“المؤسسات الحديثة” للمجتمع المدني – بعض سياقات التبلور في الحالة العربية


الدكتور محمد البكوري باحث  في الحكامة والمجتمع المدني .

مقدمة :
نشأت منظمات المجتمع المدني كضرورة فرضتها مجموعة من المتغيرات التي شملت ميادين العلم والصناعة والتجارة والاجتماع والسياسة، هذه المتغيرات حدثت أولا في المجتمعات الأوروبـية ولاحقا في المجتمعات الأخرى، كما أنها أطاحت بالصيغ والتنظيمات التي كانت قائمة وخلقت صيغا وتنظيمات جديدة بديلة كالجمعيات والنقابات مثلا، فجاءت ولادة منظمات المجتمع المدني كتعبير عـن مرحلة جديدة في تاريخ هذه المجتمعات(1).
إن الكيان المؤسساتي سيتبلور بشكل جديد مع تراجع الهيئات التقليدية كالأسرة والعشيرة والقبيلة مثلا، والتي كانت بمثابة أساس المجتمع المدني في المجتمعات العربية منذ مئات السنين قبل بـروز المنظمات الحديثة، للمجتمع المدني، والتي يدخل في دائرتها كل كيان مجتمعي منظم يقوم على العضوية المنتظمة تبعا للغرض العام أو المهنة أو العمل التطوعي، ولا يستند في العضوية على عوامل الوراثـة وروابط الدم والولاءات. وبالتالي يمكن الوقوف على أهم مكونات المجتمع المدني في وجهها الحديث كما يلي: (النقابات المهنية، النقابات العمالية، الحركات الاجتماعية، الجمعيات التعاونية، الجمعيات الأهلية، نوادي هيئات التدريس بالجامعات، النوادي الرياضية والاجتماعية، مراكز الشباب والاتحادات الطلابية، الغرف التجارية والصناعية وجماعات رجال الأعمال، المنظمات غير الحكومية الدفاعية والتنموية كمراكز حقوق الإنسان والمرأة والتنمية والبيئة، الصحافة الحرة وأجهزة الإعلام، والنشر، مراكز البحوث والدراسات والجمعيات الثقافية…)(2)
وهناك من يرى أن المؤسسات الحديثة للمجتمع المدني تتبلور باعتبارها مجمــوع المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تعمل في ميادينها المختلفة في استقلال نسبـي عن سلطة الدولة لأغراض متعددة، ومنها:
* غايات نقابية، كالدفاع عن المصالح الاقتصادية لأعضاء النقابة والارتقاء بمستوى المهنة والتعبير عـن مصالح أعضائها.
* أغراض ثقافية، كما في اتحادات الكتاب والمثقفين والجمعيات الثقافية التي تهدف إلى نشر الوعي وفقـا لاتجاهات أعضاء كل جمعية.
* أغراض اجتماعية، للإسهام في العمل الاجتماعي لتحقيق التنمية.
* أغراض سياسية، كالمشاركة في صنع القرار على المستوى الوطني، ومثال ذلك الأحزاب السياسية.
رغم أن هذه الأخيرة هي موضع جدل قائم حول انتمائيتها إلى هيئات ومكونات المجتمـع المدني، فإنه كثيرا ما تم اعتبارها من العناصر البارزة في المؤسسات الحديثة للمجتمع المدني بالإضافة إلى النقابات العمالية، الاتحادات المهنية، الجمعيات الثقافية والاجتماعية(3) ، بل وجعلها من أهم مقومات المجتمع المدني،(4) والتي تعتبر بمثابة قنوات يعبر بواسطتها عن مصالح وأهداف المجتمع الحديــث برمته، وتمكنه من الدفاع عن نفسه بطرق سلمية، واقفة بذلك في مواجهة طغيان سلطة الدولة(5) ، عبر قيام هذه المؤسسات بعملية تدمير مستمر للبنيات التقليدية التي تحجز التطور وتكبح سيرورة التاريـخ(6)، وعبر حرصها كمؤسسات اجتماعية التموقع في موقع الوسط بين المؤسسات الاجتماعية الأولية (الأســرة، القبيلة، العشيرة..) والدولة كمؤسسات وقوانين(7).
وعموما، فالمؤسسات الحديثة هي القادرة على إبراز البعد المتنوع والمتعدد لمفهوم المجتمع المدنـي، وان كان من الصعب حصر كل هذه المؤسسات، فمن الممكن الوقوف على بعضها من قبيل النقابـات ووسائل الإعلام ودون إغفال الحديث عن الأحزاب السياسية والجدل القائم حول انتمائيتها لهذه المؤسسات.
 أولا: النقابات المهنية:
هناك علاقة بين العمل النقابي والعمل السياسي. إلا أن هذه العلاقة قـد شكلت على الدوام إشكالية عويصة في مختلف الأنظمة السياسية(8).وفي هذا الصدد، يمكن القول بأن هنالك عدة نماذج نظرية تؤطر العلاقة بين النقابة والحزب السياسي، يمكن اختصارها كما يلي:
– النموذج الذي كان سائدا في أوروبا الشرقية، والذي ترتبط فيه النقابة بالحزب وتصبح تابعة له حسب التصور اللينيني.
– النموذج السائد في بريطانيا ويتميز بتبعية الحزب للنقابة. حيث تزود هذه الأخيرة الحزب بمناضليـه وتساهم في دعمه ماديا بتمويل حملاته الانتخابية،  كما هو الشأن بالنسبة للحزب العمالي.
– الاستقلال التام والمتبادل بين النقابة والحزب، كما هو الشأن في الولايات المتحدة الأمريكية(9).
– ثم يمكن إضافة النموذج الفرنسي، حيث توجد علاقات متميزة بين النقابات وبعض الأحزاب السياسية دون أن تكون هنالك تبعية مطلقة من هذا الطرف أو ذاك(10).
إن كثير من الدول الصناعية المتقدمة أخذت هي الأخرى تعرف عزوفا كبيرا من طرف المأجورين عن العمل النقابي، كما هو الشأن مثلا في انجلترا وألمانيا وهما دولتان معروفتان بكثافة عمل نقاباتهما وقوتهما(11). أما في فرنسا فقد عرف الأمر إحجاما خطيرا وأضحى مشكلا مؤرقا بالنسبة للمسؤولين النقابيين، حيث أصبح هناك أقل من مأجور من بين عشرة ينخرط في نقابة معينة، وهي نسبة لم تسجل قط في تاريخ فرنسا الحديثة، غير أن الأمر هنا لا يهم النشاط النقابي فحسب، بل مجموع الأعمال التمثيلـية في الأنظمة الديمقراطية، حيث أصبحت نسبة الامتناع عن التصويت في الانتخابات العامة تأخذ أحجامـا كبيرة، فتراجع النقابات هنا مرتبط بتراجع الأحزاب، وبفقدان السلطة السياسية للكثير من مصداقيتهـا(12).
كذلك نجد أن من بين أسباب ضعف النقابات وقلة عدد منخرطيها ضعف القطاع الصناعي. فعنـد ظهورها كانت النقابات تتشكل أساسا من عمال المصانع والمناجم، ولم تنفتح على المأجورين المنتمين إلى قطاعات أخرى إلا في مرحلة لاحقة، بعد تنامي عدد الموظفين المستخدمين في الوظيفة العمومية وفـي القطاع الثالث . ومع ذلك فان العمال ظلوا يشكلون المكون الأساسي للنقابات في الدول الصناعية، والقوة التي تعتمد عليها في نضالاتها(13).
ويمكن القول، بأن الحجم الكبير للبطالة في المجتمع لا يساعد على انخراط العمال في النقابات. حيث يعتبر العامل نفسه محظوظا لحصوله على عمل، بينما هنالك آلاف الأشخاص الذين يبدون استعدادهم للشغل مهما كانت الظروف، وهذا ما يلاحظ أيضا في الدول الصناعية، إذ يعرف النشاط النقابي تراجعا ملحوظـا أثناء الأزمات الاقتصادية وارتفاع نسبة البطالة(14).
وقد أظهرت الأبحاث أنه كلما كانت الصناعة أكثر تقنية وتعقيدا وأصبح العمال أكثر كفاءة، كلما كان العمـل النقابي أكثر كثافة، وكلما أصبحت النضالات العمالية أكثر فعالية(15)
ومن المعلوم أن الإضراب يعتبر أهم أداة وسلاح تملكه النقابة من أجل إسماع صوتها وفرض مطالبها وهو سلاح لا يتوفر عليه أي تنظيم آخر وأي مكون من مكونات المجتمع المدني، وذلك هو السر في قـوة النقابات(16).
إن المجتمع المدني المتطور لا يقتصر في العمل العام على الأحزاب السياسية، وإنما تشاركه فـي ذلك ومن منطلقات غير حزبية، تنظيمات المجتمع المدني كافة بما فيها النقابات.
إن النقابات العمالية في بعض الأقطار العربية كانت أسبق في التشكل من الأحزاب السياسية، واضطلعت بأدوار كبيرة لتأثيرات خارجية، إذ شكلت نواة مركزية للمجتمع المدني باعتبارها أكبر فضاء خارج هياكل الدولة، مقارنة مع بعض الأحزاب الوطنية وزيادة على إشعاعها العام لدى فئات اجتماعيـة أخرى قريبة من الفئات العمالية استطاعت في بعض الظروف السياسية والاقتصادية المواتية أن تقوم بعملية تحالفات واسعة معها جسدت عمليا سلطة موازية تملك قوة الاقتراح والممارسة في موازاة قوة الدولة، بل أن بعض النخب النقابية قد فكرت عمليا بإنشاء أحزابها أو التأثير في الأحزاب الوطنية والحكومات، لتمرير برامـج اقتصادية واجتماعية نقابية.
وتكمن أهمية التنظيم النقابي السليم في الحفاظ على الوحدة الوطنية في مواجهة محاولات التأثير الطائفي والديني والعرقي والقومي والاثني. لكن مع ذلك يبقى التنظيم النقابي العمالي في الوطن العربـي مسوما بنقط ضعف عديدة من أهمها ما يلي:
* ضعف قاعدة الاقتصاد القطري وهياكله.
* ضعف البنى الجماهيرية القطرية.
* ضعف المناخ الديمقراطي العام وشبه غياب للحريات الأساسية الفردية والجماعية.
* بروز ظاهرة تسيس النقابات وتحزيبها، الشيء الذي كان سببا في الهجمات المتتالية على الحركـة النقابية، التي تقوم بها الأنظمة العسكرية وأحيانا الأحزاب التقليدية وبخاصة في المشرق العربي.
وفي الوقت الذي يلاحظ فيه ضعف النقابات العمالية في الوطن العربي، يتزايد باطراد دور النقابات المهنية، ويرتبط هذا بأمرين:
أولهما: طبيعة النشاط النقابي الذي يفرض اهتماما بالحريات السياسية وغيرها، بحكم أهمية أصحاب هـذه المهن، وما تتمتع به نقاباتهم من قدرات تنظيمية وموارد فكرية ومادية في كل قطر عربي، مثل نقابات المحامين والصحفيين والمهندسين والأطباء والمعلمين وما إلى ذلك.
ثانيهما: سيطرة اتجاهات معارضة للحكومات على المجالس إدارة النقابات، ولو لم تكن بالأساس ذات نشاط له سمة سياسية،  مثل نقابات الأطباء والمهندسين في مصر،  وهو ما تجسد في فترة الحراك العربي، حيث برزت قوتها بشكل كبير. ويعظم من دور النقابات المهنية في بعـض الأقطار العربية، غياب الأحزاب السياسية  المسموح لها بالنشاط أو ضعفها، وحقيقة أن أعضاء كل النقابـة يمثلون فيما بينهم معظم التيارات الأيديولوجية، ومن ثم فهم عندما يتحركون يراعون القاسم المشترك الأعظم فيما بينهم، أي ما ينعقد عليه الإجماع كمصلحة وطنية.
ومما يزيد من أهمية هذا النمط من المؤسسات الحديثة للمجتمع المدني هو اعتماده على معيـار التنظيم الذاتي(17) ، الذي يعد معيارا حاسما للتمييز بينها وبين الأحزاب السياسية، والتي يمكن القـول أن تقلصها وعجزها ساهم إلى حد كبير في تزايد أعداد منظمات المجتمع المدني وتنامي دورها(18).
ثانيا: وسائل الإعلام:
هنا نطرح التساؤل التالي: ما هو دور ومكانة وسائل الإعلام؟
إن تساؤلا من هذا النوع حول مكانة وسائل الإعلام في صيرورة المجتمع المدني، في السنوات الأخيرة وفي جميع أرجاء العالم يبرز لنا التدخل الحاسم لوسائل الإعلام في احتضار بعض المجتمعات المدنية وبزوغ أخرى. فسواء استحضرنا ذا المثال أو ذاك من دول الشمال أو الشرق أو الجنوب. فهـذه الوسائل تعتبر بمثابة القاسم المشترك،  وهي في مقدمة مسرح التحولات التي أدت إلى ولادة مجتمع مدني سيكتسح بالفعل الحياة العامة، بل تلعب دورا حاسما في ولادة هذا المجتمع المدني،  فهي في الواقع ليست إلا إفصاحا عن الحركات الباطنية المتراكمة والنشيطة بمجتمع ما، ما دام بإمكان وسائل الإعلام أن تعيش صيغة الحصار وانفصال تام عن جمهورها .
إن وسائل الإعلام على الرغم من كونها موجها في دينامية المجتمع المدني، فإنها لا يمكن أن تعوض الصراع السياسي ومكتسباته خاصة عندما تكون أطر الصراع السياسي، هي  القادرة على الدفع بالبيئة المناسبة لبعد الإفصاح والتعبير الذي تمثله وسائل الإعلام، وهي البيئة التي تنتعش في أجواء الديمقراطية ودولة القانون وحرية التعبير. ومن جهة أخرى، يمكن أن تلعب وسائل الإعلام دورا سلبيا وملوثا في مرحلة ولادة المجتمع المدني في حالة غياب الأخلاق المهنية. فالمحافظة على هذه الأخلاق المهنيـة هي التي تسمح لوسائل الإعلام بالارتقاء بالمجتمع المدني في جو صحي وفي إطار من الشفافية(19).
وعموما، يعتبر الإعلام الحر والمستقل جزءا من المجتمع المدني بما يوفره للمواطنين من معارف تساعد على غرس قيم الثقافة المدنية وتطورها، مساهما بذلك في تكوين رأي عام متفهم لضرورات تطوير مؤسسات يمارس  المواطنون من خلالها دورا ايجابيا في الدفاع عن مصالحهم وتحسين أحوالهـم، وممارسة التضامن الجماعي بما يقوي قدرتهم في مواجهة إمكانيات الدولة الهائلة، كما يساعد الإعلام الحر والمستقل على تأكيد قيم الحوار والتسامح والتراضي على حلول وسط من خلال وسائل التنافـس السلمية. ونحن نلاحظ أن هذا الدور الإعلامي مفتقد في كثير من الأقطار العربية، حيث تحرص الحكومات على إحكام سيطرتها على أجهزة الإعلام الجماهيري كالتلفيزيون والإذاعة واحتكارها، بحيث لا تعبـر إلا عن رأي الدولة، وتعمل هذه الحكومات أيضا على الحد من حرية الصحافة. ولهذا فان جزءا هاما مـن تحرك مؤسسات المجتمع المدني والقوى الديمقراطية يجب أن يوجه إلى تحرير الإعلام من السيطرة الحكومية، وإتاحة الفرصة لكل اتجاهات الرأي أن تعبر عن نفسها، وأن تتحول أجهزة الإعلام إلى منابر للحوار الحر ومصادر للمعلومات المتحررة من أي قيد، وإثراء معارف المواطنين بما يمكنهم من التجاوب مع تطلبات المشاركة الايجابية، والتفاعل بشكل سليم مع التعددية الثقافية والدينية والسياسيـة التي هي إحدى السمات الأساسية في المجتمع العربي(20). ولتحقيق ذلك يكتسب تحرير الإذاعة والتليفزيون من سيطرة الحكومة أهمية خاصة، وتعديل القوانين المنظمة لها، لتصبح جهازا إعلاميا مستقلا تمثل فيها التيارات الفكرية والسياسية، وتحصل من خلالها الأحزاب السياسية على فرص متكافئة لمخاطبة الشعب وإلغاء الرقابة الحكومية على الإذاعة والتليفزيون عدا ما يتعلق بالآداب العامة، وتعديـل قوانين الصحافة والمطبوعات والنشر لفتح الباب أمام حرية إصدار الصحف، وتعديل المواد والنصوص القانونية التي تفرض عقوبات قاسية على قضايا الرأي والنشر(21).
وفي منأى عن اعتبار وسائل الإعلام جزءا من المجتمع المدني يظل الإعلام مسألة حيوية بالنسبـة لتطور منظمات المجتمع المدني بعيدا عن المسؤولية الحكومية، لأنه عن طريق الإعلام يمكن أن تعـرف هذه الجمعيات بنفسها وأهدافها، وعن طريق الإعلام يمكن أن تؤسس لعلاقات وثيقة مع الرأي العام، ثـم عبر الإعلام يمكن أن يتوفر نوع من خطاب المجتمع المدني بخصوصياته مما يخلق آثارا، يمكن أن تنتقـل إلى دوائر أوسع على مستوى الحياة السياسية أو على مستوى أصحاب القرار أو على مستوى أوساط القطاع العام.
من هنا يمكن القول،  أن هناك مشكلة مطروحة بين جمعيات المجتمع المدني وبين وسائـل الإعلام. والمسؤولية هنا مشتركة، فمن جهة ليست لمنظمات المجتمع المدني استراتيجيات واضحة، فهي جمعيات تقوم بنشاطات، وتنتظر أن يأتيها الصحافيون في مؤتمر صحافي لكي ينظر ما سيقوله مسؤولوا هذه الجمعيات. وهذه ليست إستراتيجية إعلامية بل هذا نوع من حالة الانتظار غير المجدية، فعلى منظمـات المجتمع المدني أن تنظر إلى المسألة الإعلامية بشكل مختلف، كأن تدخل في حوار مباشر مع الصحافييــن ووسائل الإعلام، أي عليها أن تستقطب الصحافيين إلى مقراتها، وأن تطور إعلامها الخاص بها من خلال مواقعها الالكترونية، فتنتج برامج قابلة للتسويق الإعلامي، وبالخصوص على هذه الجمعيات أن تنجح فـي تحقيق نماذج وبرامج وتخوض تجارب تلفت نظر الإعلاميين، فالتجارب الناجحة تستقطب الصحافيين، في المقابل يجب تشكيل اختصاص في المعاهد يتولى تكوين صحافيين في مجال المجتمع المدني،  كما هـو الحال في الرياضة وفي التحليل السياسي. كذلك يجب التفكير في تكوين صحافيين يعرفون كيف يتناولون القضايا ويعالجونها. بتدخلها في التوجهات السياسية العامة للبلاد وبقيامها بإضرابات ذات طابع سياسي، فان الهدف من سلوك وسائل الإعلام هذا ليس هو الوصول إلى السلطة السياسية ولكن التأثير عليها ومراقبتها(22).
ثالثا: الأحزاب السياسية:
 تستمد الأحزاب والجماعات السياسية حياتها من الصور والتمثلات التي تحيى من خلالها في أذهان الجماهير. ولعل ظاهرة الانتخابات وارتكازها على كمية الأصوات المشاركة والمؤيدة لأحد المؤشـرات القوية في هذا الباب.
من المفترض أن تكون الأحزاب والجماعات السياسية أداة تطوعية مبدئية ونزيهة تهدف إلى خدمة المجتمع وفق قناعاتها ومصالحها. وهذا يعني أن هناك مصالح واضحة يتم الارتكاز عليها والاحتكام لهـا في عمليات تشكيل الأحزاب والجماعات السياسية. كما أن الدفاع عن تلك المصالح يجعل المجتمع معنيـا بكل العمليات المرتبطة بانتقال السلطة من فئة إلى أخرى أو من تحالف سياسي إلى آخر.
إن الأحزاب والجماعات السياسية هي نخب تحكمها نخب، وهذه الأخيرة تسيرها شخصيات نافذة، وهذه الأخيرة بدورها تفوض أمر توازناتها لشخصية محورية هي الزعيم. وفي حالة انعدام هذه الشخصيات النافذة التي تتضمن الزعيم تتعرض تلك الأحزاب للانشقاقات والضياع والتهميش.
تهدف هذه الأحزاب والجماعات السياسية إلى الوصول إلى الحكم ضدا على المجتمع الذي لا يكون مؤهلا لتقديم سند فعلي شرعي أو ثوري عند الانتخابات أو التظاهرات.
إن غياب ذلك السند الشعبي في الأساس هو الذي يفرض على الأحزاب والجماعات النخبوية تبني أقصر الطرق، مهما طالت، للوصول إلى السلطـة(23).
هكذا، فالأحزاب السياسية تقع خارج إطار المجتمع المدني، فهي جزء من المجتمع السياسي باعتبارها تسعى إلى الوصول إلى السلطة،  في حين لا تهدف مؤسسات المجتمع المدني للوصول إلى نفس الغرض(24).
و-هناك – بعض الالتباسات التي تخترق القوانين المنظمة للحياة الجمعوية والسياسية المغربية مثلا،   حيث أننا لا نعثر في ظهير الحريات العامة وقانون الأحزاب السياسية على أي فصل أو تمييز بين الحزب السياسي والجمعــية، إذ يسجل خضوع العمل الحزبي سواء من حيث التنظيم أو التأسيس أو الحل أو التمويل لقانون الجمعيات.
وهذا التداخل سبب في كثير من الاختلالات، لأن الأدوار والوظائف المنوطة بالجمعيات ليست هي نفسها الموكلة للأحزاب السياسية كما هو متعارف عليه في التعريفات النظرية لهذه المفاهيم.
إن الهيئات والجمعيات المدنية تسعى إلى التأثير في الحياة العامة وفي المخططات مـن دون أن يرقى هذا التأثير إلى مستوى طرح البدائل الكبرى  (كما هو الشأن بالنسبة للحـزب السياسي). كما أن الانتماء إلى هذه الجمعيات والهيئات المدنية لا يتم بالطريقة نفسها لدى الحـزب السياسي. فطبيعة العمل الداخلي والديمقراطية الداخلية والعضوية وغيرها، تختلف اختلافا بينا عـن الأنماط السائدة داخل الأحزاب(25).
ومن ثم هناك جدل حول اعتبار الأحزاب السياسية من مكونات المجتمع المدني أم لا .وتعتبر وجهة النظر التي ترى أن الأحزاب من مكونات المجتمع المدني أن هذه الأحزاب هي الأكثر فعالية وتنظيما للمجتمـع والأكثر تعبيرا عن مطالبه في مواجهة السلطة، كما ترى أن قوة المجتمع المدني من ناحية قدرته للحد مـن سلطة الحكومة وتأثيرها على السياسة يستمد نفوذه من وجود حيوية ودينامية أحزاب المعارضة، وكثيرا ما يعول أصحاب وجهة النظر هذه على دور الأحزاب في التحول الديمقراطي لا سيما في المجتمعـات السلطوية، لذا يعتبرون أن الأحزاب من مكونات المجتمع المدني كي يحققوا أهدافهم. فيما أن وجهة النظـر التي تستثني الأحزاب من المجتمع المدني تبدي قلقها أن يؤدي تضمين الأحزاب إلى المجتمع المدني إلى “تشريع” مستتر لهيمنة “السياسي” على “المدني” وانتفاء إمكانية التفريق بينهما، والاستحواذ على مصادر القوة والنفوذ لا سيما بالنسبة لحزب السلطة بحيث لا تتمكن منظمات المجتمع المدني على مضاهاته في الإمكانيات، والتخوف من أن يبسط حزب السلطة سطوته على منظماته، وأن يستحوذ علـى معظم مساحته، والتخوف من الإلحاق الطوعي أو القسري لمختلف المنظمات “المدنية” بالأحـزاب السياسية، بحيث يصبح المجتمع المدني مجتمعا سياسيا لا يشكل حاجزا بين الفرد والدولة، وإنما يكـون الامتداد الطبيعي لسلطتها وسطوتها. وكذلك ترى وجهة النظر هذه أن الأحزاب تسعى للسلطة، وهـي بدورها بين لحظة وأخرى، قد تصبح جزءا من الدولة وصانعة القرار، الذي لابد أن يحاول المجتمع المدني التأثير عليه، لذلك تدافع عن استثناء الأحزاب من المجتمع المدني(26).
وإذا كان الحزب يهدف إلى المشاركة السياسية على أساس برنامج عام يصبو إلى تحقيق التغيير في ميادين شتى، فإن العمل الجمعوي انتقائي، يشدد على غاية معينة، ويركز اجتهاداته من أجل تحقيقها.
فالحزب يعمد إلى التأطير، أما الجمعية فتصبو إلى خدمة المصالح العامة، عبر تنبيه السلطات إلى مكان وجود الخلـل(27).
كما يستثني البعض الأحزاب السياسية من تشكيل المجتمع المدني، لافتراض أنها تسعى للوصول إلى السلطة (الحكومة)، في حين يصر البعض الآخر على مركزية دورها في المجتمع المدني، كونها لا تسعـى إلى استلام السلطة فقط، بل لأنها تطرح برامج اجتماعية واقتصادية وتعليمية وغيرها… ولذا يستثني البعض الأحزاب الحاكمة من المجتمع المدني ويعتبر أحزاب المعارضة من ضمنه.
كما أنه مازال جدل يـدور حول ما إذا كانت التشكيلات القائمة على أساس الدين أو الطائفة أوالإثنية تشكل جزءا من المجتمع المدني أم ينبغي استثناؤها منه. فالبعض يرى أنها من صلب المجتمع المدني، باعتبارها في أحيان كثيرة تسعى إلى التغيير والدفاع عن حقوق وتطلعات فئات واسعة في المجتمع، وتضغط على مراكز القـرار، وأحيانا توجه سهامها نحو لا إنسانية السوق الرأسمالي وعجزه عن التنمية الفعلية والعادلة والمتوازنة(28).
خاتمة :
إن المسارات الجديدة والمعاصرة لبراديغم المجتمع المدني تجعل تركيبات المجتمع المدني تتشكل بالتشابك مع تبلور السياقات الفردانية أو الفئوية القائمة على النفعية والعضوانية والتوافقية، وهي تتطلب ترسبات تاريخية على مستوى إقرار الحقوق المدنية والانتظام الذاتي والممارسات المستحقة والتعاضدية (مفهوم المواطنة، مفهوم التدبير المحلي، مفهوم التكافل المؤسسي، مفهوم المساواة بين الرجل والمرأة، مفهوم حقوق الإنسان، مفهوم الديمقراطية، الخ)
كل هذه “التراكمات” المدنية العميقة سوف نجدها، في آخر القرن العشرين، تركب آليات “التشميل” و”العولمة” وتنتقل في سرعة البرق إلى بلدان لم تتوطن فيها بعد الأسباب التاريخية – السياسية والثقافية – لقيام هياكل المجتمع المدني. وهو الشيء الذي مافتئ يتأكد في القرن الحالي على مستوى المجتمعات العربية خصوصا.
من هنا، يمكن فهم “مأزق “التركيبات الحديثة للمجتمع المدني وعدم قدرتها على الترسخ والتوغل في البنيات المجتمعية والارتقاء إلى مستويات الفعل والتأثير. كل هذه المعطيات تساهم بشكل أو بآخر في انصهار المكونات الحديثة للمجتمع المدني في صيرورة التغيير الذي ظل ولزمن بعيد مطمحها الأساسي، حتى وإن كان وفق رؤية تقليدية، فإن تشكلها الحديث والحداثي سيؤكد بلا شك مدى أهمية أدوارها في هذه الصيرورة. هنا، يمكن الحديث  عن ارهاصات لنشأة مفهوم “المجتمع المدني الافتراضي”، في ظل عالم  أخذت تتحكم في عوالمه، تنظيمات شبائكية متنوعة وتيارات  عنكبوتية معقدة .

الاحالات :
[1] واصف منصور، “المجتمع المدني: الضرورات، التحديات والمحاذير” (دار النشر المغربية، الدار البيضاء 2007)، ص: 18.
[2] عبد الغفار شكر، “المجتمع المدني ودوره في بناء الديمقراطية” ضمن ” المجتمع الأهلي ودوره في بناء الديمقراطية” (دار الفكر، دمشق، الطبعة الأولى،  2003)، ص: 45.
[3] رشيد سعيد، كريم لحرش “الحكامة الجيدة بالمغرب ومتطلبات التنمية البشرية المستدامة” (طوب بريس، الرباط،الطبعة الأولى، أبريل 2009)،ص: 145.
[4] حسن قرنفل “المجتمع المدني والنخبة السياسية إقصاء أم تكامل؟”، (مطابع إفريقيا للشرق، الدار البيضاء 1997)، ص:57.
[5] عبد الرزاق البدوي، “المجتمع المدني” مجلة آفاق، عدد3/4،  1992، ص: 192.
[6] عبد الإله بلقزيز، “في الديمقراطية والمجتمع المدني. مراثي الواقع ،مدائح الأسطورة” (إفريقيا الشرق الدار البيضاء 2001)، ص: 23.
[7] مصطفى محسن، “العمل الجمعوي والتنمية البشرية”، مجلة الشعلة عدد مزدوج 9/10، ماي 2005،  ص:  41.
[8] Michel Branciard , « syndicats et partis. Autonomie ou dépendance  1948/1981» (Eds. (Eds Syros 1982), P 9    [9] Jean Daniel Reynaud « Les syndicats  en France  T1». (Eds Seuil Paris 1975),   P  280..
[10] حسن قرنفل، مرجع سابق ، ص: 64.
[11] Dominique Ladal Maurice Criosat  « les finales syndicats». (Eds l’Harmattan, Paris  1992),P14.
Ibid.  P 13 [13]حسن قرنفل، مرجع سابق، ص: 68.                                      [14]Alain Touriaine « Pour la sociologie »(Eds Seuil Paris 1974).  P 150.
[15] Serge Mallet « La nouvelle classe ouvrière » (Eds   Seuil Paris 1969) ,p :  86.                     
[16] حسن قرنفل، مرجع سابق،  ص: 70.
[17]Sarah Ben Nefissa  «ONG et gouvernance dans le Monde Arabe : L’enjeu   Démocratique  (Editions KARTHALA. CEDEJ 2004) , P4..
[18] واصف منصور،  مرجع سابق، ص: 56.
[19] جمال الدين الناجي “وسائل الإعلام” مجلة آفاق، العدد 4/3،  1992،  ص: 178.
[20] عبد الغفار شكر، مرجع سابق،  ص: 88.
[21] حسين عبد الرزاق، “الديمقراطية، كتاب مصر وقضايا المستقبل”، سلسلة كتاب الأهالي، نشر جريدة الأهالي، العدد 60 ،سبتمبر 1997 ص:52.
[22] حسن قرنفل، مرجع سابق، ص: 58.
[23] محمد الهلالي “التنظيمات السياسية المغربية وحروب الشرعية” مجلة نوافذ، العدد الثامن/التاسع، يوليوز 2000، ص:133.
[24] توفيق بوعشرين ، “محنة المجتمع المدني في المغرب، المفاهيم والسياقات وإشكالية التوظيف”، مجلة وجهة النظر، العدد 7 ربيع 2000 ،  ص: 4.
[25] محمد الغيلاني،”محنة المجتمع المدني: مفارقات الوظيفة ورهانات  الاستقلالية” دفاتر وجهة نظر (6) ، (مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 2005)،   ، ص: 86.
[26] نادية أبو زاهر،”غموض مفهوم المجتمع المدني ونظرة سريعة حول زئبقيته” الحوار المتمدن، العدد 2089، 4 نونبر 2007.
[27] حميد  العموري،”المجتمع المدني  في المغرب، الواقع  وتحديات المستقبل” وجهة  نظر،  العدد7 ، ربيع 2000، ص7.
[28] جميل هلال،  “حول إشكاليات مفهوم المجتمع المدني”، مداخلة في ندوة المجتمع المدني المنعقدة ببيروت، أكتوبر 2004، موقع اللاذقية بتاريخ: 15 ماي 2008 .

Aucun commentaire: