؤسسة العمومية، اذ ان الجريمة تنطبق على المعني بالامر مهما كانت المهام المكلف بها مؤقتة، يومية، مستمرة، نظامية ام تعاقدية.
2.  ان القضاء اعتبر المستخدم سواء قام بعمل اختياري ام اجباري لصالح الدولة او مصلحة عمومية يعد في نظره موظفا مثل الترجمان الذي تسند اليه مهمة القيام بترجمة امام القضاء، ومثل الشخص المكلف بالاشراف على مكتب الانتخاب.
3.  اتساع مدلول المؤسسات العمومية والمستخدمين لديها واظفاء صبغة الموظف بالمدلول الجنائي عليهم، مثل ذلك مستخدمو البنك الشعبي، المكتب الوطني للماء الصالح للشرب، المكتب الوطني للكهرباء، بنك المغرب، الخ.
انظر : حكم محكمة العدل الخاصة المتعلق بالقرض الشعبي، ملف 392.
انظر : حكم محكمة العدل الخاصة المتعلق بالخطوط المغربية ملف 404، 10/07/1975.
4.  اعتبار الموظف مسؤولا عن الرشوة ولو كان العمل المطلوب منه القيام به من قبل  صاحب المصلحة لا يدخل في اختصاصه بل يكفي ان تكون مهامه ووظيفته سهلت عليه او كان من الممكن ان تسهل عليه باعتماد خاطئ القيام بالعمل او الامتناع عنه.
5.  اتجه عمل المجلس الاعلى على اعتبار ان الرشوة تتحقق اذا كان انجاز العمل متوقفا على تسليم المكافاة وبالتالي لا يعتبر رشوة طلب وتسلم المكافاة بعد انجاز العمل.
6.  ان اثبات جريمة الرشوة يتم طبعا بالاعتراف، وبالشهادة، ظهور علامات الثراء.
المعيار المتفاوض عليه : الاساس الثقافي للتصرف "بحرية" مع القانون.

Aucun commentaire: