العلاقة بين الفصام العقلي أو «الشيزوفرينيا» والجريمة ليست بذلك الوضوح الذي يمكن تصوره. هذه العلاقة معَّقدة؛ بيدَ أنه يمكن فحصها بطريقتين؛ الأولى بالنظر إلى الجريمة والمجرمين،
وسبر أغوار الأدلة الجنائية التي تربط العلاقة بين أنواع محددة من الجرائم وبعض الشرائح من المجرمين، وثانياً بالبحث عن ماهية أوجه الأعراض الخاصة أو الخلل العقلي الذي يمكن أن يؤدي بالفرد إلى الجنوح تجاه السلوك الإجرامي. وبناء على ذلك، نتناول العلاقة بين الفصام العقلي والجريمة، ثم سنتطرق إلى الأدلة الجنائية التي تربط الفصام العقلي بالجريمة. لقد ثنَّى الباحث سبري على مقولة العالم برنس هرشل حينما ذكر بأن الفصام العقلي يرتبط في أذهان عامة الناس بالإنحراف، وجرائم العنف. وبأن مثل هذه الأنشطة الإجرامية قد تؤدي إلى صيت وشهرة مرتكبيها، خاصة إذا اقترن السلوك باستهداف شخصيات عامة هامة. ومن هذه النقطة، يمكن لنا استخلاص أن هؤلاء الجناة عادة ما تُشخَّص حالاتهم بأنها أوهام وهوى خيلائي ربما تلقى مثل هذه الحالات الكثير من الصدى في المجتمع. وعلى نفس المنوال، تميل وسائل الإعلام إلى ربط الأمراض العقلية بجرائم العنف بغض النظر عن كون البحوث العلمية لا تشير إلى كون مرضى الفصام العقلي، بصفة عامة، أكثر ميلاً إلى جرائم العنف هذا الصيت السيئ ظهر من قضايا أولئك ذوي السوابق الجرمية في ارتكاب جرائم العنف والذين سبق إصابتهم بمرض نفسي على ارتكابهم لها. يؤيد هذا القول العالم روبرتسون عندما أورد بأن «الصفة السائدة لدى مرضى الفصام العقلي هي أنهم ليسوا أكثر نزعة لارتكاب جرائم العنف، والمشكلة تكمن في أنهم ــ عند مقارنتهم بالمجرمين الآخرين ــ الأكثر عرضة للإشتباه والوقوع في القبض بيد الشرطة بينما كانت هنالك بعض الأدلة المستخلصة من حفنة من البحوث التي تشير إلى مرضى الفصام العقلي خاصة أولئك الذين هم من الفئة المصنفة بالإصابة بالهوى الخيلائي بأنهم الأكثر حضورا في جرائم العنف. وجاء الباحث سوانسون ومعاونوه بأدلة ذات مصداقية ومن مصادر صحيحة بعد اختبارات أجريت في مشروع ما يسمى منطقة الأوبئة سريعة العدوى، وبناءً على التشخيص بأن المصنفين من فئة (DSM III Axis 1) من مرضى الفصام العقلي، هم أكثر نزعة بنسبة أربعة إلى ستة أضعاف لارتكاب جرائم العنف من أولئك الذي لا يعانون من هذا المرض. ويمكن رؤية العواقب الناتجة من أي زيادة قد تطرأ في معدلات الجرائم لدى مرضى الفصام العقلي بواسطة أرقام الإحصائيات التي تنشرها المؤسسات الإصلاحية والصحية. وفي مراكز التوقيف الإحتياطي البريطانية كان النزلاء الفصاميون أكثر عرضة للحصول على حكم بالإدانة في جرائم العنف بنسبة زيادة مقدراها ستة أضعاف عن باقي النزلاء. علاوة على ذلك، ذهب العالم جلوك إلى فحص حالات متتابعة من نزلاء سجن سنج سنج (Sing Sing) على مدى (9) أشهر وخلص إلى نتيجة مؤداها بأن (6) بالمائة من هذه الحالات فصاميون. ومن بين النزلاء الحاصلين على حكم بالإدانة، أورد جنن ومعاونوه بأن نسبة (5.1) بالمائة يعانون من مرض الفصام العقلي. وفي مسح إحصائي قام به الباحث تايلور على المرض النفسانيين الذين يقضون أحكام السجن مدى الحياة في لندن، ظهر بأن ثلثي المحكوم عليهم من الرجال والنساء لديهم شكل من أشكال الاضطراب العقلي. وعلى اعتبار بأن (01) بالمائة من العينة كانوا من المرضى النفسيين، كان الغالب الأعظم منهم فصاميين بصورة مؤكدة(8). وفي الجانب الآخر، أجرى تايلور وجنن(41) مسحاً إحصائياً في سجون لندن طيلة فترة (4) أشهر. ومن المثير للدهشة، كشفت محصلة البحث النقاب بأن (9) بالمائة من النزلاء البالغ عددهم (0072) سجين يعانون من أمراض نفسية، وثلثي هؤلاء كانوا مصابين بمرض الفصام العقلي، بينما كان (11) بالمائة من المدانين بجرائم القتل هم من مرضى الإضطراب العقلي المصاحب لاستخدام المؤثرات العقلية أو ما يسمى اصطلاحا «ألتشخيص المزدوج». وعلى اتصال مع النتائج التي توصل إليها تايلور وجنن، كان الوجه الأكثر تعقيداً في العلاقة بين الفصام العقلي والجريمة هو عندما يجتمع هذا المرض مع عوامل أخرى مثل: الكحول، المخدرات، أو إساءة استخدام أية مؤثرات عقلية أخرى، وحالات كهذه فإنه يطلق عليها كما أسلفنا «التشخيص المزدوج». وكان الجبالي قد شرح في ورقة(5) بأن هنالك انتشاراً واسعاً لإساءة استخدام المؤثرات الكيميائية لدى قطاع كبير من حالات مرضى الاضطراب العقلي تتراوح نسبتها بين (20) إلى (75) بالمائة. وفي دراسة أجراها كلاسون وأوكنوور (1988) على المرضى ذوي السوابق في جرائم العنف للبحث في العوامل المؤثرة في عمليات القبض المتكرر للتورط في مثل هذه الجرائم، وجدا بأن بالاضافة إلى عوامل العمر، والتكرار في سلوكيات العنف، فإن عامل إساءة استخدام المؤثرات العقلية ينبىء بالعودة في ارتكاب جرائم العنف. إضافة إلى ذلك في دراسة تمت بمدينة نيويورك قام بها زترين ومعاونوه (1976) لاختبار حالة (876) مريضاً نفسياً، على مدى سنتين قبل الترقيد الطبي بالمستشفى وسنتين بعدها وجدوا بأن (71) بالمائة من الفصاميين ذوي النزعة العدوانية هم من متعاطي المؤثرات العقلية. أما ليند كفيست والببيك (1989) فقد عكفا على دراسة حالة (644) فصامياً جرى إخراجهم من مستشفيات سويدية للأمراض العقلية في عام (1971)، وعلى أثره وجدا بأن هنالك (38) مريضاً بالفصام العقلي ضبطوا وصدرت عليهم أحكام بالإدانة في (71) قضية عنف في غضون الفترة من (1972) إلى (1986) كان (55) بالمائة منهم مصنفين على كونهم من مسيئي تعاطي المواد العقلية وذلك وفقاً لما هو مستخلص من سجلاتهم الطبية . بينما انتهى سوانسون وآخرون (1990) إلى نتيجة مؤداها بأنه في الوقت الذي كان (2) بالمائة من الناس العاديين قد ارتكبوا جريمة عنف واحدة خلال سنة سابقة على الدراسة، كان ما نسبته (8.3) بالمائة من الأشخاص المصابين بالفصام العقلي قد ارتكبوا جريمة عنف واحدة في نفس الفترة، ومن المثير للاستغراب إن المعدل قد وصل إلى نسبة (30.3) بالمائة لدى الفصاميين الذين يسيئون تعاطي المؤثرات العقلية. إجمالاً، ومما سبق مراجعته من بحوث ودراسات في جانب علاقة الفصام العقلي بالجريمة، يمكننا التوصل إلى أن جرائم العنف بالذات أكثر معدلاً لدى مرضى الفصام العقلي الذين يتعاطون الكحول والمؤثرات العقلية بنسبة تفوق كثيراً أولئك الفصاميين الذين لا يتعاطون. وبغض النظر عن ذلك، ذهب سيللرس وآخرون(11) بعد فحصهم لبعض الأدلة النظرية إلى محصلة مغزاها «بأنه لفهم العلاقة بين الفصام العقلي والسلوك الإجرامي فإنه ليس كافيا ببساطة تسليط الضوء على المرض من جهة والجريمة من الجهة الأخرى، حيث لابد من البحث عن الصورة الدقيقة للفصام العقلي والجريمة متضمنة المؤثرات المتفاعلة داخلياً للمتغيرات ذات الصلة بما فيها المتغيرات العضوية، الفسيولوجية، الاجتماعية، البيئية، والقانونية». وعلى نفس المنوال، شدد فولك(3) إلى «أنه ليس هنالك أية أدلة دامغة على الجرائم السائدة لدى مرضى الفصام العقلي». واستطرد قائلاً «بأن الأغلبية الساحقة من البحوث والدراسات العلمية ركزت على جرائم العنف فقط على اعتبار أنه من السهل تمييزها». وذهب إلى تقديم أدلة تفيد بأن معدل الجرائم الخطرة هي أقل لدى مرضى الفصام العقلي من السكان العاديين، لكنها أكثر شيوعا لديهم مقارنة بالسكان العاديين». التفسير العلمي الأكلينيكي لعلاقة الفصام العقلي بالجريمة: إنه من الأهمية بمكان البحث في شروحات الأطباء النفسانيين والتشخيص الإكلينيكي للسمات التي يحملها مرضى الفصام العقلي، حيث إن مثل هذه التفسيرات لها نتيجة كبرى في مسار جهاز العدالة الجنائية من حيث المساعدة في جانب الوقاية أو على الأقل التقليل من مخاطر ارتكاب الجرائم بواسطة هذه الفئة في المجتمع. وفي هذا الجانب، أشار العديد من العلماء بأن المؤشرات الهامة لمرض الفصام العقلي لا يمكن أن تجتمع في مريض واحد فقط. حيث ذكر كيوتنج (1985) ونييلي وآخرون (1980)، بأن من ضمن هذه المؤشرات اضطراب الأفكار، «تشوش الفهم والإدراك، والسلوك العصبي. في حين أرجع العالم برنس هرشل(9) عنف مرضى الفصام العقلي إلى «اضطراب الاتزان العاطفي لدى الشخص بحيث يؤدي إلى تشويش شديد، ولربما كان هنالك قصور في جانب التبصر والإدراك المتعمق لحالته، ومن حين لآخر قد يتصرف هذا المريض بعنف تجاه الأشخاص أو الممتلكات متى كان تحت تأثير الأوهام والهلاوس التي يعاني منها. مثل هؤلاء المرضى ــ وفي حالات نادرة ــ يمكن أن يرتكبوا جرائم كالقتل، أو جرائم أخرى كالإيذاء البليغ أو الحرق العمدي للمباني والممتلكات». بالإضافة إلى ذلك، غالباً ما تظهر جرائم هذه الفئة في صورة عنف أسري تجاه أحد أفراد الأسرة أو الأصدقاء، وفي أغلب الأحيان يحدث ذلك في نطاق المنزل. سبري(31) ذكر بأن هنالك علاقة تبادلية بين الفصام العقلي والعديد من أوجه السلوك الجرمي، وقد استدل في ذلك على ملاحظات جيليس (1965) التي دونها على (10) مرضى فصام عقلي وردت في بحث أجراه على عدد (66) محكوماً عليهم في جرائم القتل. وكان البحث قد تم لإثبات فرضية «إن الجرائم الخطرة قد تكون في بعض الحالات من العلامات الأولى للإصابة بمرض الفصام العقلي». وفي نفس المعنى، أورد بأن أحد الشباب من مرضى الفصام العقلي قد تورط في قتل رجل من جيرانه، بينما قتل صبيّان مراهقان أمهما دون أدنى سبب ظاهر يدعوهما للقتل. وفي عدد أربع جرائم قتل الأم كان الجناة من الأبناء الذكور وكانت البواعث غريبة وشاذة حيث تنم بصورة نمطية عن خلل عقلي. إما هيجنز فقد قسم مرضى الفصام العقلي إلى فئتين، مع شيء من التداخل فيما بينهما. الفئة الأولى: «المرضى ذوو الأعراض الإيجابية الذين يتصرفون كردة فعل تجاه الأوهام الاضطهادية، ذلك بتصحيح الأخطاء الملاحظة التي يمكن استدركها أو للتعامل مع تهديد مباشر. والصلة بين أنشطة الخلل العقلي والجريمة عادة ما تكون واضحة إلى حد ما. بينما مرضى الفصام من ذوي الخيلاء الهوائي، على وجه التحديد، قد يرتكبون جرائم عارضة بين الحين والآخر غير أنها تتسم بالتخطيط الجيد والعنف الشديد». أما بالنسبة للفئة الثانية: «هنالك بعض السمات الإيجابية لمرضى هذه الفئة لكنها ليست في الغالب الأعم. والسمات الواضحة ذات الدلالة لدى هذه الفئة هي الأعراض السلبية هو التحطيم الناتج عن مرض مزمن وذي إعاقة عقلية. ويرتكب السلوك الجرمي هنا بصور السهو أو الترك والإهمال، وذلك في حالات المواجهة أو الخيبة والإحباط». مضيفاً بأنه «بالمقارنة، وفي حالات أقل حدوثاً بكثير، قد يبدي مرضى الفصام العقلي المزمن بصورة مفاجئة وغير متوقعة ثورة من العنف نتيجة لإعادة نشاط أوهام اضطهادية قديمة، أو للظهور المفاجىء لأوهام آنية مستثارة بصورة عالية أو لنهوض عارض عقلي جديد لديه». وفي نفس الإطار، قام فيركينن (1974) باختبار مجموعتين من الجناة الفنلنديين ذوي مرض الفصام العقلي إحدى هاتين المجموعتين ارتكبت جرائم عنف خطيرة بينما ارتكبت المجموعة الأخرى جرائم الحرق المتعمد للمباني والممتلكات، وقد وجد بأن ثلث هؤلاء قد ارتكب جرائمه كنتيجة مباشرة للأوهام الاضطهادية والهلاوس بينما كان السلوك الإجرامي للثلثين الباقيين ناجما كنتيجة مباشرة عن مشاكل وضغوط يومية واقعة في المحيط العائلي، وهذا يؤيد حقيقة أن الأقارب والأخلاء هم في الغالب ضحايا جرائم العنف والقتل التي يرتكبها مرضى الفصام العقلي . أَمّا ما يخص مرضى التشخيص المزدوج «الإضطراب العقلي المصاحب لاستعمال الموثرات العقلية»، فقد ثبت بأن أدنى درجات أداء أو تأثير مخدر الهيروين قد يؤدي إلى عجز المرضى المزمنين للوصول إلى درجة الإدمان، والحاجة الملحة للحصول على اللوازم والهيروين لمرات عديدة في اليوم الواحد ذلك لوقف ظواهر الأعراض الانسحابية، ربما تفوق الطاقة المالية للفقراء ذوي الدخل المحدود من مرضى الفصام العقلي النشطاء. الخاتمة : إذا كانت هنالك ثمة نتائج يمكن الحصول عليها من هذه الورقة، فإنها في الغالب يمكن أن تتجسد في الحقائق التالية:
أولاً: بأن هنالك خلطاً في تعريف الفصام العقلي بين عامة الناس والإعلام من جهة وبين الخبراء الأكلينيكين.
ثانياً: بأنه من الشائع لدى الباحثين الذين طرقوا هذا الحقل بالدراسة، أنهم قد قصروا تسليط الضوء على نزلاء السجون أو المرقدين في المستشفيات من مرضى الفصام العقلي دون سواهم. ومن المؤسف له، فإن حصر ذلك على هاتين الفئتين من مرضى الفصام ليس كافيا لاستخدامه كمعيار يمكن تبنيه للموضوع الذي نحن بصدده الآن وذلك لأن مرضى هذه المؤسسات تمثل جانباً واحداً فقط من وجه هذا المرض. وإضافة إلى ذلك مجموعات كهذه تمثل الجانب السيء من مرضى الفصام العقلي؛ لأن الأعراض التي طرأت عليهم والسلوك الذي ارتبط بهذه الأعراض هو الذي أدى إلى القبض عليهم ومن ثم تنويمهم في المستشفيات. وعلاوة على ذلك، هم الأكثر عرضة للضبط والوقوع في قبضة الشرطة. ختاماً، أظهرت الفحوصات المجراه على سمات مرضى الفصام، الإحصائيات، الحالات التي خضعت للدراسة، والبيانات المستفاة بأنه لا توجد أدلة دامغة على جرائم مرضى الفصام العقلي إجمالاً لإثبات فرضية أنَّ مرضى الفصام هم الأكثر نزعة لارتكاب الجرائم، خاصة وأن الأغلبية الساحقة من الباحثين قد ركزت على جرائم العنف فقط. ومن هذه النقطة، خلص هؤلاء إلى أن جرائم العنف تقترن عادة بمرضى الفصام العقلي، ويبدو بأن العنف يكون مُسيطراً بمعدلات مرتفعة عند مرضى الفصام العقلي ممن يسيئون استخدام الكحول وتعاطي المؤثرات العقلية الأخرى عن أولئك الذين لا يتعاطون.
وسبر أغوار الأدلة الجنائية التي تربط العلاقة بين أنواع محددة من الجرائم وبعض الشرائح من المجرمين، وثانياً بالبحث عن ماهية أوجه الأعراض الخاصة أو الخلل العقلي الذي يمكن أن يؤدي بالفرد إلى الجنوح تجاه السلوك الإجرامي. وبناء على ذلك، نتناول العلاقة بين الفصام العقلي والجريمة، ثم سنتطرق إلى الأدلة الجنائية التي تربط الفصام العقلي بالجريمة. لقد ثنَّى الباحث سبري على مقولة العالم برنس هرشل حينما ذكر بأن الفصام العقلي يرتبط في أذهان عامة الناس بالإنحراف، وجرائم العنف. وبأن مثل هذه الأنشطة الإجرامية قد تؤدي إلى صيت وشهرة مرتكبيها، خاصة إذا اقترن السلوك باستهداف شخصيات عامة هامة. ومن هذه النقطة، يمكن لنا استخلاص أن هؤلاء الجناة عادة ما تُشخَّص حالاتهم بأنها أوهام وهوى خيلائي ربما تلقى مثل هذه الحالات الكثير من الصدى في المجتمع. وعلى نفس المنوال، تميل وسائل الإعلام إلى ربط الأمراض العقلية بجرائم العنف بغض النظر عن كون البحوث العلمية لا تشير إلى كون مرضى الفصام العقلي، بصفة عامة، أكثر ميلاً إلى جرائم العنف هذا الصيت السيئ ظهر من قضايا أولئك ذوي السوابق الجرمية في ارتكاب جرائم العنف والذين سبق إصابتهم بمرض نفسي على ارتكابهم لها. يؤيد هذا القول العالم روبرتسون عندما أورد بأن «الصفة السائدة لدى مرضى الفصام العقلي هي أنهم ليسوا أكثر نزعة لارتكاب جرائم العنف، والمشكلة تكمن في أنهم ــ عند مقارنتهم بالمجرمين الآخرين ــ الأكثر عرضة للإشتباه والوقوع في القبض بيد الشرطة بينما كانت هنالك بعض الأدلة المستخلصة من حفنة من البحوث التي تشير إلى مرضى الفصام العقلي خاصة أولئك الذين هم من الفئة المصنفة بالإصابة بالهوى الخيلائي بأنهم الأكثر حضورا في جرائم العنف. وجاء الباحث سوانسون ومعاونوه بأدلة ذات مصداقية ومن مصادر صحيحة بعد اختبارات أجريت في مشروع ما يسمى منطقة الأوبئة سريعة العدوى، وبناءً على التشخيص بأن المصنفين من فئة (DSM III Axis 1) من مرضى الفصام العقلي، هم أكثر نزعة بنسبة أربعة إلى ستة أضعاف لارتكاب جرائم العنف من أولئك الذي لا يعانون من هذا المرض. ويمكن رؤية العواقب الناتجة من أي زيادة قد تطرأ في معدلات الجرائم لدى مرضى الفصام العقلي بواسطة أرقام الإحصائيات التي تنشرها المؤسسات الإصلاحية والصحية. وفي مراكز التوقيف الإحتياطي البريطانية كان النزلاء الفصاميون أكثر عرضة للحصول على حكم بالإدانة في جرائم العنف بنسبة زيادة مقدراها ستة أضعاف عن باقي النزلاء. علاوة على ذلك، ذهب العالم جلوك إلى فحص حالات متتابعة من نزلاء سجن سنج سنج (Sing Sing) على مدى (9) أشهر وخلص إلى نتيجة مؤداها بأن (6) بالمائة من هذه الحالات فصاميون. ومن بين النزلاء الحاصلين على حكم بالإدانة، أورد جنن ومعاونوه بأن نسبة (5.1) بالمائة يعانون من مرض الفصام العقلي. وفي مسح إحصائي قام به الباحث تايلور على المرض النفسانيين الذين يقضون أحكام السجن مدى الحياة في لندن، ظهر بأن ثلثي المحكوم عليهم من الرجال والنساء لديهم شكل من أشكال الاضطراب العقلي. وعلى اعتبار بأن (01) بالمائة من العينة كانوا من المرضى النفسيين، كان الغالب الأعظم منهم فصاميين بصورة مؤكدة(8). وفي الجانب الآخر، أجرى تايلور وجنن(41) مسحاً إحصائياً في سجون لندن طيلة فترة (4) أشهر. ومن المثير للدهشة، كشفت محصلة البحث النقاب بأن (9) بالمائة من النزلاء البالغ عددهم (0072) سجين يعانون من أمراض نفسية، وثلثي هؤلاء كانوا مصابين بمرض الفصام العقلي، بينما كان (11) بالمائة من المدانين بجرائم القتل هم من مرضى الإضطراب العقلي المصاحب لاستخدام المؤثرات العقلية أو ما يسمى اصطلاحا «ألتشخيص المزدوج». وعلى اتصال مع النتائج التي توصل إليها تايلور وجنن، كان الوجه الأكثر تعقيداً في العلاقة بين الفصام العقلي والجريمة هو عندما يجتمع هذا المرض مع عوامل أخرى مثل: الكحول، المخدرات، أو إساءة استخدام أية مؤثرات عقلية أخرى، وحالات كهذه فإنه يطلق عليها كما أسلفنا «التشخيص المزدوج». وكان الجبالي قد شرح في ورقة(5) بأن هنالك انتشاراً واسعاً لإساءة استخدام المؤثرات الكيميائية لدى قطاع كبير من حالات مرضى الاضطراب العقلي تتراوح نسبتها بين (20) إلى (75) بالمائة. وفي دراسة أجراها كلاسون وأوكنوور (1988) على المرضى ذوي السوابق في جرائم العنف للبحث في العوامل المؤثرة في عمليات القبض المتكرر للتورط في مثل هذه الجرائم، وجدا بأن بالاضافة إلى عوامل العمر، والتكرار في سلوكيات العنف، فإن عامل إساءة استخدام المؤثرات العقلية ينبىء بالعودة في ارتكاب جرائم العنف. إضافة إلى ذلك في دراسة تمت بمدينة نيويورك قام بها زترين ومعاونوه (1976) لاختبار حالة (876) مريضاً نفسياً، على مدى سنتين قبل الترقيد الطبي بالمستشفى وسنتين بعدها وجدوا بأن (71) بالمائة من الفصاميين ذوي النزعة العدوانية هم من متعاطي المؤثرات العقلية. أما ليند كفيست والببيك (1989) فقد عكفا على دراسة حالة (644) فصامياً جرى إخراجهم من مستشفيات سويدية للأمراض العقلية في عام (1971)، وعلى أثره وجدا بأن هنالك (38) مريضاً بالفصام العقلي ضبطوا وصدرت عليهم أحكام بالإدانة في (71) قضية عنف في غضون الفترة من (1972) إلى (1986) كان (55) بالمائة منهم مصنفين على كونهم من مسيئي تعاطي المواد العقلية وذلك وفقاً لما هو مستخلص من سجلاتهم الطبية . بينما انتهى سوانسون وآخرون (1990) إلى نتيجة مؤداها بأنه في الوقت الذي كان (2) بالمائة من الناس العاديين قد ارتكبوا جريمة عنف واحدة خلال سنة سابقة على الدراسة، كان ما نسبته (8.3) بالمائة من الأشخاص المصابين بالفصام العقلي قد ارتكبوا جريمة عنف واحدة في نفس الفترة، ومن المثير للاستغراب إن المعدل قد وصل إلى نسبة (30.3) بالمائة لدى الفصاميين الذين يسيئون تعاطي المؤثرات العقلية. إجمالاً، ومما سبق مراجعته من بحوث ودراسات في جانب علاقة الفصام العقلي بالجريمة، يمكننا التوصل إلى أن جرائم العنف بالذات أكثر معدلاً لدى مرضى الفصام العقلي الذين يتعاطون الكحول والمؤثرات العقلية بنسبة تفوق كثيراً أولئك الفصاميين الذين لا يتعاطون. وبغض النظر عن ذلك، ذهب سيللرس وآخرون(11) بعد فحصهم لبعض الأدلة النظرية إلى محصلة مغزاها «بأنه لفهم العلاقة بين الفصام العقلي والسلوك الإجرامي فإنه ليس كافيا ببساطة تسليط الضوء على المرض من جهة والجريمة من الجهة الأخرى، حيث لابد من البحث عن الصورة الدقيقة للفصام العقلي والجريمة متضمنة المؤثرات المتفاعلة داخلياً للمتغيرات ذات الصلة بما فيها المتغيرات العضوية، الفسيولوجية، الاجتماعية، البيئية، والقانونية». وعلى نفس المنوال، شدد فولك(3) إلى «أنه ليس هنالك أية أدلة دامغة على الجرائم السائدة لدى مرضى الفصام العقلي». واستطرد قائلاً «بأن الأغلبية الساحقة من البحوث والدراسات العلمية ركزت على جرائم العنف فقط على اعتبار أنه من السهل تمييزها». وذهب إلى تقديم أدلة تفيد بأن معدل الجرائم الخطرة هي أقل لدى مرضى الفصام العقلي من السكان العاديين، لكنها أكثر شيوعا لديهم مقارنة بالسكان العاديين». التفسير العلمي الأكلينيكي لعلاقة الفصام العقلي بالجريمة: إنه من الأهمية بمكان البحث في شروحات الأطباء النفسانيين والتشخيص الإكلينيكي للسمات التي يحملها مرضى الفصام العقلي، حيث إن مثل هذه التفسيرات لها نتيجة كبرى في مسار جهاز العدالة الجنائية من حيث المساعدة في جانب الوقاية أو على الأقل التقليل من مخاطر ارتكاب الجرائم بواسطة هذه الفئة في المجتمع. وفي هذا الجانب، أشار العديد من العلماء بأن المؤشرات الهامة لمرض الفصام العقلي لا يمكن أن تجتمع في مريض واحد فقط. حيث ذكر كيوتنج (1985) ونييلي وآخرون (1980)، بأن من ضمن هذه المؤشرات اضطراب الأفكار، «تشوش الفهم والإدراك، والسلوك العصبي. في حين أرجع العالم برنس هرشل(9) عنف مرضى الفصام العقلي إلى «اضطراب الاتزان العاطفي لدى الشخص بحيث يؤدي إلى تشويش شديد، ولربما كان هنالك قصور في جانب التبصر والإدراك المتعمق لحالته، ومن حين لآخر قد يتصرف هذا المريض بعنف تجاه الأشخاص أو الممتلكات متى كان تحت تأثير الأوهام والهلاوس التي يعاني منها. مثل هؤلاء المرضى ــ وفي حالات نادرة ــ يمكن أن يرتكبوا جرائم كالقتل، أو جرائم أخرى كالإيذاء البليغ أو الحرق العمدي للمباني والممتلكات». بالإضافة إلى ذلك، غالباً ما تظهر جرائم هذه الفئة في صورة عنف أسري تجاه أحد أفراد الأسرة أو الأصدقاء، وفي أغلب الأحيان يحدث ذلك في نطاق المنزل. سبري(31) ذكر بأن هنالك علاقة تبادلية بين الفصام العقلي والعديد من أوجه السلوك الجرمي، وقد استدل في ذلك على ملاحظات جيليس (1965) التي دونها على (10) مرضى فصام عقلي وردت في بحث أجراه على عدد (66) محكوماً عليهم في جرائم القتل. وكان البحث قد تم لإثبات فرضية «إن الجرائم الخطرة قد تكون في بعض الحالات من العلامات الأولى للإصابة بمرض الفصام العقلي». وفي نفس المعنى، أورد بأن أحد الشباب من مرضى الفصام العقلي قد تورط في قتل رجل من جيرانه، بينما قتل صبيّان مراهقان أمهما دون أدنى سبب ظاهر يدعوهما للقتل. وفي عدد أربع جرائم قتل الأم كان الجناة من الأبناء الذكور وكانت البواعث غريبة وشاذة حيث تنم بصورة نمطية عن خلل عقلي. إما هيجنز فقد قسم مرضى الفصام العقلي إلى فئتين، مع شيء من التداخل فيما بينهما. الفئة الأولى: «المرضى ذوو الأعراض الإيجابية الذين يتصرفون كردة فعل تجاه الأوهام الاضطهادية، ذلك بتصحيح الأخطاء الملاحظة التي يمكن استدركها أو للتعامل مع تهديد مباشر. والصلة بين أنشطة الخلل العقلي والجريمة عادة ما تكون واضحة إلى حد ما. بينما مرضى الفصام من ذوي الخيلاء الهوائي، على وجه التحديد، قد يرتكبون جرائم عارضة بين الحين والآخر غير أنها تتسم بالتخطيط الجيد والعنف الشديد». أما بالنسبة للفئة الثانية: «هنالك بعض السمات الإيجابية لمرضى هذه الفئة لكنها ليست في الغالب الأعم. والسمات الواضحة ذات الدلالة لدى هذه الفئة هي الأعراض السلبية هو التحطيم الناتج عن مرض مزمن وذي إعاقة عقلية. ويرتكب السلوك الجرمي هنا بصور السهو أو الترك والإهمال، وذلك في حالات المواجهة أو الخيبة والإحباط». مضيفاً بأنه «بالمقارنة، وفي حالات أقل حدوثاً بكثير، قد يبدي مرضى الفصام العقلي المزمن بصورة مفاجئة وغير متوقعة ثورة من العنف نتيجة لإعادة نشاط أوهام اضطهادية قديمة، أو للظهور المفاجىء لأوهام آنية مستثارة بصورة عالية أو لنهوض عارض عقلي جديد لديه». وفي نفس الإطار، قام فيركينن (1974) باختبار مجموعتين من الجناة الفنلنديين ذوي مرض الفصام العقلي إحدى هاتين المجموعتين ارتكبت جرائم عنف خطيرة بينما ارتكبت المجموعة الأخرى جرائم الحرق المتعمد للمباني والممتلكات، وقد وجد بأن ثلث هؤلاء قد ارتكب جرائمه كنتيجة مباشرة للأوهام الاضطهادية والهلاوس بينما كان السلوك الإجرامي للثلثين الباقيين ناجما كنتيجة مباشرة عن مشاكل وضغوط يومية واقعة في المحيط العائلي، وهذا يؤيد حقيقة أن الأقارب والأخلاء هم في الغالب ضحايا جرائم العنف والقتل التي يرتكبها مرضى الفصام العقلي . أَمّا ما يخص مرضى التشخيص المزدوج «الإضطراب العقلي المصاحب لاستعمال الموثرات العقلية»، فقد ثبت بأن أدنى درجات أداء أو تأثير مخدر الهيروين قد يؤدي إلى عجز المرضى المزمنين للوصول إلى درجة الإدمان، والحاجة الملحة للحصول على اللوازم والهيروين لمرات عديدة في اليوم الواحد ذلك لوقف ظواهر الأعراض الانسحابية، ربما تفوق الطاقة المالية للفقراء ذوي الدخل المحدود من مرضى الفصام العقلي النشطاء. الخاتمة : إذا كانت هنالك ثمة نتائج يمكن الحصول عليها من هذه الورقة، فإنها في الغالب يمكن أن تتجسد في الحقائق التالية:
أولاً: بأن هنالك خلطاً في تعريف الفصام العقلي بين عامة الناس والإعلام من جهة وبين الخبراء الأكلينيكين.
ثانياً: بأنه من الشائع لدى الباحثين الذين طرقوا هذا الحقل بالدراسة، أنهم قد قصروا تسليط الضوء على نزلاء السجون أو المرقدين في المستشفيات من مرضى الفصام العقلي دون سواهم. ومن المؤسف له، فإن حصر ذلك على هاتين الفئتين من مرضى الفصام ليس كافيا لاستخدامه كمعيار يمكن تبنيه للموضوع الذي نحن بصدده الآن وذلك لأن مرضى هذه المؤسسات تمثل جانباً واحداً فقط من وجه هذا المرض. وإضافة إلى ذلك مجموعات كهذه تمثل الجانب السيء من مرضى الفصام العقلي؛ لأن الأعراض التي طرأت عليهم والسلوك الذي ارتبط بهذه الأعراض هو الذي أدى إلى القبض عليهم ومن ثم تنويمهم في المستشفيات. وعلاوة على ذلك، هم الأكثر عرضة للضبط والوقوع في قبضة الشرطة. ختاماً، أظهرت الفحوصات المجراه على سمات مرضى الفصام، الإحصائيات، الحالات التي خضعت للدراسة، والبيانات المستفاة بأنه لا توجد أدلة دامغة على جرائم مرضى الفصام العقلي إجمالاً لإثبات فرضية أنَّ مرضى الفصام هم الأكثر نزعة لارتكاب الجرائم، خاصة وأن الأغلبية الساحقة من الباحثين قد ركزت على جرائم العنف فقط. ومن هذه النقطة، خلص هؤلاء إلى أن جرائم العنف تقترن عادة بمرضى الفصام العقلي، ويبدو بأن العنف يكون مُسيطراً بمعدلات مرتفعة عند مرضى الفصام العقلي ممن يسيئون استخدام الكحول وتعاطي المؤثرات العقلية الأخرى عن أولئك الذين لا يتعاطون.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire