القانون الجنائي


* مقدمة عامة :
من أهم المظاهر المترتبة عن تواجد الإنسان في الجماعة، وضع مبادئ وضوابط لسلوكه الاجتماعي، وهذه الضوابط والقواعد هدفها هو تحديد نمط السلوك الذي يجب على الشخص اتباعه في مختلف نواحي حياته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.

إلا أن الإنسان – ومنذ أقدم العصور- اهتدى بحكم فطرته وتلقائيته إلى رسم الطريق الواجب اتباعه لا يكفي وحده لجبر الأفراد والجماعات لتنظيم سلوكهم وفق هذا النموذج، بل كان من الضروري أن يتدخل من ناحية أخرى لإيجاد آليات عملية لفرض احترامها.
    غير أنه إذا كان يسمح في ظل الأنظمة البدائية القديمة، للخواص باقتضاء حقوقهم بأنفسهم، فإن الدولة في الوقت الحالي هي التي أصبحت تحتكر سلطة التجريم والعقاب. ففي هذه المرحلة كان يسمح للمجني عليه بأن يهب للدود عن حرماته والدفاع عن مصالحه ضد الخطر المحدق بها، فكان المعتدى عليه خصما وحكما في نفس الوقت في مواجهة معتد لا يوجد أي وازع أخلاقي أو ديني يمنعه من التهجم على غيره لإشباع غرائزه وإشفاء أنانيته. فالقانون الواحد الذي يحكم علاقة المعتدي والمعتدى عليه هو قانون القوة، حيث يباح للقوي بأكل الضعيف، ليأتي من هو أقوى منه ليأكله بدوره.
    ففي هذه المرحلة المعروفة بمرحلة العدالة الخاصة، كان الجزاء الجنائي وحده هو السائد أو الغالب، وكان يأخذ شكل الانتقام الفردي وكان يحكم طبيعة أو نوع العلاقة السائدة وحده هو الكفيل بالمحافظة على المصالح الاقتصادية والاجتماعية للقبائل والعشائر المتناحرة.
    وقد عرفت النظم الجنائية القديمة، في مرحلة لاحقة من تاريخها، تطورا هاما تمثل في ظهور نظام القصاص أو المعاملة بالمثل كنظام مهذب لحقن الدماء والحد من التطاحن بين العشائر والقبائل التي كانت تدخل حروب قوية تستنزف قواها. فأصبح بالإمكان الاتفاق على حقن الدماء بقبول القصاص من أحد أفرادها أو بأداء الدية أو أي بدل آخر يصلح الضرر والأذى المادي والمعنوي اللاحق بالقبيلة المعتدى عليها.
    أما الجزاءات المدنية، كالتعويض والبطلان والفسخ، فلم تظهر إلا في وقت متأخر من تطور ردود الفعل الاجتماعية ضد الأعمال المخالفة للقانون والماسة بالمقومات التي تقوم عليها المعاملات المالية بين أفراد المجتمع. أما قبل هذه المرحلة، وعندما كان نظام العدالة هو السائد، فكان الجزاء الثاني هو الغالب، وكانت العقوبات المطبقة تتسم بالقسوة والبطش لأن الباعث عليها كان هو الانتقام وليس هو الإصلاح أو التقويم.
        غير أنه مع تطور المجتمعات الإنسانية وما حققته من تقدم حضاري ونمو فكري وثقافي، تهذبت النظم الجنائية تحت تأثير التيارات الفكرية والفلسفية التي دعت إلى إعادة النظر في العقوبة وفي السياسات الجنائية المتبعة بوجه عام. وهذا لم يكن تنقيصا من قيمة القوانين الجنائية وأهميتها في المجتمعات الحديثة، وإنما مجرد دعوة لملائمة هذه القوانين مع التطور الحاصل في مختلف مناحي الحياة الفكرية والسياسية.
    ومخالفة القانون الجنائي، سواء منها المبثوثة في المجموعة الجنائية أو الواردة في نصوص خاصة، هو ما يعبر عنه بالظاهرة أو العمل الإجرامي. ويقصد بها كل عمل أو امتناع يشكل إخلالا بالنظام العام، بمعناه الواسع. فإذا كان القانون الجنائي يعنى بتتبع سلوك الأشخاص، أفرادا وجماعات، للبحث عن الجوانب الضارة بالمجتمع وتقرير الجزاء الجنائي الكفيل بتحقيق الردع الخاص والعام، زجرا للفاعل وردعا للغير، فيصبح العمل الإجرامي من وجهة نظر القانون الجنائي مرادفا للجريمة وما تستلزمه من تدخل القانون الجنائي لتحديد الفعل الجرمي وتقرير العقاب عليه.
    غير أن الظواهر الإجرامية قد تكون أيضا موضوع علم الإجرام، والذي يعنى بتحديد الأسباب والعوامل الذاتية الدافعة لارتكاب الجريمة، كالحالة العقلية والنفسية للجاني-السن-الجنس-العوامل الوراثية، والأسباب الموضوعية أو الخارجية: والمتعلقة بالظروف الاجتماعية والثقافية والبيئية المحيطة بالفاعل:كالفقر- الأسرة- البطالة- الثقافة.
    ومن هذا المنطلق تبدو الدراسات في ميدان علم الإجرام ذات هدف وقائي وإصلاحي في نفس الوقت، لأنها تسعى إلى البحث عن الأسباب الحقيقية التي كانت وراء السلوك الإجرامي. فهذه المقاربة العلمية تعنى بتحديد الطرق والوسائل(الطبية- البسيكولوجية- والسوسيواقتصادية) الكفيلة بتسهيل إعادة إدماج المجرمين في وسطهم الاجتماعي.
    وبعد هذه التوطئة الموجزة، سنعرض لمختلف مراحل تطور القانون الجنائي، وذلك على النحو الآتي:
    * نظرة تاريخية :
    يتجلى من خلال تاريخ القانون، والقانون الجنائي أن تطوره كان يواكب درجة حضارة الشعوب، وتوجد خمسة أطوار مر منها:
1-    الطور البدائي:
كان العقاب في هذه المرحلة ثأرا أو قصاصا يوقع على المخطئ والمعتدي ولم يكن معروفا في ذلك الزمان أن تسليط سيف العقاب من حق الدولة كما هو الحال اليوم، وإنما كان يعرض للانتقام الفردي كل شخص خرج عن قواعد الجماعة، فكان حقا شخصيا وانتقاما وكان ذلك يؤدي إلى إثارة الحرب بين القبائل التي كانت تؤدي إلى عواقب وخيمة، ونتج عن ذلك اتجاه التفكير إلى نظام القصاص وبالتدريج برزت السلطة العامة إلى الوجود وأخذت تتدخل في الحد من الأعمال الانتقامية التي كان يقوم بها المجني عليه أو أسرته حيال الجاني، وبظهور قانون (طاليون) أصبح الجاني يعاقب حسبما جنت يداه أي أن تسليط العقاب يكون على قدر الضرر الناتج عن فعله(القتل بالقتل والعين بالعين) وكان القصاص في بادئ أمره اختياريا، فلما اشتد ساعد القبائل بانضمام  بعضها إلى بعض تحت سلطة حاكم، صار القصاص إجباريا درءا لويلات الحروب، ثم بعد ذلك اتخذ طريقا سليما بالصلح على المال في النظام المعروف بالدية وهي نوع من الغرامات التي تحددها السلطة ويوجد هذا النوع من العقاب في القانونين الموسوي والجرماني.
2-    طور الانتقام الديني أو العام:
بعد أن كان حق توقيع الجزاء في يد الأفراد أو القبائل أصبح في هذه الفترة حقا عاما توقعه الدولة، فأصبح الحاكم يعاقب على الجرائم التي تمس سلطته والنظام الموضوع للجماعة بعقوبات جسيمة قصد الترهيب وظلت الآثام الدينية (أو الذنوب الدينية) معاقب عليها، بحيث كانت الهيئات التي تحاكم الجاني هي هيئات دينية.
3-    الطور الملكي:
في هذا العهد أسست هيئات جنائية لمحاكمة الجاني، وكانت العقوبات ترمي إلى الترهيب وكانت تحكمية يوقعها القاضي بما له من سلطة غير محدودة وكانت تختلف العقوبات وتنفيذها تبعا لشخصية الجاني، بحيث كان الضرب بالسياط عقوبة مألوفة وامتد تنفيذ عقوبة الإعدام إلى إحراق جثث المحكوم عليهم وبلغت القسوة في تنفيذ العقوبة إلى شد أوصال المحكوم عليه فوق عجلة وضربه ضربا شديدا حتى تتهشم عظامه ويموت.
4-    الطور الديمقراطي:
برزت في هذا الطور آراء ترمي إلى تهذيب العقوبة وجعل وظيفتها تحقيق مصلحة اجتماعية والفضل في هذا راجع إلى "جون جاك روسو" الفرنسي "وبيكاريا"  و"بنشام" الإنجليزي و"كانط" الألماني. هؤلاء الفلاسفة الأربعة تنبهوا إلى ما يشوب التشريع الجنائي من عيوب وقد أنشأوا مذهبا أسموه " المذهب الروحاني"، ومؤداه أن الإنسان حر في تصرفه يختار سلوك طريق الشر أو طريق الخير وفق مشيئته وإرادته لا يهيمن عليه في أفعاله غير ضميره ووجدانه، فالمسؤولية في نظر هذا المذهب مسؤولية خلقية أدبية، والإنسان العاقل المختار إذا اندفع إلى الجريمة فهو مرتكب لخطيئة موجبها العقاب ألا الصغير أو المجنون فلا يصح اعتباره مريدا مختارا ولا يسأل عما يفعل.
    وقد عرف هذا الطور عدة نظريات أهمها :
أ-نظرية العقد الاجتماعي:
وضع "جون جاك روسو" كتابه العقد الاجتماعي حيث أشار إلى الحالة الفطرية للإنسان فقال:" إن الفرد كان له أن يدرء الأذى عن نفسه بنفسه فإذا بدر منه عدوان وهو في المجتمع فقد نسى التزامه وأخل به وبذلك تحل الجماعة محل المعتدى عليه في هذا الحق الذي هو فقط بالذات حق دفاع عن النفس.



ب-نظرية كفالة المصلحة العامة:
أساس هذه النظرية هو كفالة المصلحة العامة وردع المجرم بالعقاب الملائم للجريمة لما لعوده للإجرام من مساس بهذه المصلحة وقد كان لهذه الفكرة أثر في التشريع الجنائي الفرنسي لسنة 1810.
ج-نظرية العدالة المطلقة:
يرى صاحب هذه النظرية وهو كاتب ألماني أن العقاب وسيلة لإعادة السكينة للمجتمع بعد اضطرابه لوقع الجريمة، فكما أن في العقاب إيلاما للجاني فكذلك فيه رضا المجتمع وسكينته وهذا المبدأ أساسه العدالة المطلقة التي لا تدع مجرما بغير عقاب.
د-النظرية الانتقامية:
لقد نادى بهذه النظرية الفيلسوفان الفرنسيان"كوسان" و"كيزو" ومؤداها أن حق إيقاع العقاب يقوم على فكرة العدل وعلى المنفعة الاجتماعية، ذلك أن المجتمع له حق إيقاع الجزاء لكن بكيفية لا تجعل منه عقابا غير موافق ولا محقق لفائدة.
وهذه النظرية أتم تعديلها الإيطالي "روسي" وقد تأثر بها القانون الخاص سنة 1829.
5-    الطور المعاصر:
في هذا الطور اتسعت أبحاث الفلاسفة وعلماء الاجتماع بحيث برزت إلى الوجود عدة نظريات جديدة.
أ-نظرية الدكتور "لمبروزو" في طبيعة المجرم :
قسم العالم "لمبروزو" طوائف المجرمين إلى ما يلي: المجرم بالفطرة، المجرم بالعادة، المجرم المجنون، والمجرم إجراما عرضيا. وقد أشار "لمبروزو" في نظريته التي نشرها في الكتاب المشهور (الإنسان المجرم) إلى خلاصة أبحاث طويلة منذ سنة 1862 عندما كان طبيبا في الجيش، حيث كان يفحص أجسام وأخلاق المجرمين وقد تنبه إلى الفوارق التشريحية للهياكل العظمية لعدد من المجرمين.
    وحاصل ما استخلصه "لمبروزو" أن للمجرم في الغالب وجنات مفرطحة وذقن عريضة بارزة، فيد السارق تكون طويلة، بينما عند القاتل تكون قصيرة والعقوبات التي اقترحها "لمبروزو" للمجرمين تختلف حسب كل طائفة، فقد اقترح استئصال المجرم بالعادة كما اعتبر المجرم شخصا مريضا لا يناسبه العقاب بل ينبغي إرساله إلى المستشفى قصد العلاج، أما المجرم بالصدفة فقد اقترح إرساله إلى الملاجئ أو المستعمرات الزراعية في حين اقترح للمجرم بالعاطفة عقوبة مقيدة للحرية.
ب-نظرية علم الاجتماع :
        اعتبرت هذه النظرية أن المجرم شخص ضعيف الشعور الأدبي، الشيء الذي أدى به إلى عدم التبصر بعواقب الأمور، وأن هناك أسباب اجتماعية تؤدي إلى ارتكاب الإجرام منها كثافة السكان، واضطراب الأفكار العامة والتعصب للعقائد الدينية وانحلال الأسرة وحظ أفرادها من الثقافة والتعليم وعدم كفاية الإنتاج الصناعي وانتشار المسكرات واختلال النظم الاقتصادية والأحوال السياسية.
    وصاحب هذه النظرية هو الأستاذ "فيري"، أستاذ القانون الجنائي بجامعة روما، فهو منشئ القانون الذي أسماه (الإشباع الإجرامي)أشار فيه إلى أنه توجد عوامل لارتكاب الإجرام فإذا أريد منع وقوعه وجب تغلب السلطة على هذه العوامل وإزالتها.
    وقد عرض الأستاذ "فيري" نوعا من الإجراءات تؤدي إلى نفس وظيفة العقوبة يستعان بها في مكافحة الجريمة منها تحسين الظروف الاجتماعية السيئة التي تعتبر كالأمراض تنشر العدوى بين الناس فتؤدي إلى تفشي الإجرام، بحيث يجب إعداد المنشئات المختلفة للنشاط الإنساني بدلا من الوقوف في سبيله.
    ويرى "فيري" أن نقاء البيئة الاجتماعية وسلامتها يكون بالتزام مذهب حرية التجارة وحرية الهجرة والإشراف على صناعة المسكرات وتحديد توزيعها وفتح أبواب العمل، وعدم مصادرة الناس في أموالهم وحث الحكومة على نشر التعليم وعلى التسامح الديني وأن تتولى برعايتها الأطفال الذين حرموا من رعاية الآباء.
ج-مذهب علم الإجرام وتقسيم الجرائم :
    صاحب هذا المذهب هو الأستاذ "جاروفالو" الذي قرر بعد تجاربه في القضاء بأن الجريمة ليست مسألة قانونية بحثة، وإنما هي فكرة اجتماعية وظاهرة مألوفة عندما تجد العوامل التي تؤدي لوقوعها والمجرم في نظر "جاروفالو" عنصر شاذ يعيش بين ظهراننا بخصاله المعيبة الدميمة، وبعض هذه الخصال تجعله أقرب إلى الحيوان منه إلى الإنسان ذلك بأنه تجرد كثيرا أو قليلا من عواطف الخير نحو غيره.
    والجرائم في هذا المذهب تنقسم إلى طائفتين: الجرائم الطبيعية(العادية) التي يعاقب عليها القانون في الدول جميعا كالقتل والاعتداء على الأشخاص والأموال وجرائم العرض، وطائفة جرائم أخرى لا توجد حتما في كل قانون دولة وإنما ينص عليها المشرع تبعا لظروف معينة تبرر تجريمها والعقاب عليها، مثل الجرائم السياسية والجرائم التي تمس بكيان  الأسر ونظامها الشرعي كجريمة تعدد الزوجات والزنا.
    وقد أثار أصحاب هذين المذهبين الانتباه إلى كون الإنسان المجرم متأثر بعوامل متباينة مصدرها البيئة والظروف الاجتماعية ولذلك فإن فكرة الإصلاح تتوقف على البدء بإصلاح المجرم ومراقبة حركاته وأفكاره حتى ينكشف مدى الشر في نفسه، والعقوبة وحدها لا تكفي لذلك، بل ينبغي مكافحة الأسباب الخارجية للجريمة حتى لا يجد أشرار الناس شوقا إلى الإجرام وشهوة للانتقام.
    لقد أثر أصحاب هذين المذهبين في القوانين الجنائية حيث كان لهم الفضل في اتخاذ
المبادئ فيما يخص العقاب ونظام إصلاح الأحداث ووقف تنفيذ العقوبات، وإصلاح المجرمين المعتادين وطرق تحقيق الشخصية وتدابير الوقاية من الإجرام.
    وبحلول القرن التاسع عشر ظهرت نظرية فلسفية جديدة تحاول التوفيق بين فكرتين: فكرة التكفير عن الذنب، وفكرة المنفعة التي نادى بها "بنتاف" من قبل فقرر أصحاب هذه الفلسفة الجديدة أن للدولة الحق في تجريم بعض الأفعال ما دام ذلك ضروريا لصيانة الأمن في المجتمع ولكن ليس لها أن تعاقب مرتكب الجريمة إلا على أساس من العدل وفي نطاق الصالح العام دون تجاوز، والعقوبة لا يجوز أن تزيد على قدر الجريمة.
* الاتحاد الدولي لقانون العقوبات :
    وهكذا برز إلى الوجود الاتحاد الدولي للقانون الجنائي الذي تأسس على يد الأستاذ "برنس" بجامعة بروكسيل وكان ذلك سنة 1889 بقصد مراجعة الفقه الكلاسيكي، والقوانين الإيطالية في علم الاجتماع الجنائي "الأنتربولوجي" وهو علم يبحث في أصل الجنس البشري وتطوره وأعرافه وعاداته ومعتقداته، وقد كان من آثار هذا الاتحاد الدولي للقانون الجنائي تنسيق العقوبات لتساير مبادئ السياسة الجنائية الحديثة بوضع طائفة من التدابير إلى جانب العقوبات الأصلية.
    وقد استمر نشاط جمعية الاتحاد الدولي حتى بداية الحرب العالمية ثم تجدد مرة
أخرى سنة 1924 وأخذت الجمعية مقرا لها "كلية الحقوق بباريز".
    وقد أدى وجود هذه الجمعية إلى إعادة النظر في مفهوم ظاهرة الإجرام ودراستها دراسة علمية تعتمد على الإحصائيات التي تبين عددها ونوعها ومواسيم اقترافها، وقد أصبحت دراسة علم الإجرام في نفس الوقت تهتم بعوامل الإجرام الاجتماعية والفردية على السواء، وأصبح يتعين على الدولة الأخذ بعين الاعتبار عند إعدادها السياسة الجنائية كل معطيات علم الإجرام، وأن تتبنى ما يأتي:
1-التدابير الوقائية:
        وذلك بمكافحة الفقر والبطالة، ورفع مستوى التعليم، والشعور الاجتماعي والديني، والإصلاحات الاجتماعية وتغيير بعض المرافق وتنظيم مصالح الشرطة وإدارات السجون.
2-تدابير الأمن : (وسائل الأمن والاحتياط) :
    هذه الفكرة أخذت بها أغلب الدول الأوروبية في تشريعها الحديث، وهي ترمي إلى إصلاح المجرم وإلى تأمين المجتمع من عوده للإجرام مثل وضع تقنين بحمل السلاح والمتفجرات وغيرها.
3-إعداد التشريع:
    وذلك بالتنصيص على العقاب الأكثر والأقل قسوة لفائدة تزايد ظاهرة الإجرام وتشجيع مبلغي الأنباء المتعلقة باقتراف الجنايات الخطيرة وذلك بإسعافهم بالإعفاء، ويتوقف تزايد ظاهرة الإجرام على هذه التدابير التي تكون أحيانا وقائية وأحيانا أخرى زجرية.
* أساس القانون الجنائي :
    إن أساس القانون الجنائي يعني المبرر لظهور القانون الاجتماعي الذي يعاقب الفرد الذي يعكر صفو النظام ويغتصب حقوق مواطنيه، هذا القانون اختلفت وظيفته عبر الأجيال وتبعا لدرجة تمدن الشعوب فقد استند قانون العقاب على فكرة الانتقام الخاص والعائلي بادئ ذي بدء ثم العقاب الديني والجماعي، وبعده انتقل إلى فكرة القصاص ثم الإصلاح، وبعد ذلك أصبح أساسه يرتكز على ضرورة حماية المصالح الاجتماعية، ثم برزت إلى الوجود نظرية العقد الاجتماعي والمنفعة الاجتماعية والعدالة المطلقة، ثم فكرة الوقاية والدفاع الاجتماعي والإصلاح (وأصبحت العقوبة فردية) فكل نظرية من هذه النظريات لم تكن كافية وحدها لميلاد القانون الجنائي وإنما أدى ذلك إلى بروز عدة نظريات أخرى. ففكرة العدالة، وحرية الإرادة أدت إلى أن المجرم يتعرض للقصاص ومن هنا كان أساس العقاب، وفكرة المنفعة، والدفاع الاجتماعي أدت إلى كون المجتمع والدولة يتمتعان بحق إيقاع القصاص، وهذا أساس القانون الاجتماعي للعقاب.
* هدف وغاية القانون الجنائي :
    إن هدف القانون الجنائي هو المساعدة على المحافظة ونشر الاستقرار الاجتماعي ومراعاة حقوق كل فرد.
    فيجب على السلطة أن تتبنى التدابير الوقائية، واختيار تدابير الأمن وتطبيق العقوبات عندما لا يجدي النوعان الأولان نفعا في الحد من الإجرام، بحيث تعتبر وظيفة العقوبة أخلاقية وإصلاحية في آن واحد، وهذا ما نادى به أصحاب المدرسة الانتقائية الذين رأوا أن الشر يجب أن يعاقب بشر مثله وأن العقاب يجب أن يكون مستحقا يقرره المجتمع على الشكل الذي يشاء لحماية الأكثرية، وهذا ما تتطلبه العدالة. ومن أصحاب هذه النظرية "فكتور كوزان" الذي تتلخص فكرته بشأن العقوبة فيما يلي:
1-كل فعل تستنكره الأخلاق يجب أن يعاقب.
2-كل عقاب يجب أن يكون عادلا، فإن لم يكن عادلا فقد تأثيره في الإخافة وفي إصلاح المجرم.
3-كل عقاب يجب أن يفرض من قبل صاحب السلطة المشروعة، وإلا كان ظلما وسوء استخدام للقوة.   
    أما المذهب الانتقائي فيهدئ ثورة المجتمع، ويطفئ ظمأ العدالة في آن واحد على أساس حفظ التوازن بين حرية الفرد وضرورة العقاب، ويقول دعاته بأن حق المعاقبة مشتق من العدالة الأخلاقية التي تحددها المنفعة الاجتماعية.
    والاتجاه الحديث في موضوع العقوبة، هو أنها مشروعة، لأن لها دورا معنويا تلعبه في زجر الآخرين، وإخافتهم وإخافة الفاعل نفسه لكي يتجنب اقتراف الجريمة بواسطة الألم الذي يشكل جوهر العقوبة كما أن لها دورا نفعيا يتمثل في حسن تنظيمها، وتنسيق تطبيقها.
    والعقوبة يتم تحديدها حسب المراحل التالية:
    أ-المشرع : والمقصود به القانون، فمثلا يحدد القانون المغربي في الفصل 505 عقوبة لمرتكب السرقة العادية من سنة إلى خمس سنوات سجنا وغرامة من 120 إلى 500 درهم، وقد خص القانون السارق بهذه العقوبة القاسية لحماية حق الملكية.
    ب-العدالة : تمثل العدالة في المحاكم. ففي المحاكم تؤخذ اعتبارات مادية الجريمة وشخصية وسوابق الجاني، وعلى هذا الأساس يبقى تحديد العقوبة موكولا لاجتهاد القاضي مع مراعاة النص القانوني الذي يعين الحد الأدنى والأقصى من العقاب لكل جريمة.
    ج-إدارة السجون : إذا ما أبدا الجاني الذي يقضي مدة العقاب داخل مؤسسة السجن رغبته في التمتع بتخفيف أمد العقوبة، وكانت إرادته تتجه إلى تحسين سلوكه فيمكن إسعافه بالإفراج الشرطي، وتعتبر هذه الإجراءات اعتبارات أخلاقية وفي الوقت نفسه نفعية.
والواقع أن مبدأ تفريد العقاب أصبح أمرا مؤكدا، وهكذا يجب أن يوجد احترام لقواعد المجتمع، كما يوجد عقاب زجري في حالة تجاوز قواعد كل جماعة، أو مجتمع بشري أو دولة، فالسلطة تجد نفسها مضطرة لوضع قائمة بكل ما يعد محظورا وقائمة بنوع العقاب الذي يتعرض له المخالف.
    فموضوع القانون الجنائي هو تحديد كل فعل محظور وكل فعل مجرم، أما القانون الجزائي فموضوعه تحديد العقوبات التي تصدر في حق مرتكبي الجرائم الذين يؤخذ بعين الاعتبار عند محاكمتهم سوابقهم وشخصياتهم، وغالبا ما يستعمل هذان الاصطلاحان لمعنى واحد.
    كما أن الدولة يلزمها تحديد طريقة البحث ومعاينة الجرائم، وكيفية محاكمة المجرمين والمحاكم المختصة التي تصدر الأحكام وكيفية إجراءات الشرطة الزجرية، كما أنها تحدد القواعد التي تبين اختصاص المحاكم ووظيفتها وطرق الطعن، وهذا ما يسمى بقانون المسطرة الجنائية.
* تعريف القانون الجنائي :
    القانون الجنائي هو مجموعة من القواعد التشريعية التي تبين الجرائم والعقوبات التي توقع على مرتكبيها، والإجراءات والقواعد التي تتبع في التحقيق والمحاكمة، وتنفيذ العقوبات على المحكوم عليهم.
    وبهذا يتفرع القانون الجنائي إلى ثلاثة فروع :
    1-القانون الجنائي العام.
    2-القانون الجنائي الخاص.
    3-قانون المسطرة الجنائية.
والقانون الجنائي هو الأظهر أثرا في مباشرة الدولة سلطتها وأكثرها تعبيرا عن مبلغ نشاطها وقوتها، ذلك أن الدولة بتشريعها الجنائي تتعهد الجريمة منذ بدء حدوثها إلى حين إنزال العقاب بمرتكبيها مراعية في ذلك صالح المجتمع الذي تشرف عليه وتدرء عنه غوائل الاعتداء الذي يقع بين الأفراد بعضهم على بعض أو على الهيئات النظامية أو السياسية كفالة منها للأمن وسن النظام.
    وفي المغرب جمعت هذه القواعد في مجموعة القانون الجنائي في ظهير1.58.261 بتاريخ 10/02/1962 الذي جرى به العمل ابتداء من 01/05/1959، والذي وقع تغييره بظهيرين صادرين في 08/09/1962 و13/11/1963، ثم مجموعة القانون الجنائي المصادق عليه بظهير 413.59.1 بتاريخ 26/11/1962 والمطبق من تاريخ 17/06/1963، كما يضاف إلى القانون الجنائي مجموعة من النصوص تسمى النصوص الخاصة، فالقانون الجنائي العام يحدد مبادئ أساس القانون الجنائي لدولة معينة في زمن محدود، ويعتبر مظهرا أو تعبيرا للسياسة الجنائية للدولة.
* تعريف القانون الجنائي حسب الفصل 1 منه :

" يحدد التشريع الجنائي أفعال الإنسان التي يعدها جرائم، بسبب ما تحدثه من اضطراب اجتماعي، ويوجب زجر مرتكبيها بعقوبات أو تدابير وقائية".
      وفي هذا الفصل تحدد الغاية الأساسية من التشريع الجزائي، وهي تعيين الأفعال التي تخالف النظام الاجتماعي وتشكل جرائم يترتب على مرتكبيها عقوبة أو تدبير وقائي.
    ويبرز هذا التعريف المبدأ الأول و الأساسي للقانون الجنائي الجديد بحيث أن هذا المبدأ يقرر أنه" لا جريمة ولا عقوبة بدون نص" وهذه صفة العدالة.
    فمن الآن لم تعد توجد جناية أو مخالفة لا ينص عليها القانون فأي فعل مهما كان ضارا بأحد الأفراد أو بالمجتمع لا يعتبر جريمة إلا إذا نص عليه القانون.
    ونتيجة لذلك فإنه لا يمكن للمحاكم أن تصدر  أي عقاب إلا بنص قانوني ذلك أن تحديد العقاب أمر موكول للقانون، ويؤكد الفصل الثالث من مجموعة القانون الجنائي المغربي على مراعاة مبدأ الشرعية والقانونية في الجرائم والعقوبات، فلا جريمة أو عقوبة بلا نص قانوني، ويظل أمرا مباحا كل ما لم ينه التشريع عنه، ويعاقب فاعله عليه. وللقاضي الأخذ حصرا بمفعول الأعمال التي تخالف الأوامر والنواهي المعينة في القانون، وليس له أن يأخذ أحدا بفعل غير معاقب عليه في نص قانوني أو أن يطبق على الفاعل عقوبة تختلف في طبيعتها أو مدتها عن العقوبة المنصوص عليها.
















الفصل الأول :        النظريـة العامـة للجريمـة

* تمهيد :
عرف المشرع المغربي الجريمة في الفصل 110 أنها:" كل عمل أو امتناع مخالف للقانون الجنائي ومعاقب عليه بمقتضاه ".
    وإذا كان هذا الفصل قد أغفل الإشارة إلى علة التجريم، فإننا نجد الفصل الأول من المجموعة الجنائية التي ورد بشأن القانون الجنائي بوجه عام ينص على أن هذا القانون يحدد أفعال الإنسان التي يعتبرها جرائم بسبب ما تحدثه من اضطراب اجتماعي ويوجب زجر مرتكبيها بعقوبات وتدابير وقائية.
    فالجريمة إذن بمعناها القانوني الدقيق، أي كمصطلح قانوني، لا تتحقق ولا تقوم إلا بتوافر شروط عامة يطلق عليها أركان الجريمة، وتوصف بأنها عامة، لأن أي جريمة كيفما كان نوعها لا تتحقق من الناحية القانونية إلا إذا توافرت فيها هذه الشروط، فإذا تخلف واحد منها فإن الجريمة لا تقوم لها قائمة، وهذا هو الأصل في تسميتها بالأركان. وهي: الركن القانوني، الركن المادي والركن المعنوي.
    وإلى جانب الأركان العامة، لا بد من توافر عناصر خاصة للجريمة، وتختلف من جريمة إلى أخرى، وتسمى بالشروط أو العناصر الخاصة، ويتكفل النص القانوني الخاص المقرر للجريمة بتحديدها.
    ومن جهتنا، سوف نقتصر في إطار النظرية العامة للجريمة على دراسة الأركان العامة، على أن نعرض للعناصر الخاصة حين دراستنا للقانون الجنائي الخاص.
فمن الناحية القانونية، لا يكون الفعل أو الامتناع جريمة إلا إذا كان منصوصا عليه بنص صريح في القانون (الركن القانوني)، وتم ارتكابه أو محاولة ارتكابه بإخراجه إلى العالم الخارجي (الركن المادي) وذلك من قبل شخص سليم العقل قادر على التمييز ومتمتع بالإرادة والإدراك بالنسبة للوقائع التي يرتكبها(الركن المعنوي).
    وبهذا يتضح مخطط دراستنا لأركان الجريمة والذي سيكون على النحو الآتي:
    -المبحث الأول: الركن القانوني.
    -المبحث الثاني: الركن المادي.
    -المبحث الثالث: الركن المعنوي.








المبحث الأول: الركن القانوني للجريمة(مبدأ الشرعية)

* التعريف بالمبدأ وأسسه القانونية:
    من المبادئ المستقرة في التشريعات الجنائية الحديثة، أن الفعل أو الامتناع، مهما كان ضارا بالمجتمع، ومهما كانت الخطورة الإجرامية لمرتكبه، لا يشكل جريمة في نظر القانون وبالتالي لا يقع تحت طائلة العقاب، إلا إذا كان هناك نص صريح في القانون يجرمه ويقرر له عقوبة محددة. وهذا هو ما يعرف بمبدأ الشرعية أو القانونية، ومفاده أنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص.
    وهذا المبدأ العام ليس جديدا أو مستحدثا في القوانين الحديثة، بل كان شائعا ومتداولا حتى في النظم والشرائع القديمة مثل القانون الروماني واليوناني.
    وفي إطار الشريعة الإسلامية السمحاء، نجد تطبيقات لهذا المبدأ وإن كان ذلك في نطاق ضيق فيما يسمى بجرائم الحدود والقصاص. وهي الجرائم التي تكلفت مصادر الشريعة الغراء الرئيسية بتنظيمها(القرآن والسنة).
    ويراد بمبدأ الشرعية أو الركن القانوني للجريمة أنه لا يمكن مؤاخذة أحد على فعل أو معاقبته عليه، باعتباره يشكل جريمة، إلا إذا كان منصوصا عليه صراحة في القانون الجنائي ومعاقب عليه بمقتضاه. وهذه القاعدة ما هي إلا إعمال أو امتداد للمبدأ العام القاضي بأن الأصل في الأشياء الإباحة وأن الشخص برئ حتى تثبت إدانته لفعل أو امتناع بتاريخ لاحق لصدور قانون يعتبره جريمة ويعاقب عليه.
    ويعنى القانون الجنائي بتحديد هذه الأفعال وكذا العقوبات الجارية عليها زجرا لمرتكبيها وإرهابا لغيرهم وفقا للفصل الأول من هذا القانون الذي يقضي بأنه يحدد أفعال الإنسان التي يعتبرها جرائم، وكذا العقوبات والتدابير الوقائية الجارية عليها نظرا لما تتسبب فيه من اضطراب اجتماعي.
    وفي النظام القانوني المغربي، تم تبني هذا المبدأ بموجب القانون الجنائي الصادر في 12 غشت 1913، وقد أصبح قاعدة دستورية في دساتير 1996.92.72.62 من خلال تنصيصها جميعها على عدم رجعية القوانين بوجه عام (الفصل الرابع من الدستور الحالي)، وعلى عدم إلقاء القبض على شخص أو متابعته أو محاكمته إلا حسب القانون ووفقا للشروط المنصوص عليها فيه(الفصل 10 من الدستور).
    وفي إطار القانون الجنائي الحالي:" لا يسوغ مؤاخذة أحد على فعل لا يعد جريمة بصريح القانون ولا معاقبته بعقوبات لم يقررها القانون" (الفصل 3 من ق ج).
وفي الفصل الرابع من نفس القانون :" لا يؤاخذ أحد على فعل لم يكن جريمة بمقتضى القانون الذي كان ساريا وقت ارتكابه ".
        وعملا بمقتضيات هذا المبدأ، فإن القانون الجنائي لا يسري إلا على الوقائع المرتكبة بتاريخ لاحق لصدورها(مبدأ عدم الرجعية) كما أنه لا يطبق إلا على الأفعال المرتكبة داخل المغرب(مبدأ الإقليمية). وهذا ما سيدفعنا إلى تحديد نطاق تطبيق القانون الجنائي من خلال المبدأين السابقين.

المطلب الأول: مبدأ عدم رجعية القوانين الجنائية والاستثناءات الواردة عليه
(تطبيق القانون الجنائي من حيث الزمان)
* تعريف:
    يهيمن على تطبيق القوانين الجنائية من حيث الزمان مبدأ عدم الرجعية، ويراد به أن القانون لا يطبق إلا على الوقائع التي ارتكبت بعد صدوره وصيرورته قابلا للتطبيق دون ما عداها، وعليه فإذا كانت قاعدة عدم رجعية القوانين تقتضي بسريان القانون الجنائي على الأفعال المرتكبة منذ دخوله حيز التنفيذ، فإن تطبيقه لا يمتد إلى الوقائع التي سبقته، ومن باب أولى التي أعقبت إلغائه.
    ويعد مبدأ عدم رجعية القوانين إحدى الضمانات الأساسية المقررة لفائدة الأفراد حماية لهم من تحكم مختلف الجهات والسلطات المتدخلة في مختلف مجالات تطبيق القوانين الجنائية(القوة العمومية- الشرطة القضائية- القضاء)، ولهذا وجد المشرع المغربي أن يرقى بهذا المبدأ إلى مصاف القواعد الدستورية، حيث جاء الفصل الرابع منه يقضي: "...وليس للقانون أثر رجعي".
    وهذا المبدأ ترد عليه عدة استثناءات نلخصها فيما يلي:
    1- حالة وجود نص قانوني صريح يقضي بتطبيقه بأثر رجعي : ففي هذه الحالة وخلافا للقواعد المفصلة أعلاه يجب تطبيق مثل هذا القانون حتى على الأفعال المرتكبة قبل صدوره وتنفيذه إعمالا لإرادة المشرع، كما هو الشأن بالنسبة لظهير 29 أكتوبر 1958 حول الجنايات المرتكبة ضد الصحة العامة، حيث ينص الفصل 2 منه على أن الجرائم المنصوص عليها في الفصل الأول يعاقب عليها حتى ولو كانت سابقة لتاريخ هذا الظهير. وهذه الحالات نادرة جدا.
    2- القوانين التفسيرية : وهي الصادرة لتحديد أو توضيح معنى ومضمون نصوص سابقة وهي على هذا الأساس تندمج في القوانين السابقة لتشكل معها وحدة لا تتجزأ، ومن الطبيعي إذن أن يكون تطبيقها من حيث الزمان واحدا، والملاحظ أن القوانين التفسيرية لا تشكل استثناءا حقيقيا يرد على مبدأ عدم الرجعية، لأنه ليس من شأنها أن تضيف جرائم جديدة ولا أن توسع نطاق تطبيق جرائم موجودة لهذا ليس من الغريب أن تطبق ولو بدون نص.
    3-القانون الجنائي الأصلح للمتهم: يقتضي مبدأ عدم رجعية القوانين نفسه بالنظر إلى الاعتبارات العملية والفلسفية التي يقوم عليها، بتطبيق القانون الجنائي الأصلح للمتهم إما بأثر رجعي أو فوري  حسب الأحوال، فالفصل الخامس من القانون الجنائي ينص على أنه :" لا يسوغ مؤاخذة أحد على فعل لم يعد يعتبر جريمة بمقتضى قانون صدر بعد ارتكابه، فإن كان قد صدر حكم بالإدانة فإن العقوبات المحكوم بها أصلية كانت أو إضافية يجعل حدا لتنفيذها".
    أما الفصل السادس فقد جاء فيه:" في حالة وجود عدة قوانين سارية المفعول بين تاريخ ارتكاب الجريمة والحكم النهائي بشأنها يتعين تطبيق القانون الأصلح للمتهم".
    والقانون يكون أصلحا للمتهم إذا كان يدخل في أحد الأصناف الآتية :
    أ-القانون الذي يزيل صفة الإجرام عن الفعل.
    ب-القانون الذي يوجد فعلا مبررا أو سببا من أسباب عدم المسؤولية.
ج- القانون الذي ينفي ظرفا أو أكثر من الظروف المشددة.
د- القانون الذي يقرر إعفاءا مطلقا أو إعفاءا مخففا من العقوبة.
هـ- القانون الذي يعطي للقاضي سلطة منح الظروف المخففة.
و- القانون الذي يسمح بإيقاف التنفيذ بالنسبة لجرائم لم يكن بالإمكان تطبيقه عليها.
ز- القانون الذي يخفف من وصف الجريمة.
    ومع ذلك فإن هذا التحديد لا يقضي على بعض الصعوبات، ولهذا يكون من الضروري الإشارة إلى البعض منها في الأمثلة  التالية :
    *إذا عين القانون القديم الحد الأقصى والأدنى لعقوبة ما ثم أتى القانون الجديد فرفع الحد الأدنى ولكنه خفض الأقصى، فيعتبر القانون الجديد أخف لأن العبرة دائما بالحد الأقصى، مادام القاضي يستطيع دائما أن ينزل عن الحد الأدنى بمنح الظروف المخففة.
    *إذا كان القديم ينص على عقوبة الحبس لمدة قصيرة، ثم أتى الجديد فغير الحبس بغرامة كبيرة. يكون الجديد أخف لأن الحبس ولو بيوم واحد أشد من الغرامة مهما بلغت.
        *إذا ادعى الشخص أن هذا القانون أصلح له من القانون الآخر فهل يجاب لطلبه؟ لا عبرة باعتقاد الفرد، وإنما يجب أن تقدر الصلاحية على أساس موضوعي متخذ من القانون نفسه، فأمر اتباع القانون الأصلح صادر من المشرع لقاضي الحكم.
    *إذا كان القانون الجديد يتضمن أحكاما في مصلحة المتهم وأخرى ضده فماذا يفعل؟ يطبق عليه الأصلح منها ما لم تكن الأحكام الجديدة مرتبطة بعضها ببعض حيث لا يمكن تجزئتها ففي هذه الحالة ينظر إليها بالقياس إلى مثيلاتها من القانون السابق.
وليس هناك ما يمنع من اختلاف تقدير صلاحية القانون بالنسبة إلى متهم عنه بالنسبة إلى متهم آخر معه، فيعتبر القانون الجديد هو الأصلح بالنسبة لأحد المتهمين في حين يعتبر القانون القديم هو الأصلح للمتهم الآخر وذلك حسب اختلاف ظروف كل منهما.
    *إذا ارتكب الجاني جريمة في ظل قانون، ثم صدر قانون ثاني وقبل أن يحاكم به صدر قانون ثالث، فما هو القانون الذي يطبق من هذه القوانين؟ أغلب الشراح يذهبون إلى أن أصلح هذه القوانين الثلاثة هو الذي يطبق سواء كان هو الأول أو الثاني أو الثالث، أما البعض فيرى أن المفاضلة لا تكون إلا بين الأول والثالث أما الثاني  فلا عبرة به ويستدلون بأنه لا يحق للمتهم أن يتمسك بقانون ليس هو الذي خالف أحكامه ولا الذي سيحاكم بمقتضاه لأنه ثبت عدم صلاحيته بدليل إلغائه.
    # ملاحظة : وعلى كل، فإن تطبيق القانون الجنائي الأصلح للمتهم، بأثر رجعي مشروط بعدم صدور حكم نهائي في القضية.
    وتجدر الإشارة إلى أنه، خلافا لقاعدة تطبيق القانون الجنائي الأصلح للمتهم، فإن القوانين الجنائية المؤقتة- أي تلك التي تصدر في فترة معينة لمواجهة ظروف خاصة- تستثنى من ذلك، تطبيقا للفصل 7 الذي جاء يقضي بأنه:" لا تشمل مقتضيات الفصلين5و6 القوانين المؤقتة التي تظل ولو بعد انتهاء العمل بها سارية على الجرائم المرتكبة خلال مدة تطبيقها ".
    4-القوانين الجنائية الشكلية: ويراد بها تلك القواعد التي تنظم طرق البحث والتحقيق والمحاكمة والتنفيذ، وتحديد اختصاصات المحاكم والإجراءات المتبعة أمامها، وكذا ممارسة مختلف طرق الطعن في الأحكام الصادرة عنها...فهذه القوانين المسطرية تطبق بأثر فوري حتى على القضايا والوقائع السابقة لصدورها لأنه يفترض فيها أن تكون أكثر عدالة وأكثر تحقيقا لحسن سير الإجراءات وتحقيق مصلحة المعنيين بها أكثر من سابقتها، ثم أنها ذات طابع محايد لا يخشى معها التأثير على سلوك القائمين بتطبيقها. وأكثر من ذلك فإنها لا تخلق جرائم جديدة ولا تستحدث عقوبات بوجه عام. هذا إذا استثنينا منها القواعد المنظمة للاختصاص والتقادم والإثبات.
    وقد درج الاجتهاد القضائي على إخضاعها بدورها لقاعدة التطبيق الفوري (القرار عدد :179 الصادر عن المجلس الأعلى بتاريخ 12/01/1959 ص : 433 من مجموعة أحكام المجلس الأعلى- الجزء الأول، وكذا القرار رقم:1713 بتاريخ 29/10/1964 المنشور بمجموعة أحكام المجلس الأعلى – الجزء الرابع –ص 283).

المطلب الثاني: مبدأ إقليمية القوانين الجنائي والإستثناءات الواردة عليه
(تطبيق القانون الجنائي من حيث المكان)

يخضع تطبيق القوانين الجنائية من حيث المكان لمبدأ إقليمية القوانين، ومؤداه تطبيق القانون الجنائي المغربي على جميع الأشخاص الذين يرتكبون جرائم بإقليم الدولة بصرف النظر عن جنسية مرتكبيها أو عن ظروف هذا الارتكاب، وهذا المبدأ منصوص عليه في الفصل 10 الذي يقضي بأن: " يسري التشريع الجنائي المغربي على كل من يوجد بإقليم المملكة من وطنيين وأجانب وعديمي الجنسية، مع مراعاة الاستثناءات المقررة في القانون العام الداخلي والقانون الدولي".
    ويتحدد إقليم الدولة وفقا لقواعد القانون الدولي العام في الإقليم الترابي والجوي والبحري :
    أ-الإقليم الترابي : يقصد به الإمتداد الترابي للدولة في نطاق حدودها البرية.
    ب-الإقليم الجوي : فيشمل الفضاء الجوي الذي يعلو مباشرة الإقليمين الترابي والبحري.
    ج-الإقليم البحري : ويشمل بالإضافة إلى المساحات التي تمتد فيها الأنهار والبحيرات الداخلية، حوالي 12 ألف ميل انطلاقا من القواعد البرية داخل مياه البحر المجاورة لليابسة (الفصل1 من ظهير 2 مارس 1973).

    ويلحق بإقليم الدولة كل ما هو محدد أعلاه، السفن والطائرات المغربية، أيا كان مكان وجودها سواء داخل المملكة أو خارجها، ما لم تكن خاضعة حسب أحكام القانون الدولي لمقتضيات مخالفة (الفصل11 من ق.ج).
    وترد على هذا المبدأ عدة استثناءات يمكن تقسيمها إلى نوعين :
    1-الجرائم المرتكبة داخل المغرب ولا تخضع لمبدأ الإقليمية وتهم :
    أ-الحالات المنصوص عليها في الفصل10 المشار إليه سابقا "...مع مراعاة الاستثناءات المقررة في القانون العام الداخلي والقانون الدولي".
    ومن أمثلة هذه الحالات وفقا للقانون العام الداخلي:
    *شخص الملك : فهو شخص مقدس لا تنتهك حرمته (الفصل 23) من الدستور.
    *أعضاء مجلسي البرلمان وفقا للفصل37 من الدستور الذي ينص على أنه :" لا يمكن متابعة أي عضو من أعضاء مجلس النواب ولا البحث عنه ولا إلقاء القبض عليه ولا اعتقاله ولا محاكمته بمناسبة إبدائه لرأي أو قيامه بتصويت خلال مزاولة لمهامه ماعدا إذا كان الرأي المعبر عنه يجادل في النظام الملكي أو الدين الإسلامي أو يتضمن ما يخل بالاحترام الواجب للملك، ولا يمكن في أثناء دورات المجلس متابعة أي عضو من أعضائه ولا إلقاء القبض عليه من أجل جناية أو جنحة غير ما سبقت الإشارة إليه في الفقرة الأولى من هذا الفصل، إلا بإذن من المجلس ما لم يكن هذا العضو في حالة تلبس بالجريمة.
    ولا يمكن خارج مدة دورات المجلس إلقاء القبض على عضو من أعضائه إلا بإذن من مكتب المجلس ما عدا في حالة التلبس بالجريمة أو متابعة مأذون فيها أو صدور حكم نهائي بالعقاب.
    "يوقف اعتقال عضو من أعضاء مجلس النواب أو متابعته إذا صدر طلب بذلك من المجلس ما عدا في حالة التلبس بالجريمة أو متابعة مأذون فيها أو صدور حكم نهائي بالعقاب".
    *رؤساء الدول الأجنبية وأعضاء السلك الدبلوماسي وممثلو المنظمات الدولية لأن إخضاعهم للقانون المغربي يمس بمبدأ سيادة الدول التي يمثلونها وجميع الدول تلتزم بالقيد بهذه القاعدة عن طريق المعاملة بالمثل ولا يمكنها في حالة ارتكاب هؤلاء الأشخاص لجرائم خاضعة للقانون الداخلي للدولة المضيفة إلا أن تطلب منهم مغادرة ترابها باعتبارهم غير مرغوب فيهم.
    أ-الاستثناء الثاني، ويتعلق بأثر من آثار عدم حجية الأحكام الأجنبية الحائزة لقوة المقضى به في المغرب. فإذا كان الفصل 756 من قانون المسطرة الجنائية يقضي بعدم متابعة شخص أجنبي من أجل جناية أو جنحة ارتكبها في المغرب، إذا أتبث بأنه قد صدر بشأنها حكم نهائي في الخارج، وفي حالة إدانته، إذا أتبث بأنه نفذ العقوبة أو انتهت بالتقادم أو بصدور عفو في حقه، غير أن الفصل 198 من القانون الجنائي نجده يقرر استثناء واضحا على هذا المبدأ عندما نص على أن القانون المغربي يطبق على الجنايات والجنح المرتكبة ضد أمن الدولة الخارجي، سواء ارتكبت داخل المغرب أو خارجه، وسواء كان الجناة قد حوكموا، أدينوا، أو قضوا العقوبة المحكوم بها أم لا. وذلك استثناء من الأحكام المنصوص عليها في الفصول من 751 إلى 756 من قانون المسطرة الجنائية.
    1-الجرائم المرتكبة خارج المملكة يمكن المتابعة بشأنها في المغرب:
    أ-الجرائم المرتكبة من طرف أشخاص مغاربة:
    في هذه الحالة يخول الاختصاص للقانون الجنائي والقضاء المغربي استنادا إلى مبدأ الشخصية القاضي بامتداد سريان القانون الجنائي المغربي على الرعايا المغاربة حتى بالنسبة للجرائم التي يرتكبونها خارج الوطن. وفي هذه الحالة يبدو مبدأ الشخصية مكملا لمبدأ الإقليمية سدا للفراغ التشريعي والقضائي الناتج عن عدم الاعتراف في المغرب بحجية الأحكام الصادرة في الخارج. كما هو الحال في الفصول751 ف2 و752 ف2 من ق.م.ج.
    وللعقاب على الفعل المرتكب من قبل مغربي في الخارج، يجب أن يكون هذا الفعل يشكل جناية في القانون المغربي وفقا للفصل 751/ف1 ق.م.ج كما الشأن بالنسبة للجرائم المنصوص عليها في الفصول من 163 إلى 180 من القانون الجنائي المتعلقة بالمس أو المؤامرة ضد حياة الملك، الأسرة الملكية، وكذلك شكل نظام الحكم بالمغرب.
    أما في ميدان الجنح فإن المبدأ(مبدأ الشخصية) لا يؤخذ به: أي أن الجنح المرتكبة من قبل رعايا مغاربة في الخارج لا يمكن المتابعة بشأنها أمام المحاكم المغربية وفقا للقانون المغربي، إلا إذا كان الفعل يوصف بالجنحة سواء في التشريع الجنائي للدولة الأجنبية أو في ظل التشريع المغربي(الفصل752/ف2 من قانون المسطرة الجنائية)، وكمثال على بعض الجرائم التي لا تتوافر فيها هذه الشروط جنحة " الإفطار عمدا في نهار رمضان (ف222 من ق.ج)، جريمة الفساد(ف490) وذلك بالمقارنة مع التشريع الجنائي الفرنسي".
    أ-جرائم المرتكبة من طرف أجانب:
إن الاقتصار على تطبيق مبدأ الإقليمية يغل يد القضاء والقانون المغربي عن السريان على مواطني الدول الأجنبية المقيمين بالمغرب بعد ارتكابهم لأعمال إجرامية بالخارج. غير أنه من المحتمل جدا، أن يكون المغرب نفسه ضحية هذه الأعمال، لهذا أوجد الخروج من هذا المبدأ، حيث نص الفصل755 من قانون المسطرة الجنائية على أن:" كل أجنبي ارتكب خارج تراب المملكة بصفته فاعلا أو مساهما أو مشاركا في جناية ضد سلامة الدولة المغربية أو تزييف نقود أو أوراق بنكية وطنية متداولة بالمغرب بصفة قانونية، يمكن متابعته ومحاكمته طبقا للقانون المغربي".
    والتسليم يعتبر إجراءا خاصا يبيح الحصول من دولة أخرى على شخص سبق أن التجأ إلى هذه الدولة في وقت كانت محاكم الدولة الطالبة للتسليم تتهمه أو حكمت عليه من أجل ارتكاب جناية أو جنحة، بشرط أن لا يكون هذا الشخص من رعايا الدولة المطلوب منها التسليم لسبب وهو أن الدولة لا تسلم مواطنيها.
    فالفصل 756 من قانون المسطرة الجنائية ينص على أنه لا يمكن أن تجري ضد أجنبي أية متابعة من أجل جنائية أو جنحة اقترفت بالمغرب إذا أدلى بما يثبت أنه حوكم نهائيا في الخارج من أجل نفس الجناية أو الجنحة أو إذا أدلى بما يثبت أنه قضى مدة عقوبته أو مر عليها التقادم الجنائي أو صدر العفو عليه في شأنها.
    أما فيما يتعلق بالإمكانية العملية لتأمين تنفيذ حكم جنائي مغربي بالخارج، حيث يقطن الأجنبي المحكوم عليه فإن هذا الأمر متروك لما تنص عليه الاتفاقيات الخاصة مع الدول المعنية بالأمر.
    وعلى العموم فإن الدول قليلا ما توافق على تنفيذ أحكام أجنبية صادرة عن محاكم أجنبية بترابها الخاص، كما يشير إلى ذلك قانون المسطرة الجنائية المغربية في تحديد اختصاصاته الخاصة، فأغلب التشريعات لا تبيح غير تنفيذ أحكام القانون المدني المتعلقة بتعويض أضرارا أو الحصول على تعويضات قضت بها المحاكم الأجنبية لصالح متضررين إذا وضعت عليها صيغة التنفيذ من السلطة القضائية فيمكن تنفيذها أينما وجب التنفيذ، لأن القانون المدني خاص بتنظيم علاقات الأفراد بخلاف القانون الجنائي الذي يعتبر أمر تنفيذه موكولا إلى حق الدولة في التجريم والعقاب.
























المبحث الثاني: الركن المادي للجريمة

إن القانون خلافا للأخلاق والأديان السماوية، لا يؤاخذ الإنسان على أفكاره ونواياه، ولا عن مشاعره وأحاسيسه الباطنية، مادامت حبيسة مخيلته. ولا يبدأ عمل القانون ومفعوله إلا إذا تجسدت هذه الأفكار واتخذت شكلا ماديا ملموسا وذلك بإظهارها وإخراجها إلى العالم الخارجي، إما في شكل حركة للبدن أو أحد أطرافه(النطق بكلام نابي في حق شخص – تحريك أعضاء الجسم بالعنف والإيذاء...)، لأنه في هذه الحالة وحدها يمكن إلحاق الضرر بالمجتمع والذي هو أساس التجريم، وهو ما عبر عنه المشرع المغربي في الفصل الأول من القانون الجنائي الذي يقضي بأن: " القانون الجنائي يحدد أفعال الإنسان التي يعتبرها جرائم بسبب ما تحدثه من اضطراب اجتماعي..."، وكذلك الفصل 110 الذي يقضي بأن الجريمة هي كل عمل أو امتناع مخالف للقانون الجنائي ومعاقب عليه بمقتضاه.
وهذا السلوك المادي الخارجي المعاقب عليه، قد يكون عادة فعلا إيجابيا يتخذ صورة القيام بعمل (النشاط الإيجابي) كما أنه قد يقتصر على مجرد الامتناع أو عدم القيام بعمل حالة كون القانون يأمر بالقيام به (النشاط السلبي).
والنشاط الذي يتحقق به الركن المادي للجريمة يأخذ عادة شكل القيام بفعل يترتب عنه ضرر أو أذى بالفرد أو بالمجتمع (النتيجة الإجرامية)ويكون هذا الضرر نتيجة مباشرة ترتبت عن ذلك الفعل (العلاقة السببية بين الفعل والضرر).
    ولكن الركن المادي في جرائم النتيجة لا يتحدد بنفس الشروط في الجرائم الشكلية.
أما في جرائم المحاولة، وخلافا للجريمة التامة، فإن الركن المادي يتحقق بمجرد الشروع في التنفيذ إلى نهايته، ولكن دون تحقيق الهدف المتوخى.
ومن ناحية أخرى فإن الركن المادي للجريمة قد يرتكب من قبل شخص واحد بمفرده (فاعل) وقد يقتصر دوره على مجرد تنفيذ جزء من الوقائع المادية للجريمة بينما يتولى أشخاص آخرون إتمام العناصر الأخرى (المساهمون)، كما أن دوره قد يتمثل في مجرد تقديم المساعدة والنصح للفاعل أو الفاعلين (مشارك).

وأخيرا قد لا يقوم الشخص نفسه لا بأعمال التنفيذ المادي ولا بتقديم المساعدة وإنما يعمد إلى تسخير شخص آخر غير مسؤول جنائيا بالنظر إلى ما هو عليه من خلل في قواه العقلية أو صغر السن أو بسبب ظروفه الشخصية (الفاعل المعنوي). وهذا ما سوف نبحثه فيما سيأتي مخصصين لكل موضوع منها مطلبا مستقلا.

المطلب الأول:  عناصر الركن المادي:

يشترط لقيام الركن المادي للجريمة توافر ثلاثة عناصر وهي: نشاط يقوم به الجاني ونتيجة إجرامية وعلاقة سببية بين ذلك النشاط وهذه النتيجة.



أولا: نشاط أو سلوك إجرامي:
لابد لقيام الجريمة من نشاط مادي أو خارجي يصدر من الجاني. وهذا النشاط لابد وأن يتخذ أحد الشكلين، إما عمل إيجابي أو امتناع عن عمل.

وهذا ما ورد في الفصل 110 من القانون الجنائي من أن " الجريمة هي عمل أو امتناع عن عمل مخالف للقانون الجنائي ومعاقب عليه بمقتضاه ".

1-    ارتكاب الجريمة بنشاط إيجابي : (القيام بعمل)

فالجرائم التي يتكون ركنها المادي من نشاط إيجابي كثيرة ومتنوعة، وهي تتحقق بتحريك أحد أعضاء الجسم كاليد في جرائم الضرب والجرح العمديين، وكذا الاختلاس والتزوير والسب والقذف بواسطة الصحافة. وكذا بتحريك اللسان كما في جريمتي شهادة الزور والوشاية الكاذبة. ومن أمثلة الجرائم التي تتم بنشاط إيجابي كذلك جريمة حمل وسام أو شارة رسمية بدون حق، أو انتحال صفة أو وظيفة، أو السكر العلني البين، أو انتزاع حيازة عقار، أو انتهاك حرمة مسكن الغير (انظر الفصول مثلا:175-203-293-209-317-319-230-441-382-529-530 من القانون الجنائي ).

2-    ارتكاب الجريمة بنشاط سلبي (الامتناع أو عدم القيام بعمل):

فكما ترتكب الجريمة بنشاط إيجابي، وهو الوضع الغالب، يمكن كذلك أن يتم بمجرد الامتناع عن القيام بفعل معين يلزم القانون الجنائي الشخص بالقيام به. والامتناع الذي يتحقق به الركن المادي للجريمة قد يأخذ وجهين مغايرين. ففي بعض الحالات قد يكون الامتناع أو عدم القيام بالفعل مجرد وسيلة لتحقيق نتيجة إجرامية، وبالتالي لا تقوم الجريمة إلا بوجود علاقة سببية بين " الامتناع " والنتيجة الإجرامية وفقا للقواعد العامة.

أ‌-    الامتناع جريمة:

وكمثال للنوع الأول جريمة عدم التبليغ بجرائم المس بأمن الدولة (الفصل  209 ق ج) أو بالجنايات المرتكبة بوجه عام (الفصل 299) إنكار العدالة ( الفصل 240)، الامتناع عن أداء الشهادة (الفصل 373)، عدم التدخل لمنع وقوع جناية أو جنحة، ضد حياة أو السلامة الجسدية للغير(الفصل 430)، عدم التصريح بالولادة (الفصل 468)، وهذه الجرائم كلها جرائم شكلية أو جرائم سلوك.

ويلاحظ في هذه الحالات أن مجرد الامتناع وحده تتحقق به الجريمة التامة لأن التجريم يتعلق بذات الامتناع. ولهذا فإن أي امتناع لا يعتبر جريمة إلا إذا وجد بشأنه نص قانوني صريح.

ب‌-    الامتناع كوسيلة لارتكاب جريمة:

خلافا لبعض الآراء الفقهية ولموقف بعض التشريعات المقارنة في الموضوع، يلاحظ أن المشرع المغربي لم يجعل الامتناع وسيلة لارتكاب الجرائم الإيجابية كمبدأ عام، وإنما اكتفى بإيراد حالات يعتبر فيها الشخص في حالة توافر شروط خاصة نص عليها مرتكبا لجريمة معينة، كما في عدم التدخل لمنع وقوع جناية أو جنحة ماسة بالسلامة الجسدية للأشخاص (الفصل 430 ق ج) أو الإمساك عن التدخل لتقديم مساعدة لشخص في خطر، والحال أنه في إمكانه التدخل دون أن يعرض نفسه أو غيره للخطر (الفصل 431 ق ج).

ثانيا : نتيجة إجرامية: 

عندما يتدخل القانون للزجر على القيام بعمل معين، أو للحث على القيام به، فإنه لا يفعل ذلك بهدف تقييد حريات الأشخاص بشكل عشوائي وإنما يهدف دائما إلى حماية مصلحة عامة أو حق أو حرية عامة من المساس بها. ولهذا كان من الشروط الأساسية لقيام الجريمة أن يكون الفعل أو –الامتناع الصادر من الشخص، عند الاقتضاء، قد تسبب في ضرر أو ألحق أذى بمركز قانوني أو مصلحة يحميها القانون. وهذا هو ما عبر عنه بالنتيجة الإجرامية.

ويقصد بالنتيجة الإجرامية، كل أذى أو ضرر مادي أو معنوي يلحق بشخص أو بجماعة معينة يشكل اعتداء على حق من حقوقها. ففي القتل العمد بجميع أنواعه (الفصول 392-397) يعتبر إزهاق روح الشخص والمساس بحقه في الحياة هو النتيجة الإجرامية.

وفي جريمة الضرب أو الجرح العمديين المنصوص عليها في الفصل 401 ق ج تعتبر الآلام المترتبة عن الجرح أو الضرب وكذا الشعور بالأسى والحسرة من جراء ما تخلفه من تشوهات جسدية أو آثار (ضرر معنوي)، بالإضافة إلى ما تتسبب فيه من مصاريف العلاج والتطبيب وكذلك العجز المؤقت أو الدائم عن العمل (ضرر مادي)، تعتبر هذه الأضرار كلها نتيجة إجرامية لأعمال الضرب والجرح.


ثالثا: العلاقة السببية:
لا يكفي لتحقق الركن المادي الذي تقوم به الجريمة، مجرد صدور فعل عن شخص، وترتب النتيجة الإجرامية، بل لابد من وجود علاقة سببية بين النشاط المادي الصادر عن الفاعل وبين التغيير الحاصل في العالم الخارجي ويقصد بالعلاقة السببية أن يكون الضرر أو الأذى اللاحق بالضحية وبالتالي بالمجتمع نتيجة منطقية ومباشرة لنشاط الجاني، بحيث إذا انتفت هذه الرابطة انتفت الجريمة. وإذا كانت العلاقة السببية على المستوى النظري تبدو واضحة إلا أنها تثير على المستوى العملي عدة صعوبات وخاصة عندما تلفها ظروف وملابسات تضفي عليها نوعا من الغموض وتجعل تحديدها أمرا صعبا ويتطلب بذل مجهود من أجل الكشف عن حقيقة العلاقة بين الفاعل والنتيجة المعروضة.

وتثور هذه الصعوبة، على الخصوص، عندما تشترك مع نشاط الجاني أسباب أخرى في إحداث نتيجة إجرامية معينة، يكون ذلك النشاط بمفرده عاجزا عن تحقيقها ومن ذلك :
-    حالة كون المجني عليه مصاب بمرض سابق لارتكاب الجريمة.
-    حالة ما إذا حصل مع ارتكاب الجريمة تدخل ظروف يجهلها الفاعل يختلط مفعولها مع دور نشاط الفاعل في إحداث النتيجة الإجرامية كجرح الضحية بأداة كانت بها جراثيم تؤدي إلى تسممه وموته، أو إصابته بعاهة مستديمة، أو بثر أحد أعضائه.
-    وأخيرا قد يأتي السبب لاحقا لفعل الجاني، مثل إصابة سيارة الإسعاف التي تنقل شخصا كان ضحية ضرب أو جرح أثناء نقله في الطريق إلى المستشفى بعطب ميكانيكي أدى إلى تأخير إسعافه، أو علاجه بطريقة غير صحيحة، فلفظ أنفاسه. وكما في حال رفض الضحية نفسه نقله إلى المستشفى أو إسعافه...

ففي هذه الحالات كلها وأمثالها يلاحظ أن نشاط الفاعل (الجرح الخفيف) المنسوب للمتهم لم يكن منطقيا، بحسب المألوف من الأمور، أن تترتب عنه النتائج الخطيرة (الموت- العجز-ضرورة بثر عضو ) لولا تدخل هذه الأسباب الأجنبية.
والسؤال المطروح هو: هل يؤاخذ الفاعل عن النتيجة القريبة المباشرة؟ أم أنه يجب أن تمتد مسئوليته إلى سلسة النتائج المتتالية باعتبار أنه لولا فعله لما تحققت وبالتالي يجب نسبتها إليه؟

إن القانون الجنائي المغربي لم يعرض لهذا المشكل بنص صريح يزيل اللبس والغموض عن الرابطة السببية في الأحوال السابقة. فإذا تصفحنا مختلف أنواع الجرائم التي يتخذ فيها الركن المادي شكل عمل أو امتناع ونتيجة إجرامية وعلاقة سببية بينهما(الجرائم المادية) نجده يقتصر على مجرد التعبير عن هذه العلاقة أو الرابطة باستعمال عبارة " نتج"  أو " نشأ" أو " تسبب" أو " ترتب" وذلك دون أية إضافة توضيحية. وبالتالي فإن التشريع الجنائي ساكت بخصوص هذه الحالة.

ولهذا فإن تقرير وجود العلاقة السببية لا مناص من تركه إلى السلطة القضائية، وهي تنظر في كل حالة على حدة، وتحت رقابة المجلس الأعلى باعتبار القانون بوجود العلاقة السببية أو انعدامها بالنسبة لوقائع محددة تثبت أمامها هي مسألة قانون تخضع بشأنها للرقابة. وإن وضع معيار عام، علاوة على ما يطرحه من صعوبة، سيشكل خروجا عن النص يتنافى مع القواعد العامة في تفسير النصوص الجنائية.

المطلب الثاني:   الركن المادي بين الجرائم الشكلية وجرائم النتيجة

إن طبيعة الركن المادي وكذا العناصر التي يقوم بها ليست واحدة، وإنما تختلف بحسب ما إذا كانت الجريمة المعروضة للبحث من الجرائم الشكلية (جريمة السلوك) أو من جرائم النتيجة. فإذا كانت هذه الأخيرة لا تقوم إلا بتوافر العناصر الثلاثة التي أسلفنا الحديث عنها (فعل أو امتناع +نتيجة إجرامية + علاقة سببية بينهما) فإن الجرائم الشكلية تقوم بمجرد القيام بعمل أو بالامتناع عنه في الشكل الذي يقرره النص المنشئ لها، وذلك بصرف النظر عن تحقق النتيجة الإجرامية أو عدم حدوثها. وسواء كانت جريمة إيجابية كما هو الحال في إعطاء مواد من شأنها أن تسبب الموت عاجلا أم آجلا لشخص آخر بنية قتله(الفصل 398 ق ج )وكما في جريمة المؤامرة (الفصل 175 ق ج ) التي تتم بمجرد العزم متى كان مبرما ومتفقا عليه بين شخصين أو أكثر.

وكمثال على الجرائم الشكلية السلبية، جريمة عدم التبليغ المنصوص عليها في الفصلين 209 و299، وعدم أداء الشهادة لفائدة شخص برئ متابع أمام العدالة، عدم التصريح بازدياد مولود، عدم التصريح بالعثور على مولود (468-469) وكذا الامتناع عن أداء النفقة الواجبة في تاريخ استحقاقها(الفصل 480) وانظر كذلك الفصول: 408-430-431 ق ج وكذا معظم المخالفات المتعلقة بالسير والمرور(ظهير 19 يناير 1953).


إن التجريم في هذه الحالات كلها وأمثالها يتعلق بخطورة الجاني أكثر منه بالنتيجة الإجرامية التي تبقى محتملة جدا قد تتحقق وقد لا تحدث.

المطلب الثالث:  المحاولة
كما رأينا سابقا لا يعاقب القانون الجنائي على الأفكار والنوايا ما دامت حبيسة الخيال كمالا يعاقب كقاعدة عامة على مرحلة التحضير لارتكاب الجريمة.  أما إذا بدأ الجاني في تنفيذ الركن المادي للجريمة، فهنا يتدخل المشرع بالعقاب، فإذا نجح الجاني في تنفيذ جريمته كنا أمام  جريمة تامة،  وأما إذا تخلفت النتيجة كنا أمام جريمة ناقصة أو كما يسميها المشرع المغربي " المحاولة".

 " و قد نص المشرع المغربي على المحاولة في الفصل 114 ق.ج بقوله : " كل محاولة ارتكاب جناية بدت بالشروع في تنفيذها أو بأعمال لا لبس فيها تهدف مباشرة إلى ارتكابها, إذا لم يوقف تنفيذها, أو لم يحصل الأثر المتوخى منها إلا لظروف خارجة عن إرادة مرتكبيها تعتبر كالجناية التامة, ويعاقب عليها بهذه الصفة."

وللإلمام بموضوع المحاولة سنبحثه من خلال النقط التالية:
أولا: المراحل التي يمر بها ارتكاب الجريمة.
ثانيا : عناصر المحاولة.
ثالثا: صور المحاولة.
رابعا العقاب على المحاولة

أولا: مراحل ارتكاب الجريمة التامة:
أ‌-    المرحلة النفسية:

إن الجريمة كمشروع إجرامي تبدأ كفكرة في ذهن صاحبها، فإما أن يستجيب لها فيعمد إلى تنفيذها أو يعرض عنها. فهذا التفكير لم يظهر إلى العالم الخارجي لذا فإن صاحبه لا يتعرض للعقاب لأن القانون كما قلنا لا يعاقب على الأحاسيس والأفكار.

غير أن المصلحة العامة تقتضي أحيانا تدخل المشرع للعقاب على أعمال ليس لها مظهرا ماديا بل مازالت مجرد أفكار ونوايا  كما هو الحال في المؤامرة (الفصل 183) وكذا العصابات الإجرامية (الفصل 293).

ب‌-    مرحلة الإعداد والتحضير:

في هذه المرحلة تخطو فكرة الإجرام خطوة إلى الأمام إذ هي مرحلة مادية ملموسة ذلك أن الجاني يشرع في إعداد الوسائل التي تساعده وتمكنه من تنفيذ ما أقر عليه عزمه، ومرحلة التحضير هاته لا يعاقب عليها القانون إلا استثناء أي إذا شكلت في حد ذاتها جرائم قائمة الذات من ذلك مثلا من وجدت في حوزته أدوات مما يستخدم في فتح الأقفال أو كسرها، ولم يستطع أن يثبت لهذه الحيازة غرضا مشروعا (الفصل 530) وكذلك جريمة حيازة السلاح بدون رخصة لأنها لا تحمل الدليل اليقين على أن الجاني لن يعدل عن اتجاهه مرة أخرى، والمشرع يريد بذلك تشجيع الجناة على العدول عن السير في طريق الجريمة.


ج- مرحلة التنفيذ:

يقوم المجرم في هذه المرحلة بتنفيذ الجريمة التي أقر عزمه على ارتكابها وأعد لها مسبقا كذهابه حاملا سلاحه محشوا متأهبا لإطلاقه عند مرور المجني عليه فيتربص مترصدا في مكان وقع عليه اختياره، حتى إذا مر خصمه أطلق عليه الرصاص فقتله، وبهذا يعتبر فعله قد تم بإيقاع الجريمة المنصوص عليها في القانون وهي القتل أو قد يصيب خصمه بإصابات قاتلة يشفى منها أو لا يحكم الرماية فلا يصاب المجني عليه بأية إصابة أو يضبط وهو يسدد سلاحه وقبل إطلاقه في هذه الأحوال يعد فعله شروعا ويتعرض للعقاب.

ثانيا: عناصر المحاولة
تقوم المحاولة على عناصر ثلاثة:
أ‌-    البدء في التنفيذ
ب-عدم إتمام الجريمة لأسباب لا ترجع إلى إرادة الجاني (انعدام العدول الإرادي)
ج-القصد الجنائي

أ- البدء في التنفيذ:

فهذا العنصر مستفاد صراحة من الفصل 114 الذي ينص على أن : " كل محاولة ارتكاب جناية بدت بالشروع في تنفيذها أو بأعمال لا لبس فيها تهدف مباشرة إلى ارتكابها..."

فلا محاولة إذن إذا لم يبدأ الجاني في تنفيذ الجريمة أو لم يأت أي عمل لا لبس فيه يهدف مباشرة من وراءه إلى تنفيذ جريمته. ولكن متى يعتبر الفعل شروعا أو بدءا في التنفيذ يعاقب عليه القانون ؟ فإذا تتابعت خطوات الجاني بعد انقضاء مرحلة العزم على ارتكاب الجريمة بأفعال منها ما يوصف بأعمال تحضيرية ومنها كذلك ما يتصل بالتنفيذ. فكيف يتم التفريق بين هاتين النوعين من الأعمال ؟ وهل يوجد ضابط معين للتمييز بينهما؟

وعلى هذه التفرقة تترتب نتائج هامة، فإذا كانت الأفعال من أعمال التحضير فلا عقاب عليها إلا في بعض الحالات الخاصة التي ينص عليها القانون كالفصل 178 من القانون الجنائي المغربي الذي عاقب فيه المشرع بالسجن من خمس إلى عشر سنوات من عقد العزم بمفرده على ارتكاب اعتداء ضد حياة الملك أو شخصه أو ضد حياة ولي العهد، ثم ارتكب بمفرده ودون مساعدة أحد عملا أو بدأ فيه بقصد إعداد التنفيذ.

ولهذا تتضح أهمية التمييز بين الأعمال التحضيرية والبدء في التنفيذ. فقد يكون الأمر واضحا إذا ضبط الشخص وهو يشتري سلاحا، فتصرفه هذا لا يشك في صفته التحضيرية التي لا يعاقب عليها القانون، وإذا ضبط وهو يحمل السلاح محشوا يسدده ويهم بإطلاق النار على المجني عليه ليقتله، فهذا الفعل لا يشك في كونه يعد بدءا في التنفيذ يجرمه القانون ويعاقب عليه. إلا أن هناك أوضاعا أخرى تتوسط هاتين المرحلتين وليس من السهل الحكم عليها، فمثلا إذا ضبط الجاني ليلا داخل منزل حاملا سلاحا ولا تبعده عنه الغرفة التي ينام فيها خصمه إلا خطوات، فهل يعتبر في حالة بدء تنفيذ جناية قتل أم ما زال في مرحلة التحضير لها؟ أو إذا ضبط الجاني وهو يتسلق حائطا بواسطة سلم وأخذ يصعد للوصول إلى سطح المنزل فهل يعتبر شروعا في السرقة أم أنه لم يبدأ بعد تنفيذها ؟

تلك هي مشكلة الشروع أو المحاولة، وقد وجدت لها حلول فقهية وتشريعية مختلفة.

الحلول النظرية:
أوجد الفقه للمحاولة حلين مختلفين الأول مادي والثاني شخصي:
•    المعيار المادي أو الموضوعي:

وهو الذي يهتم بالخلل الاجتماعي وبدرجته، وتبعا لذلك فالجاني لا يخضع للعقاب إلا إذا ارتكب أفعالا مادية تؤدي إلى الأضرار بالمصالح والحقوق التي يحميها القانون جنائيا. وبعبارة أخرى فإن الفعل يعد بدءا في التنفيذ إذا أصاب به صاحبه الركن المادي للجريمة (ففي السرقة مثلا:وضع اليد على المسروق) وإلا فهو عمل تحضيري. إلا أنه يؤخذ على هذا المعيار أنه يحدد المحاولة في نطاق ضيق جدا، وتفاديا لذلك حاول أنصاره التوسع فيه فقالوا بأن الفعل يعتبر بدءا في التنفيذ إذا أصاب به صاحبه الركن المادي للجريمة أو إذا عد الفعل ظرفا مشددا في الجريمة واستنادا إلى ذلك أصبح التربص للقتل شروع فيه، لكن رغم هذا التوسع، فإن هذا المعيار يبقى محل نقد لأن ذلك لا يطبق على كل الجرائم وإنما على تلك الجرائم التي تقترف بظروف تشديد عينية لا شخصية، والحال أن الجرائم ليست كلها تقترف بظروف تشديد عينية، كما أن هناك ظروف تشديد عينية (ظرف الليل في السرقة مثلا أو ظرف تعدد الأشخاص) لا يمكن أن يتصور معها البدء في التنفيذ.
•    المعيار الشخصي:
يتجه أنصار هذا المذهب إلى التركيز على نية الجاني وخطورته الإجرامية، أما فعله، فهو مجرد قرينة يستعان بها على كشف تلك الخطورة وتلك النية، وعليه فالفعل يعتبر شروعا إذا كان يؤدي مباشرة إلى ارتكاب الجريمة بغض النظر عما إذا كان ماسا بالركن المادي للجريمة أو يشكل ظرفا من ظروف التشديد فيها. فهذا المعيار هو في حقيقته تقييم لشخصية الجاني أكثر مما هو تقييم للسلوك الذي أتاه.

•    الحلول التشريعية:
جميع التشريعات الوضعية تعاقب على المحاولة، إلا أن هناك تشريعات تأخذ بالمفهوم المادي فتشترط وجود بدء في التنفيذ الإجرامي ولا تعاقب عليه بنفس عقوبة الجريمة التامة، أما التشريعات التي تأثرت بالمفهوم الشخصي فإنها لا تشترط البدء في التنفيذ، وتعاقب على الشروع بعقاب الجريمة التامة بمجرد توافر أو تحقق ظروف وملابسات لا تدع مجالا للشك في توافر النية الإجرامية لدى الفاعل.

•    موقف القانون المغربي:
بالرجوع إلى الفصل 114 من القانون الجنائي السابق الذكر، يتضح أن المشرع المغربي أخذ بالمعيارين معا، فعند قوله : " كل محاولة ارتكاب جناية بدت بالشروع في تنفيذها..." يكون قد أخذ بالمعيار الموضوعي وأضاف إليه مباشرة المذهب الشخصي عند قوله"...أو بأعمال لا لبس فيها تهدف مباشرة إلى ارتكابها..." إذ أن الجاني يكشف عن نيته الإجرامية بطريقة واضحة وعزمه على أنه في سبيل ارتكاب جريمته بدون تردد.

هذا ويجب أن يكون واضحا في الأذهان أن المعيار الشخصي ليس نفيا للمعيار الموضوعي لأن تطبيقه يشمل أيضا دائرة تطبيق المعيار الموضوعي.

ب-انعدام العدول الإرادي:

فهذا العنصر يشترط أن يقف التنفيذ أو يخيب أثره لأسباب ولظروف لا دخل لإرادة الجاني فيها، ومعنى هذا أن المحاولة التي منعت قسرا تكون خاضعة للعقاب. كما أن المانع أو الظرف الخارجي يمكن أن يحول دون إتمام التنفيذ، إذن المانع الخارجي يمكنه أيضا في بعض الحالات أن يؤثر على المجرم ويصرفه عن إتمام فعلته فإذا رأى أثناء قيامه بفعلته شهودا مقبلين أو رجال شرطة متجهين نحو مكان الحادث فكف عن ذلك اعتبر هذا عدولا غير إرادي ويعاقب على محاولة الجريمة التي هو بصددها.

أما إذا رجع الفاعل من تلقاء نفسه وبمحض إرادته عن تنفيذ جريمته فلا عقاب عليه في هذه الحالة إذ تنتفي في فعله صفة " المحاولة" وعدم العقاب في هذه الحالة يعود إلى اعتبار نفعي أي إلى مصلحة لابد من مراعاة منفعتها  وهي اتقاء الشر الأخطر بترك المجال للفعل لأن يتراجع في آخر لحظة عن فعله الإجرامي، فلا فرق بأن يكون ندم الضمير أو أن تكون خشية العقاب السبب في العدول عن إتمام فعلته.

إن البواعث على العموم لا وزن لها في القانون سواء من حيث ارتكاب الجريمة وضرورة توقيع العقاب عليها أو من حيث العدول الاختياري المانع من المسؤولية.
إلا أنه ولكي يعتد بالعدول الإرادي يجب أن يتم قبل لحظة إتمام الجريمة، وسابقا كذلك على لحظة صيرورة الفعل محاولة في الجريمة بوقف التنفيذ أو خيبة أثره لأسباب خارجة عن إرادة الجاني، وهذا أمر منطقي لأن الإنسان لا يعدل عن الجريمة بعدما يرتكبها سواء في صورتها التامة أو الناقصة، ومن ثمة فلا تأثير لمن أخذ الرشوة أن يردها ولا لمن أشعل النار في المكان لإحراقه أن يعمد إلى إطفائها.

وبديهي أن الجاني الذي عدل بمحض إرادته عن إتمام مشروعه الإجرامي لا يؤاخذ على الجريمة التي كان ينوي اقترافها وإنما يسأل عن الفعل الذي أتاه إن شكل جريمة. من ذلك مثلا: إذا كان الجاني ينوي قتل الضحية وبدأ يضربه ثم عدل عن قتله من تلقائه ودون أي عامل خارجي فإنه لا يسأل عن محاولة قتل عمد وإنما عن جريمة الضرب العمدي ليس إلا.

ج-القصد الجنائي:

لا يكفي لقيام المحاولة أن تصدر من الجاني أفعال مادية تعتبر من قبيل البدء في التنفيذ أو الأعمال التي لا لبس فيها بل لابد أن تتجه إرادة الجاني إلى ارتكاب الجريمة التامة، أي بكل عناصرها، حيث يهدف الجاني إلى إتيان السلوك وتحقيق نتيجة معينة، وعلى هذا الأساس فالمحاولة دائما جريمة عمدية ولا تصور لها في الجرائم غير العمدية لأن الجاني فيها لا يهدف إلى تحقيق نتيجتها الإجرامية وإنما تحققت تلك النتيجة نتيجة لخطئه في السلوك، ولذلك فلا محاولة فيها، ولا محاولة كذلك في الجرائم المتعدية في القصد لأن النتيجة التي حدثت تعدت قصد الجاني.

إلا أنه بالنسبة للجرائم العمدية، فإنه ينبغي التمييز بين الجرائم البسيطة وجرائم الاعتياد ثم جرائم النتيجة والجرائم الشكلية.

فإذا كانت المحاولة ممكنة التصور في الجرائم البسيطة فإن ذلك يتعذر بالنسبة لجرائم الاعتياد، لأن النشاط الذي يحقق ركن العادة إما أن يرتكب فتقوم الجريمة وإما ألا يرتكب وبالتالي تتخلف الجريمة أصلا.

    إذا كان تصور المحاولة قائم بالنسبة لجرائم النتيجة فإنه بالنسبة للجرائم الشكلية لا تصور للمحاولة فيها.

ثالثا : صور المحاولة :
للمحاولة ثلاث صور هي: الجريمة الموقوفة, الجريمة الخائبة, الجريمة المستحيلة.

* الجريمة الموقوفة :

الجريمة الموقوفة هي التي تقف فيها أعمال التنفيذ لأسباب خارجية عن إرادة الجاني قبل أن يستغل ما أعده من الوسائل لاقتراف الجريمة، كالحالة التي يريد فيها شخص قتل خصمه فيصوب بندقيته نحو صدره وهي محشوة بالرصاص وعندما يهم بإطلاق النار يدركه شخص ثالث ويمسك بيده أو ينتزع منه السلاح أو يهدده بسلاحه إن هو نفذ جريمته أو يقذفه بأي شيء يؤدي إلى سقوط السلاح من يده... إلى غير ذلك، في كل هذه الأحوال لم يتم نشاطه ولم يستطع إطلاق النار وتعتبر جريمته موقوفة.

* الجريمة الخائبة :

الجريمة الخائبة هي التي لا تتحقق نتيجتها الإجرامية دون عدول من الجاني أو تدخل لأي عامل أجنبي رغم أن الفاعل استنفذ كل الأنشطة الإجرامية التي اعتقد أنها ستوصله إلى النتيجة التي استهدفها بنشاطه، لذلك يوصف مشروعه الإجرامي بأنه تام ومن ذلك  أن يريد الجاني سرقة مال شخص آخر فيضع يده في جيب هذا الشخص إلا أنه يجده فارغا.

وتبدو أهمية التمييز بين الجريمة الموقوفة والجريمة الخائبة في إمكان قيام حالة العدول الاختياري من عدمه. ففي الأولى لم يستنفد الجاني كل ما يلزم لبلوغ النتيجة حيث يكون بإمكانه أن يعدل عن إتمام ما تبقى منها، لا يتوفر ذلك في حالة الجريمة الخائبة.

* الجريمة المستحيلة : 

الجريمة المستحيلة هي الجريمة التي لا يمكن أن تتحقق فيها النتيجة الإجرامية وهي بذلك شبيهة بالجريمة الخائبة من حيث أن الجاني استنفذ كل نشاطه الجرمي ومع ذلك تعذر عليه تحقيق النتيجة لظروف خارجية يجهلها، مع فارق جوهري بين الجريمتين وهو أن تحقق النتيجة الإجرامية كان ممكنا بالنسبة للجريمة الخائبة بينما ذلك مستحيل وغير ممكن بالنسبة للجريمة المستحيلة.


ويميز الفقه عادة بين نوعين من الاستحالة : فهناك الاستحالة القانونية، والاستحالة المادية، فالأولى تجعل الجريمة غير ممكنة التحقق قانونا لانتفاء أحد العناصر القانونية اللازمة لقيام الجريمة، وبالتالي فلا عقاب عليها (سرقة شخص لماله). والحقيقة أن سبب عدم قيام الجريمة هنا يرجع إلى انعدام الركن القانوني، لا إلى استحالة تحقق النتيجة من الناحية القانونية.

أما الاستحالة المادية والتي تخضع للعقاب الجاني، فهي التي تتخلف فيها النتيجة لوجود عائق مادي دون تحققها، وترجع هذه الاستحالة إما إلى الوسيلة المستعملة في الجريمة، ومثال ذلك: استحالة تنفيذ جريمة قتل عن طريق بندقية غير صالحة لإطلاق المقذوف أو غير محشوة بالرصاص. كما قد ترجع الاستحالة إلى انعدام موضوع الجريمة أصلا إذ يستحيل تنفيذ جريمة قتل فيمن فارق الحياة أو إجهاض امرأة غير حامل.

وقد حسم المشرع المغربي الأمر بالنسبة للجريمة المستحيلة حيث نص في الفصل 117 من ق ج : " يعاقب على المحاولة حتى في الأحوال التي يكون فيها الغرض من الجريمة غير ممكن بسبب ظروف واقعية يجهلها الفاعل".

وبذلك يكون المشرع المغربي قد عاقب على الاستحالة المادية دون القانونية، وموقف المشرع المغربي هذا موقف منطقي وتأكيدي لمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات.

رابعا : العقاب على المحاولة
اختلفت التشريعات في العقاب على المحاولة بين اتجاهين اثنين: الأول موضوعي، ويميل إلى التخفيف من العقوبة على المحاولة، فما دامت النتيجة الإجرامية لم تتحقق فيكون من العدل أن تخفف عقوبتها عن عقوبة الجريمة التامة، والثاني شخصي إذ ساوى في العقاب بين الجريمة التامة والجريمة الناقصة، لأن تخلف النتيجة لا يرجع لإرادة الجاني وإنما إلى ظروف خارجة عن إرادته، لذلك فاستحقاقه العقاب لا يقل عن استحقاق مرتكب الجريمة التامة، وإلى هذا الاتجاه مال المشرع المغربي وإن ميز بين الجنايات والجنح والمخالفات وجعل :

•    المحاولة في الجناية دائمة جناية ويعاقب عليها بعقوبة الجناية التامة(الفصل114ق ج).
•    لا عقاب على المحاولة في الجنحة إلا إذا وجد نص خاص (الفصل 115 من ق.ج).
•    لا عقاب على المحاولة في المخالفات مطلقا (الفصل 116 من ق.ج)

هذا وإن المساواة في العقاب على المحاولة والجريمة التامة لا يمنع القاضي من تقدير العقوبة الملائمة بين حديها الأدنى والأقصى، وله أن ينزل عن حدها الأدنى إن وجد من الظروف القضائية المخففة ما يبرر ذلك.


المطلب الرابع:  المساهمة والمشاركة.
قد ينفرد شخص واحد بتصميم وتنفيذ الجريمة، أو يتم تنفيذها من أكثر من فاعل واحد، ويأخذ تعدد الجناة في الجريمة إحدى صورتين :

    الأولى، ويقوم فيها كل من الجناة بتنفيذ بعض الوقائع المكونة للجريمة، إما بتقسيم الأدوار، بناء على خطة متفق عليها قبليا، وإما بتضافر جهودهم معا لإتمام عناصر معينة للجريمة كلها أو بعضها، ومثال ذلك في جناية إضرام النار عمدا، أن يقوم أحد الجناة بإهراق البنزين في المحل ومبادرة شخص آخر بإلقاء مادة مشتعلة عليه، أو يعمد شخصان إلى طعن آخر دفعة واحدة بمدية أو سكين. وتعرف هذه الصورة بالمساهمة.
   
 والمراد بالمساهمة، في مفهومها القانوني، هو مساعدة الجناة بعضهم لبعض في التنفيذ المادي لوقائع الجريمة، ويعتبر كل واحد منهم فاعلا أصليا.
   
 والصورة الثانية لتعدد الجناة، تتم بتنفيذ العناصر والوقائع المادية للجريمة من قبل شخص أو أكثر وتقتصر مساعدة الآخرين له على القيام بأعمال (ثانوية) غير داخلة في عناصر الجريمة كما حددها القانون مثل أن يقدم عمرو سلاحا لخالد يستعمله في قتل الضحية، فهذه الحالة تدخل ضمن (المشاركة)، فخالد في المثال السابق يسمى (فاعلا أصليا) وعمرو (شريكا).

أولا : المساهمة:
أ‌-    في التعريف بالمساهمة وأساسها القانوني :
لم يعرض المشرع المغربي للمساهمة وإنما للمساهم وذلك في الفصل 128 من القانون الجنائي الذي اعتبر بأنه : "يعتبر مساهما في الجريمة كل من ارتكب شخصيا عملا من أعمال التنفيذ المادي للجريمة".
 
وهكذا فإن المساهمة تتحقق بارتكاب العناصر أو الوقائع المكونة للجريمة، كما هي ناتجة عن النص القانوني المنظم لها، من قبل شخصين أو أكثر. ويستوي بعد ذلك أن تكون الجريمة تامة أو مجرد محاولة، أو أن يتعلق الأمر بجناية أو جنحة أو مخالفة.

 ويعتبر الشخص مساهما كيفما كان الفعل الذي قام به شريطة أن يكون داخلا في الركن المادي للجريمة، لأن التجريم في المساهمة ينصب على التعدد ويعتبر كل واحد من الجناة وكأنه قد ارتكب الجريمة بمفرده، حيث تطبق عليه العقوبة المقررة للجريمة نفسها، ما لم يكن التعدد ظرفا مشددا لها، وذلك لما يوفره التعدد عادة من تسجيل ارتكاب الجريمة، بما يشيعه من الجرأة في نفس كل من الفاعلين المتضامنين (أنظر الفصول 327/5، التسول) (الفصل 594: النهب والتخريب)، (الفصل 302: العصيان)، (الفصل 487: الاغتصاب)،(الفصل 510: السرقة).
 
فيكفي لاعتبار الجاني فاعلا مساهما في الجريمة أن يتدخل في ارتكابها إذا كانت تتكون من جملة أفعال، فيأتي عمدا عملا من الأعمال المكونة لها، أي القيام بدور مباشر فيها، ولكن ليس شرطا، كما قد يبدو ذلك من ظاهر نص الفصل 128 المشار إليه سابقا، أن يكون العمل الذي أتاه مستقلا عن أعمال بقية الفاعلين أو يشكل معه سلسلة متصلة، بحيث يكمل ما أتاه بقية الفاعلين لاكتمال عناصر الجريمة، وإنما يكفي القيام بفعل مادي شريطة وجود رابطة تضامنية بينه وبين بقية الفاعلين تتمثل في اتجاه إرادتهم كلهم نحو تحقيق الجريمة.

 فكل من قام بعمل من أعمال تنفيذ الجريمة يعتبر مساهما، أي فاعلا أصليا سواء كان تعاونه مع المجرم أو المجرمين الآخرين عن طريق الاتفاق أو جمعتهم الصدفة فقط دون اتفاق سابق ولكن حصل بينهم اتفاق ضمني أو معنوي لاتحاد قصدهم نحو هدف واحد، كما إذا حضر شخصان صدفة إلى منزل بقصد سرقته وبمجرد معرفة كل واحد منهما قصد الآخر تنشأ بينهما رابطة معنوية تتجسد في اتجاه إرادتهما إلى هدف واحد هو الاستيلاء على المسروق.

ب- الحالات الخاصة للمساهمة:
غير أن المشرع الجنائي المغربي خالف المبادئ والشروط المسطرة أعلاه، واعتبر الشخص مساهما في الجريمة في حالات كثيرة لا يكون فيها مرتكبا لأي عنصر من العناصر الداخلة في الركن المادي لها، ومن ذلك المادة 304 التي تقول :"يعتبر مرتكبا للعصيان من حرض عليه سواء بخطب ألقيت في أمكنة أو اجتماعات عامة أو بواسطة ملصقات أو إعلانات أو منشورات أو كتابات".

والمادتين 405 و406 اللتين جاء في فقرتيهما الأخيرتين : "أما الرؤساء والمنظمون والمدبرون والمحرضون على المشاجرة أو العصيان أو التجمع الثوري فيعاقبون كما لو كانوا هم الذين ارتكبوا أفعال العنف المشار إليها".

  وجاء في المادة 10 من ظهير 28 أبريل 1961 بشأن المحافظة على السكك الحديدية وأمنها ومراقبتها : "وإذا ما ارتكبت الجناية المنصوص عليها في الفصل التاسع حالة اجتماع ثوري مع تمرد ونهب فتعزى هذه الجناية لرؤساء هذه الاجتماعات ومقيميها والمعوزين بها والمحرضين عليها الذين يعاقبون معاقبة مرتكبي الجريمة ويحكم عليهم بنفس العقوبات التي تصدر في حق مرتكبي تلك الجناية شخصيا ولو لم يكن الاجتماع الثوري يهدف مباشرة وبصفة رئيسية إلى تدمير السكك الحديدية.

  غير أنه إذا كانت عقوبة الإعدام في الحالتين الأخيرتين تطبق على مرتكبي الجناية فإنها تعوض بعقوبة السجن المؤبد مع الأشغال الشاقة في حق رؤساء تلك الاجتماعات وأصحابها والمعوزين بها والمحرضين عليها".

  وإذا ثبت وجود الاتفاق والتصميم بين الفاعلين على تنفيذ الجريمة، فتتحقق المساهمة في هذه الحالة ولو كان العمل الذي قام به بعض المساهمين في الاتفاق لا يدخل في الأعمال التنفيذية للجريمة مثل : اتفاق شخصين على سرقة محل، فيقوم أحدهما بالتنفيذ والآخر بحراسة الطريق أو إلهاء صاحب المحل أو الحارس، بل نرى أن يعتبر مساهمين الشخصان اللذان اتفقا على السرقة على أن يقوم أحدهما بالاستيلاء على المسروق والآخر بتصريفه، فبالرغم من أن عمل هذا الأخير كان بعد تنفيذ الجريمة، إلا أنه يعتبر مساهما فيها لوجود الاتفاق والتصميم على التنفيذ منهما معا، واقتصاره على تصريف المسروق كان دوره من توزيع العمل وقيام كل من المساهمين بدور للحصول على غنيمة الجريمة المتفق عليها.

  كما تتحقق المساهمة في حالة ثبوت الاتفاق والتصميم ولو لم يعرف من قام بالفعل المادي من المساهمين، مثل اتفاق شخصين على الاعتداء على الضحية أو قتله، وعندما يهاجمانه يصاب بجروح، أو بضربة واحدة قاتلة دون أن يعرف من المهاجمين أصابه بتلك الجروح أو الضربة، فيعتبر المهاجمان معا مساهمين.

  والذي نستخلصه من كل ما سبق أن التعريف الوارد في المادة 128 من ق.ج للمساهمة، مجرد مبدأ عام لا يطبق دائما بل ينبغي الرجوع في كثير من الأحيان إلى النصوص التشريعية الخاصة بكل جريمة لتحديد مفهوم المساهمة في كل واحدة منها وليس هذا بالنسبة لتعريف المساهمة فقط ولكنه ينطبق أيضا حتى على تحديد العقوبة.

  فإذا كان المبدأ أن المساهم يعتبر فاعلا أصليا تطبق عليه نفس العقوبة الخاصة بالجريمة التي ساهم فيها، فإن بعض النصوص تنوع العقوبات في الجريمة الواحدة اعتبارا للدور الذي قام به كل مساهم في التنفيذ (أنظر مثلا : المادة 205 و294 و305 من ق.ج).

ثانيا : المشاركة في الجريمة:
  إن المشارك، وخلافا للمساهم، لا يرتكب أي عمل من أعمال التنفيذ المادي للجريمة، غير أن عمله مع ذلك يبقى ذا صلة وثيقة بالجريمة المرتكبة حيث أن الشريك يهدف بعمله تحقيق الجريمة وارتكاب الفاعل الأصلي لها سواء كان ذلك بإيعاز أو مساعدة منه.


   وهكذا ينص الفصل 129 من القانون الجنائي على أنه : "يعتبر مشاركا في الجناية أو الجنحة من لم يساهم مباشرة في تنفيذها، ولكنه أتى أحد الأفعال الآتية :
1)    أمر بارتكاب الفعل أو حرض على ارتكابه، وذلك بهبة أو وعد أو تهديد أو إساءة استغلال سلطة أو ولاية أو تحايل أو تدليس إجرامي.

2)    قدم أسلحة أو أدوات أو أية وسيلة أخرى استعملت في ارتكاب الفعل مع علمه بأنها ستستعمل لذلك.

3)    ساعد أو أعان الفاعل أو الفاعلين للجريمة في الأعمال التحضيرية أو الأعمال المسهلة لارتكابها مع علمه بذلك.


4)    تعود على تقديم مسكن أو ملجأ أو مكان للاجتماع لواحد أو أكثر من الأشرار الذين يمارسون اللصوصية   أو العنف ضد أمن الدولة أو الأمن العام أو ضد الأشخاص أو الأموال مع علمه بسلوكهم الإجرامي.
  
 ويقتضي منا معالجة موضوع المشاركة في الجريمة، بحث أساسها القانوني (أ) ثم صور المشاركة (ب) وشروطها (ج) لنخلص إلى بحث أهمية التمييز بين المساهمة والمشاركة(د).

أ- شروط قيام المشاركة، وهي :
1)    تحقق إحدى الحالات المنصوص عليها في الفصل 129 من : تحريض أو أمر بارتكاب الفعل إما بهبة أو هدية أو تهديد أو إساءة استغلال سلطة أو ولاية أو تحايل أو تدليس إجرامي.
-    المساعدة في الأعمال التحضيرية أو المسهلة لارتكاب الجريمة.
-    تقديم سلاح أو أداة.
-    التعود على تقديم مأوى أو ملجأ أو مقر اجتماع لأشخاص يتعاطون اللصوصية أو يرتكبون أعمالا ضد النظام العام أو أمن الدولة.

2)    علم المشارك بما يعتزم فعله الجاني الأصلي، فيقدم له الأداة أو المساعدة أو المسكن، وهذا أمر ضروري ليتوافر لديه القصد الجنائي الذي تقوم عليه المسؤولية الجنائية.
    ولا يشترط أن يكون المشارك على علم بالظروف العينية المشددة للجريمة لكي تسري عليه، بل يكفي أن يكون على علم بنوع الجريمة التي شارك فيها لكي يؤاخذ بالمشاركة فيها وبظروفها العينية المشددة.
3)    وجود فعل أصلي منصوص على تجريمه في القانون، وهذا الشرط نتيجة لنظرية استعارة التجريم التي أخذ بها القانون المغربي وكذا ضرورة الارتباط بين فعل المشارك والجريمة الأصلية. وينتج عن هذا الشرط عدة نتائج منها :

-    أن الفاعل الأصلي إذا لم يرتكب الجريمة نهائيا أو تراجع باختياره عن ارتكابها بعد البدء في التنفيذ، فإن من أمره أو حرضه أو قدم له أداة أو مساعدة من أجل التنفيذ لا يعاقب.
-    إذا سقطت الجريمة التي ارتكبها الفاعل الأصلي بالتقادم أو العفو الشامل أو بإلغاء القانون مثلا فإن المشارك ينجو من العقاب.

4)    ارتباط فعل الشريك بتنفيذ الجريمة، بأن يكون لأمره أو تحريضه أو مساعدته تأثير واضح على توجيه الفاعل الأصلي إلى ارتكاب الجريمة أو تستعمل الأداة التي قدمها له في ارتكاب الجريمة فعلا.

5)    أن يكون الفعل الرئيسي المعاقب عليه جناية أو جنحة، فقد نصت المادة 130 من ق.ج على أن : "المشارك في جناية أو جنحة يعاقب بالعقوبة المقررة لهذه الجناية أو الجنحة"، وجاء في الفقرة الأخيرة من الفصل 129 من ق.ج بأن المشاركة في المخالفات لا عقاب عليها مطلقا.
  
 على أنه يعاقب استثناء، على المشاركة في فعل لا يعد جريمة في نظر القانون، المساعدة أو الإعانة على الانتحار، فالانتحار لا يشكل جريمة ومع ذلك فإن من أعانه على ذلك يعتبر مشاركا (الفصل 401).

ب‌-    صور المشاركة في الجريمة :
تعرضت لصور المشاركة في الجريمة المادة 129 من القانون الجنائي التي أوردنا نصها سابقا وحددتها في أربعة، وهي :

1)    التحريض أو الأمر :

تتحقق المشاركة بإيعاز من شخص لآخر بارتكابها ماديا، ويسمى الأول مشاركا والثاني فاعلا أصليا، وذلك بإصدار أوامر أو تعليمات أو بالتحريض على ارتكابها، وذلك إما بهبة أو وعد أو تهديد، كما قد تتحقق بإساءة استغلال سلطة أو ولاية أو تحايل أو تدليس إجرامي.
  ولكي تتحقق المشاركة بالتحريض يتعين أن يكون بشكل مباشر وواضح بمعنى أن يشجع الفاعل الأصلي على ارتكاب جريمة معينة بعبارات تتضمن فعلا الدعوة إلى التنفيذ والرغبة الملحة في إنجاز الفعل، فلا يعتبر تحريضا الكلام العابر تحبيذ الجريمة أو التحدث عن مزاياها وغنائها ما دام لا يتضمن ذلك دعوة فعلية إلى التنفيذ.

2)     تقديم وسيلة أو سلاح لاستعمالهما في ارتكاب الجريمة :

في هذه الحالة يكفي لقيام المشاركة أن تقدم للفاعل من قبل شخص أداة أو سلاح أو أية وسيلة أخرى لاستعمالها في ارتكاب الجريمة، شريطة أن تكون هذه الأشياء قد قدمت من طرفه، مع علمه قبليا أنه سوف يستعملها لارتكاب الجريمة، والشرط الجوهري في هذه الحالة هو قيام نوع من التضامن أو الاتفاق ولو ضمنيا، على ارتكاب الجريمة بواسطة هذه الأدوات أو الأسلحة المسلمة. ولا محل للمشاركة إذا لم تستعمل هذه الأدوات في ارتكاب الجريمة، حتى ولو توافر القصد الجنائي لدى مقدمها وارتكبت الجريمة بالفعل ولكن باستعمال سلاح أو أداة أخرى.

3)    الإعانة أو المساعدة في الأعمال التحضيرية أو تسهيل ارتكابها :

  وتتحقق هذه الحالة بجميع الأعمال -التي وإن كانت لا تدخل في العناصر المادية للجريمة- إلا أنها تهدف إلى ارتكابها، ويدخل في هذا الإطار إعطاء رأي أو نصيحة أو معلومات في وضع تصميم للجريمة، أو أرشدهم إلى طريقة معينة أثناء التحضير لارتكاب الجريمة. وتتحقق المشاركة في هذه الحالة بمجرد عمل من أعمال المساعدة مادام قد أفاد الفاعل أو الفاعلين في ارتكاب فعلتهم حتى ولو اكتفى باتخاذ موقف سلبي محض يتمثل في الامتناع، ومثال ذلك: الحارس الذي يشاهد شخصا يستولي على موجودات المحل المكلف بحراسته، ومع ذلك لا يتدخل للحيلولة دون استلائهم على المسروق، وكذلك الحالة التي يصدر فيها من الشخص زفير أو صوت أو أية إشارة إنذار تعلن قدوم صاحب المحل لتمكين الفاعلين من الفرار.

4)    التعود على تقديم مسكن أو ملجأ للأشخاص يتعاطون اللصوصية :
   يعتبر مشاركا أيضا كل من تعود على تقديم مسكن أو ملجأ أو مكان للاجتماع لواحد أو أكثر من الأشرار الذين يمارسون اللصوصية أو العنف ضد أمن الدولة أو الأمن العام، أو ضد الأشخاص أو الأموال مع علمه بسلوكهم الإجرامي.

  والقانون المغربي أدرج هذه الحالة ضمن حالات المشاركة –ولو أن العمل الذي يقوم به الشخص في هذه الحالة هو لاحق لارتكاب الجريمة- اعتبارا لما ينطوي عليه من تسهيل مأمورية الجناة بوضع محل رهن إشارتهم لعقد اجتماعاتهم والتصميم لأعمال إجرامية في المستقبل. ويشترط في هذه الحالة أن يتكرر الفعل لأكثر من مرة لتحقق التعود الذي هو أساس اعتبار الفاعل مشاركا. أما إذا ثبت ارتكاب الأفعال المنصوص عليها في هذه الفقرة مرة واحدة فإن الفعل قد يعتبر جريمة تستر على مجرم.

ثالثا : الفاعل المعنوي:
   قد يعمد شخص، سيئ لنية، إلى استغلال الوضع القانوني لشخص آخر، فيسخره لارتكاب الجريمة، كأن يكون هذا الأخير عديم المسؤولية إما لجنون أو عته أو صغر في السن، فيأمره أو يحرضه شخص آخر على ارتكاب جريمة اعتقادا منه أنه سيكون بدوره بمنأى عن العقوبة والمسؤولية، إلا أن المشرع توقع هذه الحالة وقرر مؤاخذة المحرض من أجل الجريمة المرتكبة، حتى ولو كان الفاعل الأصلي غير مسؤول أو يتمتع بعذر من الأعذار المعفية من العقاب، وذلك تطبيقا للفصل 131 من القانون الجنائي الذي جاء يقضي بأن كل : "من حمل شخصا غير معاقب، بسبب ظروفه أو صفته الشخصية على ارتكاب جريمة، فإنه يعاقب بعقوبة الجريمة التي ارتكبها هذا الشخص". وهذا موقف طبيعي ومنطقي، لأن الفاعل الحقيقي هو المحرض، أما الشخص غير المسؤول، والذي ارتكب الفعل، فإنه يعد مجرد أداة للتنفيذ مسخرة من قبله، ويسمى المحرض في هذه الحالة بالفاعل المعنوي.

المبحث الثالث: الركن المعنوي
لا يكفي من الناحية القانونية إثبات فعل أو امتناع مخالف للقانون الجنائي ومعاقب عليه بمقتضاه، بل لابد من صدوره عن الفاعل، وهو على بينة واختيار من تصرفه، أي أن مجرد نسبة الوقائع ماديا إلى الشخص لا تقوم به الجريمة قانونا (الإسناد المادي)، وإنما لابد من نسبتها إليه معنويا (الإسناد المعنوي).

والركن المعنوي أو الخطأ الجنائي الذي تقوم به الجريمة وتثبت به المسؤولية الجنائية يختلف عن مجرد الخطأ العادي اللازم لقيام المسؤولية المدنية (الفصل 77 وما يليه من قانون الالتزامات والعقود)، اعتبارا لتباين الأسس التي يقوم عليها نظام كل منهما.

وفي دراستنا للركن المعنوي سنضطر لإعطاء تعريف يأخذ بعين الاعتبار مختلف حالات ومظاهر هذا الركن (المطلب الأول)، ثم بعد ذلك سنعرض له في الجرائم العمدية (المطلب الثاني)، وفي الجرائم غير العمدية (المطلب الثالث).

المطلب الأول:  تعريف وأساس الركن المعنوي.
يقصد بالركن المعنوي اتجاه إرادة الفاعل إلى ارتكاب الفعل أو الامتناع، مع علمه بالواقعة المقبل عليها من الناحية المادية والقانونية، كأن يعمد السارق إلى وضع يده على شئ، وهو على بينة بأنه مملوك لشخص آخر، ومع ذلك أراد الاستحواذ عليه وتملكه.
إن اشتراط توافر الركن المعنوي لا يهدف إلى مواجهة الاضطراب الاجتماعي الذي تسببت فيه الجريمة، أو الإضرار بحقوق الأفراد فقط، وإنما يستهدف أيضا معاقبة أو مواجهة الخطورة الإجرامية للفاعل، باعتبارها أكثر خطورة وأشد تأثيرا على النظام العام من مجرد إخلال مادي بحقوق الأفراد والمجتمع، لهذا ربط المشرع بين العقاب على الفعل ونسبته معنويا أو أدبيا إلى مرتكبه. فقد نص الفصل 132 من القانون الجنائي بأن "كل شخص سليم العقل قادر على التمييز يكون مسؤولا شخصيا على الجرائم التي يرتكبها...".

ونجد المشرع في مختلف نصوص القانون الجنائي يعبر عن الركن المعنوي باستعمال عبارات جد مختصرة مثل : "بدون حق" (الفصل 385)، "عمدا" (الفصل 431)، "بقصد" (الفصل 454)، "بعلم" (الفصل 432 و433) "عدم انتباه" (الفصل 607) ق.ج.

وأحيانا نجد النص ساكت بخصوص هذه النقطة، بحيث لايشير إلى الركن المعنوي بعبارة صريحة ولكن يمكن استخلاصه ضمنيا، ومثال ذلك : الفصول (476.469.384) المتعلقة على التوالي بانتحال الصفة أو الوظيفة، عدم التصريح بمولود، وبعدم تقديم شخص لمن له الحق في حضانته. وفي هذه الحالات يرجع للقضاء الجنائي البحث عن الطبيعة العمدية أو غير العمدية لهذه الجرائم، وهو في هذا الإطار –وعملا بمقتضيات مبدأ الشرعية- يتعين عليه تأويل هذه النصوص في المعنى الأكثر فائدة للمتهم (فصل 6).

وتختلف مكونات وعناصر الركن المعنوي بحسب ما إذا كانت الجريمة عمدية أو غير عمدية، كما أن للركن المعنوي في المخالفات وفي بعض الجنح خصائص تنفرد بها تجعل منها استثناء يخرج بها عن المبادئ والقواعد العامة في هذا الخصوص.

المطلب الثاني:  الركن المعنوي في الجرائم العمدية.
لا تتكون الجرائم العمدية إلا بتوافر القصد الجنائي أي النية الإجرامية، والمقصود بها توجيه الإرادة إلى تحقيق الواقعة أو النشاط الإجرامي مع العلم بحقيقة هذه الواقعة من الناحية المادية وبالنص القانوني الذي يعاقب عليها.

أما العلم بالقانون، فإنه نزولا عند الضرورات العملية، يفترض في كل شخص، أنه على علم ومعرفة تامة بالمقتضيات القانونية وبتفسيرها الصحيح إذ لا يعذر أحد بجهله للقانون (الفصل 2 من ق.ج).  

وأما العلم بالواقع، فإنه يجب أن يتحقق فعلا لقيام الركن المعنوي للجريمة، أي ارتكاب الوقائع المكونة لعناصر الجريمة كما هي منصوص عليها، مع وعيه وعلمه بطبيعتها ماديا، كالعلم بملكية المنقول في السرقة لشخص من الغير من قبل السارق، ومع ذلك يستولي عليه أو يختلسه (الفصل 505)، وكتوجيه فوهة سلاح ناري ومشحون برصاصة وصالح للاستعمال وتصويبه في اتجاه شخص آخر والضغط على الزناد بقصد إخراج الرصاصة من الخزنة وإصابة شخص آخر بها (فصل 392 ق.ج)، وعلى العكس إذا كان يعتقد أن المسدس غير مشحون، أو غير صالح للاستعمال وضغط على الزناد بقصد إرهاب أو تخويف شخص آخر، ولكن رصاصة طائشة خرجت منه وأصابت شخصا آخر، فإنه لا يكون مسؤولا عن القتل العمد وإنما على مجرد القتل الخطأ.
والقصد الجنائي الذي يشترط القانون توافره لتكوين الجريمة العمدية ليس واحدا، فقد يشترط القصد العام في بعض الجرائم، غير أن أخرى تتطلب توافر القصد الخاص.

أولا : القصد العام:
ويراد بالخطأ العمدي، اللازم لتحقق المسؤولية الجنائية في الجرائم العمدية، اتجاه الإرادة نحو إتيان فعل أو امتناع مخالف للقانون الجنائي مع علم مرتكبه بحقيقة ما هو مقدم عليه من الناحية القانونية والمادية. لهذا يبدو القصد الجنائي كنوع من العلاقة بين الشخص من حيث حالته الذهنية والعقلية وبين النموذج الإجرامي كما يحدده القانون. وهذا هو مضمون فكرة القصد أو العمد.
        
  والقصد كما هو مشار إليه آنفا يقوم على علم مزدوج بالقانون من ناحية، وبالواقع من ناحية ثانية، كما يستلزم توافر الإرادة الجنائية لدى الفاعل.

أ‌-    العلـــم :
    العلم بالقانون :
        والمقصود به إتيان فعل أو امتناع ومرتكبه على بينة من أنه يقوم بنشاط يمنعه القانون. وهذا يستلزم مبدئيا إلمام الفاعل بالنص القانوني الذي يجرمه وبتأويله الصحيح.
       غير أن هذا العلم (العلم بالقانون) لا أهمية له من الناحية العملية في ظل القانون المغربي، وفي جل التشريعات الحديثة. فمن المبادئ المقررة في هذا الصدد أنه : "لا أحد يعذر بجهله القانون الجنائي" فحماية للمصلحة العامة، وحفاظا على الأمن والنظام الذي قد يتأذى من السماح لعتاة المجرمين ولذوي النوايا السيئة من ارتكاب مختلف أصناف اللصوصية والإرهاب والاحتلال ضدا على كل القيم والمصالح الخاصة والعامة، وعند تقديمهم للمحاكمة يتذرعون بجهلهم بالطبيعة الإجرامية لأفعالهم للإفلات من العقاب.
       وللتلطيف من هذه القاعدة العامة، فإن القانون الدستوري يقرر إصدار القوانين (الفصل 86 من دستور 1992)، كما أن نشرها في الجريدة الرسمية للمملكة يتيح ولو نظريا فرصة الإطلاع عليها للجميع.
    العلم بالواقع :
       خلافا للعلم بالقانون والذي يبقى مجرد شرط صوري لتوافر القصد الجنائي، فإن العلم بالواقع هو ذو أهمية عملية لاشك فيها، ويراد به العلم بالواقع أو العناصر المادية للجريمة، كما هي ناتجة عن النص القانوني الذي يجرمها، وذلك بصرف النظر عن موقف القانون أو حكمه بشأنها.
       ففي جنحة السرقة مثلا، يتعين أن يكون السارق عن وعي بأن المال الذي يضع عليه يده ليس مملوكا له وإنما للغير وأنه يستولي عليه بغير رضا مالكه (ف 505 من ق.ج).
ب‌-    الإرادة الجنائية :
       إذا كان عنصر العلم أساسيا في توافر القصد الذي تقوم به الجرائم العمدية، إلا أن هذا العنصر وحده لا معنى له إذا لم يقترن بالإرادة الجنائية أي بالعزم الأكيد لإتيان فعل أو امتناع عن بينة واختيار. ففي السرقة يعمد الشخص إلى الاستحواذ على مال منقول مملوك للغير، رغم علمه بأن ملكيته تعود إلى غيره وأنه لا يجوز له نزعها منه بغير رضاه. وفي خيانة الأمانة، يعرف الشخص أنه مجرد وديع لمنقولات أو مبالغ مالية، ومع ذلك يمتنع عن إعادة تسليمها أو ردها إلى المودع.
       والإرادة الجنائية أو القصد الجنائي بوجه عام، وإن كان -كما أشرنا إلى ذلك سابقا- مسألة نفسية، إلا أنها تتجسد ويتم استخلاصها من خلال ظروف وملابسات الجرائم، وكذا البواعث الدافعة لارتكابها، والوسائل المستعملة وغيرها من العناصر السابقة، المعاصرة واللاحقة للجريمة.

ثانيا : القصد الخاص:
       في بعض الجرائم لا يكفي مجرد توافر القصد العام، بل لابد علاوة على ذلك من توافر نوع آخر من القصد، هو ما يسمى بالقصد الخاص الخصوصي، وهو نية محددة يستلزمها القانون لقيام الجريمة مثل (نية التملك) في السرقة، (نية الإضرار بمصالح الغير) في النصب والاحتيال، وكذا (إلحاق الضرر الاجتماعي) في القذف، و (إزهاق روح الغير) في القتل العمد.
       وفي حالة تخلف هذا النوع المحدد من القصد، فإن الفاعل لا يعاقب من أجل الجريمة الخاصة التي يشترط القانون لارتكابها توافر القصد الخاص وإن كان من الممكن وقوع الفعل تحت طائلة جريمة أخرى، ففي القتل، إذا تخلف لدى الفاعل نية إزهاق الروح، فإنه لا يمكن مؤاخذته بالقتل العمد (الفصل 393) وإنما بالقتل الخطأ فقط (فصل 432 ق ج) إذا ثبت في حقه خطأ جنائي غير عمدي، أما إذا كانت لديه نية ضرب أو جرح ولكن الشخص الذي استهدفته لفظ أنفاسه، فيمكن متابعته من أجل الضرب أو الجرح العمدي المفضي إلى الموت دون نية إحداثه (الفصل 403 ق ج).

ثالثا : القصد اليقيني والاحتمالي :
       إذا كان القصد الجنائي الخاص يتحقق عادة بمجرد ما يثبت اتجاه إرادة الشخص للحصول على النتائج الضارة التي تجاوزت حدود هذا الاحتمال.
وللإجابة على هذا السؤال لابد من التمييز بين القصد اليقيني والقصد الاحتمالي :

•    القصد اليقيني :
        يعتبر القصد يقينا عندما تكون النتائج الضارة المترتبة عن الفعل متوقعة مسبقا عند ارتكابه الفعل، مع كون الفاعل يقصد حصولها بذاتها ومريدا لها، كما في إزهاق روح شخص من قبل آخر تعمد أو قصد فعلا إحداث هذه النتيجة، عن طريق استعمال أداة قاتلة كالمسدس الذي صوبه في اتجاه أحد المقاتل (الرأس – البطن – الصدر).

•    القصد الاحتمالي :
       ويكون عندما تكون النتائج المترتبة عن الفعل احتمالية فقط عند ارتكاب الفعل، أي أن حدوثها بالذات لم يكن مقصودا بشكل يقيني، ولكن حصولها لم يكن في جميع الأحوال مستبعدا، فالشخص الذي يقوم بأعمال الضرب أو الجرح ضد الغير بصورة متعمدة، مستعملا عصا أو قضيبا حديديا يهوي به على الضحية بشكل عشوائي يمكنه أن يتوقع مجموعة من النتائج تترتب عن فعله، كإصابة الشخص برضوض، جروح، كسر، عجز عن العمل، كما يمكنها أن تتسبب في موت الشخص، أو إصابته بعاهة مستديمة أو فقد عضو أو بتره أو الحرمان من منفعته.
     
         فالقانون الجنائي المغربي يأخذ بهذا الرأي ويعاقب الشخص حتى على قصده الاحتمالي، فالشخص بمجرد ما يثبت أنه مدرك لفعله، يجب أن يتحمل نتائجه، فإذا كان على علم بأن فعله أو امتناعه من شأنه أن يتسبب في حدوث نتائج ضارة للغير أو بالمجتمع، حتى ولو لم تكن محددة أثناء ارتكابه، ومع ذلك قرر ارتكاب هذا الفعل أو لم يتدخل للقيام بما يلزم للحيلولة دون وقوعها، يكون قد أراد وقصد حصولها.
        غير أن المشرع المغربي، ومراعاة لضرورة التناسب بين خطورة المجرم وقساوة العقوبة، فقد خفف العقوبة (أنظر الجرائم المنصوص عليها في الفصول 403.400.267 من ق.ج).

رابعا : القصد التبعي أو فوق إرادي أو المتعدي :
     
          من الجائز أن يترتب عن الجريمة نتائج أخطر مما كان من الممكن أن يتوقعها الفاعل في الظروف العادية وقت إتيانه الفعل أو الامتناع. والمثال التقليدي على ذلك : حالة الشخص الذي يقوم بضرب أو جرح أو ممارسة العنف ضد امرأة حبلى، وهو على جهل بكونها حامل، ويتسبب في إجهاضها. هنا حصلت نتيجة ضارة بصورة تبعية وغير مقصودة، ولكن ناتجة عن أعمال متعمدة ومقصودة. ففي هذه الحالة يقال بأن النية بالنسبة لهذه الأضرار الأخيرة فوق إرادية، أي تجاوزت الحدود الممكن توقعها.
   

    ووجود العلاقة السببية بين الفعل وهذه النتيجة، وحدها لا يكفي لربط هذه النتيجة غير المقصودة بالفعل الذي كان مصدرا لها من الناحية القانونية، وذلك لسبب بسيط هو انتقاء الركن المعنوي، وعليه فإن الشخص في المثال السابق لا يمكن متابعته بموجب الفصل 449 من القانون الجنائي المتعلق بالإجهاض، وإنما على أساس الفصل 400 من نفس القانون والمتعلق بالضرب أو الجرح أو العنف العمدي (راجع ف400 و449).


المطلب الثالث: الركن المعنوي في الجرائم غير العمدية :
        إذا كان الأصل في المسؤولية الجنائية ألا تقوم إلا بتوافر القصد الجنائي، فإن الضرورات العملية تفرض على المشرع التدخل، حماية للمصلحة العامة، لتجريم بعض الأفعال المرتكبة عن غير قصد، أي نتيجة إهمال أو رعونة أو عدم تبصر أو عدم مراعاة النظم والقوانين.
      
         وهكذا، فإن المسؤولية الجنائية، في ظل القانون الجنائي المغربي، تثور بسبب جرائم "الإهمال" وتسمى أيضا جرائم "عدم الانتباه" أو "غير إرادية" أو غير العمدية".
   
          فقد نص الفصل 133 من القانون الجنائي على أن : "... الجنح التي ترتكب خطأ يعاقب عليها بصفة استثنائية في الحالات الخاصة التي ينص عليها القانون...".
   
          وللإحاطة أكثر بالخطأ الجنائي في الجرائم غير العمدية بوجه عام، لابد من تحليل الخطأ في جرائم الخطأ أو الإهمال وفي الجرائم المسماة بالجرائم "المادية" (وهي غير جرائم النتيجة) للوقوف على طبيعة الركن المعنوي فيها.


أولا : الركن المعنوي في جرائم الخطأ:
          تتشكل جرائم الإهمال في مجملها وفقا لما جاء في الفصل 133 من القانون الجنائي المشار إليه أعلاه من الجنح، ونادرا ما ترقى إلى مستوى الجناية (أنظر الفصل 192/ف2 من القانون الجنائي). فما هو أساس هذا الخطأ، وكيف يمكن تحديده في غير الحالات المنصوص عليها في القانون؟
       
          في هذا النوع من الجرائم غير العمدية يتحدث الكثيرون عن صور للخطأ الجنائي، استنادا إلى منطوق الفصول 432 و433 من القانون الجنائي والمتعلقة على التوالي بجريمتي القتل الخطأ والجرح الخطأ.
       
         فقد نص الفصل 432 على أن : "من ارتكب بعدم تبصره أو عدم احتياطه أو عدم انتباهه أو إهماله أو عدم مراعاته النظم أو القوانين قتلا غير عمدي أو تسبب فيه عن غير قصد يعاقب بالحبس من ثلاثة أشهر إلى خمس سنوات ، وغرامة من 250 إلى 1000 درهم"، كما ينص الفصل 433 على أن : "من تسبب بعدم تبصره أو عدم احتياطه أو عدم انتباهه أو إهماله أو عدم مراعاته النظم أو القوانين في جرح غير عمدي أو إصابة أو مرض نتج عنها عجز عن الأشغال الشخصية تزيد مدته على ستة أيام، يعاقب بالحبس من شهر واحد إلى سنتين، وغرامة من مائة وعشرين إلى خمسمائة درهم، أو بإحدى هاتين العقوبتين فقط".
          ومن خلال نص الفصلين السابقين يتبين أن صور الخطأ هي كما يلي :
•    عدم التبصر :
          هذا النوع من الخطأ يصدر عادة عن أناس متخصصين في عملهم كالحلاق، الطبيب، المهندس...، فهؤلاء لا يجوز لهم بحكم اختصاصهم أن يجهلوا القواعد الفنية المتعلقة بمهنهم، والواقع أنه لا يمكن لأي شخص أن يتخذ من عدم تبصره ذريعة للتخلص من المسؤولية إذ يجب على كل واحد أن يعرف إمكانياته وطاقته، فلا يعرض صحة أو حياة مواطنه للخطر، ومن أمثلة ذلك : الصياد الذي يجرح صيادا آخر خطأ.
•    عدم الاحتياط :
          مرتكبه يتصف بالطيش وقلة احترازه لعواقب الأمور، ويمكن القول أن الفاعل هنا يدرك خطورة التصرف الذي يقوم به، ومع ذلك فهو لا يحتاج للنتائج، مثال : السائق الذي يسير بسرعة فائقة فيجرح أحد المارة.
•    عدم الانتباه :
          هو نوع من النسيان أو التقصير في اتخاذ الحيطة اللازمة التي يقتضيها التبصر.
-    سائق القطار الذي يخرق الضوء الأحمر فيسبب في حادثة.
•    الإهمال :
          هو عدم القيام بأعمال كان الواجب يقضي القيام بها : أي أن الفاعل كان في موقف سلبي، ومن أمثلة ذلك :
-    السائق الذي يترك سيارته دون كبح حصارها.
•    عدم مراعاة النظم والقوانين :
          النظم والقوانين هي كل النصوص القانونية والتنظيمية التي تصدر عن السلطات التشريعية والتنفيذية في إطار اختصاصها، كالقوانين والنظم المتعلقة بتنظيم السير، والأمن والسلامة داخل المعامل والمناجم... فعدم مراعاة هذه النظم والقوانين هو خطأ كاف وحده لتحميل المسؤولية دون البحث عن وجود عدم الاحتياط والإهمال.
-    عدم احترام أولوية اليمين فيؤدي ذلك إلى وقوع حادثة.
   
          ويمكن اعتبار هذه الحالات الواردة في هذين الفصلين بمثابة عناصر توجيهية لتحديد الخطأ الجنائي أكثر منه تعدادا لحالاته على سبيل الحصر. لهذا اتجهت الآراء، فقها وقضاء، إلى الأخذ بالمعيار المسمى ب "معيار الرجل العادي، اليقض، الحريص، المتبصر بشؤونه، والذي يمثل جمهرة الناس وسوادهم، لا بالشديد الحرص، فائق الذكاء، حاضر البديهة في جميع الأحوال، ولا بالخامل فاتر الهمة، فاقد الذكاء، وإنما هو وسط بين هذين النموذجين".
   
          فإذا خرج الشخص في تصرفاته عن سلوك الرجل العادي وتسبب فعله هذا في قتل شخص آخر أو إصابته بجروح أو رضوض، اعتبر مسؤولا عن هذه  الأفعال وفق مقتضيات الفصلين 432 و433. أما إذا التزم في سلوكه الاحتياطات اللازمة وتوفرت فيه كل شروط الحرص واليقظة التي كان من شأن "الرجل العادي" الالتزام بها في مثل ظروفه الخارجية أو الداخلية فلا يمكن مساءلته عن هذه الأفعال.

ثانيا : الركن المعنوي في الجرائم المادية :
          لم يشر المشرع المغربي إلى نوع الركن المعنوي في الجرائم المادية، واكتفى في الفصل 133 منه بالقول : "الجنايات ة والجنح لا يعاقب عليها إلا إذا ارتكبت عمدا، إلا أن الجنح التي ترتكب خطأ يعاقب عليها بصفة استثنائية في الحالات الخاصة التي ينص عليها القانون. أما المخالفات فيعاقب عليها حتى ولو ارتكبت خطأ، فيما عدا الحالات التي يستلزم فيها القانون صراحة قصد الإضرار".
         
        وهذا النص وإن كان يميل إلى التدرج في طبيعة الركن المعنوي اللازم توافره بحسب خطورة الجريمة، إلا أنه يجيز توافره، ولو في صورة الإهمال أو الخطأ وذلك ضمن الشروط التي أوردها لتطبيق كل حالة منها.
   
          أما الجرائم المادية فيراد بها تلك الجرائم التي توجد من الناحية القانونية وتقع تحت طائلة العقاب لمجرد ارتكابها ماديا، أي بصرف النظر عن أي عنصر نفسي أو معنوي، ولو في صورة الخطأ بالإهمال.
   
          وهذه الجرائم تجد أهم تطبيقاتها في الجرائم الاقتصادية وجرائم النقد، ذلك أن رغبة المشرع في حماية الاقتصاد الوطني من العبث ومن التصرفات والأفعال الضارة دفعه إلى اتباع سياسة جنائية تتوسع في نطاق التجريم عن طريق التقليص من أهمية الركن المعنوي في ارتكاب الجريمة، وحصره في حدود ضيقة جدا، وفي هذا الإطار يمكن الحديث عن نوع من المسؤولية المطلقة أو المسؤولية الموضوعية التي تخرج عن المبادئ العامة المقررة في النظرية العامة للجريمة والعقوبة.

المبحث الرابع :التصنيفات العامة للجريمة :

•    تمهيــد :
          إذا كانت الجريمة تقوم على ثلاثة أركان، فإنها تعرف تقسيمات عدة، وسنجعل كل ركن من أركانها كمعيار للتمييز بين مختلف أنواعها وما يترتب على ذلك من آثار قانونية. وهذه التصنيفات التي درج شراح وفقهاء القانون الجنائي على الاهتمام بها وإدراجها ضمن دراسة النظرية العامة للجريمة ليست من قبيل الترف الفكري بل إن هذه التقسيمات ذات أهمية قانونية لا جدال فيها إذ تعتبر مفتاحا لفهم واستيعاب مواضيع مختلفة في القانون الجنائي.
   
          ومعظم هذه التقسيمات غير منصوص عليها بنص صريح في القانون الجنائي، وإنما هي من ابتكار واستنتاج الفقه والقضاء في غالب الأحيان.
   
          وفي هذا المبحث سنقتصر على أهم هذه التقسيمات، مخصصين مطلبا مستقلا لأهمها.

المطلب الأول: التقسيم الراجع إلى الركن القانوني :
          إذا نظرنا إلى الجريمة من زاوية الركن القانوني، فإننا نجدها تعرف التقسيمات التالية :
-    الجنايات، الجنح والمخالفات.
-    الجرائم المتلبس بها والغير المتلبس بها.
-    الجرائم العادية والجرائم العسكرية.

أولا : الجنايات والجنح والمخالفات :
          يرجع هذا التقسيم أساسا إلى تدرج وخطورة الوقائع المادية للجريمة، وبالتالي العقوبة المقررة لها، فالمشرع المغربي قد قسم الجرائم إلى ثلاث : جنايات، جنح ومخالفات (الفصل 111 من القانون الجنائي).
I-    الجناية (ف16 ق ج) :
          الجناية هي الجريمة التي يعاقب عليها المشرع بأحد العقوبات التالية : الإعدام أو السجن المؤبد أو المؤقت من خمس سنوات إلى ثلاثين سنة، أو الإقامة الإجبارية أو التجريد من الحقوق الوطنية (الفصل 16  ق ج).
II-    الجنحة (الفصل 17 ق ج) :
          وهي نوعان : جنحة تأديبية : وهي الجريمة التي يعاقب عليها المشرع بالحبس الذي يزيد حده الأقصى عن سنتين، وجنحة ضبطية : وهي الجريمة التي يعاقب عليها القانون بالحبس الذي لا يتجاوز حده الأقصى سنتان أو بالغرامة التي تزيد عن 1200 درهم. (ظهير 25/06/1994 المغير بموجبه ق ج).

III-    المخالفة :
          وهي الجريمة التي يعاقب عليها المشرع بعقوبة الاعتقال لمدة تقل عن شهر أو الغرامة التي لا تزيد عن 1200 درهم.
          والجدير بالذكر أن معيار التفرقة بين الجنايات والجنح والمخالفات يرجع إلى العقوبة المقررة قانونا في نص التجريم وليس إلى العقوبة التي ينطق بها القاضي.
          ويترتب على التسلسل السالف الذكر عدة نتائج منها :


1- من حيث التحقيق :
          يكون التحقيق إلزاميا في الجنايات المعاقب عليها بالإعدام أو السجن المؤبد، وكذلك الجنايات المقترفة من قبل الأحداث، واختياريا في ما عدا ذلك من الجنايات، أما في الجنح فإنه لا يمكن التحقيق فيها إلا بوجود النص (الفصل 2 من ظهير الإجراءات الانتقالية الصادر في 24/09/1974).

2- من حيث الاختصاص :
          تختص المحاكم الابتدائية بالنظر في المخالفات والجنح ما لم يقرر بنص خاص خلاف ذلك، أما الجنايات، فإن الاختصاص بالنظر فيها يرجع إلى الغرفة الجنائية بمحكمة الاستئناف.

3- من حيث المحاولة :
          فالمشرع يعاقب على المحاولة في الجناية دائما، إذا اعتبرها كالجناية التامة وعاقب عليها بتلك الصفة، في حين أن المحاولة في الجنح لا عقاب عليها إلا إذا وجد نص خاص يقضي بذلك، أما محاولة المخالفات فلا عقاب عليها مطلقا (الفصول 114 إلى 117 ق ج).
4- من حيث المشاركة :
          لا يعاقب المشرع على المشاركة في المخالفات في حين يعاقب على المشاركة في الجنايات والجنح (الفصل 129 من ق ج).

5- من حيث التقادم :
          تسقط الدعوى العمومية بالتقادم في الجنايات بمرور عشرين سنة ميلادية كاملة من يوم اقتراف الجريمة أو آخر إجراء في إجراءات التحقيق أو المتابعة تنجزه السلطة القضائية أو تأمر بإنجازه، بينما تتقادم الدعوى العمومية في الجنح بمرور خمس سنوات ميلادية كاملة، وفي المخالفات بمرور سنتين ميلاديتين كاملتين ابتداء من تاريخ ارتكابها (الفصل 3 من قانون المسطرة الجنائية).

6- من حيث وقف التنفيذ :
          لا يطبق إلا في القضايا الجنحية فقط.

7- من حيث المصادرة كعقوبة إضافية :
          يجوز الحكم بها في الجنايات، أما في الجنح والمخالفات فلا يجوز ذلك إلا بوجود نص خاص (الفصل 44 من ق ج).


8- من حيث المنع من الإقامة كتدبير وقائي شخصي :
          يجوز الحكم به إذا تعلق الأمر بجناية، أما في الجنح فلا يجوز الحكم به إلا إذا قرره النص الذي يعاقب على تلك الجنحة (فصل 72 ق ج).

9- من حيث الإيداع القضائي داخل مؤسسة لعلاج الأمراض العقلية :
          فهو جائز أيضا بالنسبة للجنايات أو الجنح دون المخالفات (ف 75 ق ج).

10- من حيث الوضع القضائي في مؤسسة فلاحية:
         فهو جائز أيضا بالنسبة للجنايات والجنح دون المخالفات (الفصل 80 ق ج).

11- من حيث الحكم بإسقاط الحق في الولاية الشرعية على الأولاد :
          كذلك نفس الحكم السابق (الفصل 88 ق ج).

12- من حيث المنع من مزاولة مهنة أو نشاط أو فن :
          أيضا نفس الحكم السابق (الفصل 87 ق ج).

13- من حيث قيام حالة العود :
          فتحقق العود في الجنايات غير محدد بفترة زمنية معينة من طرف المشرع على خلاف الجنح والمخالفات، فهو محدد بفترة زمنية (الفصول 157 و159).

14- من حيث الظروف القضائية المخففة :
          فلها قواعد خاصة تختلف باختلاف الفعل المرتكب من جناية أو جنحة تأديبية أو مخالفة (الفصول 147 إلى 151 ق ج).

ثانيا : الجرائم المتلبس بها (المشهودة) والغير المتلبس بها (الغير المشهودة) :
           
         إذا كان الأصل في المخالفات أنها دائما ترتكب في حالة التلبس، فإن الجنايات والجنح قد ترتكب في حالة التلبس أو في حالة البحث التمهيدي.
          وقد حدد المشرع حالات التلبس في الفصل 58 من قانون المسطرة الجنائية الذي جاء فيه : "يعتبر التلبس بالجناية أو الجنحة في الأحوال الآتية :
1-    في حالة إنجاز الفعل الجنائي أو على إثر إنجازه.
2-    في حالة ما إذا كان الفاعل مازال مطاردا بصياح الجمهور.
3-    في حالة ما إذا وجد المجرم بعد مرور زمن قصير على ارتكاب فعلته حاملا أسلحة أو أدوات أو أشياء يستدل منها على أنه شارك في الفعل الإجرامي أو وجدت عليه آثار أو إمارات تثبت مشاركته في الجريمة.
       
         وتتسم بصفة التلبس بالجناية أو الجنحة كل جناية تقع ولو في ظروف غير الظروف المنصوص عليها في الفقرات السابقة داخل منزل التمس صاحبه من وكيل الملك أو أحد ضباط الشرطة القضائية التثبت منها".
   
          وجدير بالذكر أن الجريمة، الجناية أو الجنحة التي تقع خارج الحالات الواردة أعلاه، لا يمكن اعتبارها أبدا جريمة مشهودة أو متلبسا بها في القانون المغربي.
          هذا وأهم ما يترتب على التمييز بين الجرائم المشهودة وغير المشهودة :

1- تخويل العموم إمكانية القبض على المجرم المتلبس بجناية أو جنحة :
          وذلك عملا بمقتضيات الفصل 78 من قانون المسطرة الجنائية التي جاء فيها : "يحق لكل شخص ضبط المجرم وسوقه إلى أقرب ضابط من ضباط الشرطة القضائية في حالة التلبس بجناية أو جنحة".

2- تفتيش المنزل :
          فبالنسبة للجريمة المتلبس بها يجوز لضابط الشرطة القضائية تفتيش المنزل دون حاجة إلى إذن كتابي إذ يكون ذلك بقوة القانون عكس الجريمة غير المشهودة إذ لا يمكنه إجراء التفتيش إلا إذا رضي بذلك بوجه صريح الشخص الذي سيجرى التفتيش بمنزله، وذلك في شكل تصريح مكتوب بخط يده، وإن كان لا يحسن الكتابة فيضمن ذلك في المحضر، ويشار فيه كذلك إلى موافقته.

3-اعتقال المتهم وتطبيق المسطرة المستعجلة في المحاكمة :
          إن أساس تصنيف الجرائم إلى مشهودة وغير مشهودة هو ما تتميز به الجريمة المتلبس بها من وسائل الإثبات القوية التي تدين المتهم بضبطه وهو لم ينته بعد من الجريمة أو عقب الانتهاء منها أو ما يزال –مطاردا من طرف الجمهور، واعتمادا على هذه القرائن سمح القانون للنيابة العامة باعتقال المتهم وعرضه فورا على المحكمة بعد استنطاقه وهو ما يعرف بتطبيق المسطرة المستعجلة في المحاكمة.

ثالثا: الجرائم العادية والجرائم العسكرية:
        الجرائم العادية هي المعاقب عليها بمقتضى القانون الجنائي وتدخل ضمن اختصاص المحاكم العادية أما الجرائم العسكرية فهي المعاقب عليها بمقتضى قانون العدل العسكري وتدخل ضمن اختصاص المحكمة الدائمة للقوات المسلحة الملكية.

المطلب الثاني: التقسيم الراجع إلى الركن المادي :
          تعرف الجريمة من زاوية الركن المادي تقسيمات إما حسب طريقة تنفيذها أو زمن تنفيذها أو نتيجتها.

أولا : حسب طريقة تنفيذها :
          ينبغي التمييز هنا بين الجرائم الإيجابية والجرائم السلبية من ناحية، والجرائم البسيطة وجرائم الاعتياد من ناحية أخرى :

I-    الجرام الإيجابية والجرائم السلبية :
          تكون الجريمة إيجابية في كل حالة يأتي فيها الفاعل نشاطا إيجابيا (فعلا) مخالفا للقانون الجنائي ومعاقب عليه بمقتضاه، فالنشاط الإيجابي يتمثل في حركة عضو من أعضاء الجسم، وهي الجرائم الكثيرة الوقوع، لأن المشرع الجنائي ينهى أكثر مما يأمر، ونحو ذلك : السرقة، الفساد، الاغتصاب....  
          وتكون الجريمة سلبية عند امتناع الجاني عن القيام بفعل معين يوجب عليه القانون القيام به، وهي أقل عددا من نظيرتها الإيجابية، من ذلك : إنكار العدالة (ف 240 ق ج)، امتناع الشاهد من أداء الشهادة (ف 123 ق م ج)....

II-    الجرائم البسيطة والجرائم الاعتيادية :
          الجرائم البسيطة هي التي يتكون ركنها المادي من نشاط إجرامي لا يستلزم المشرع فيه التكرار سواء كان النشاط إيجابيا أو سلبيا، ومعظم الجرائم بسيطة مثل : السرقة، القتل، النصب....
       
          أما جرائم الاعتياد، فهي الجرائم التي اشترط القانون لقيامها والعقاب عليها اعتياد الفاعل على إتيان نشاط إجرامي معين، إذ لا يكفي لقيامها ارتكاب الجاني الفعل المادي المكون لها مرة واحدة، وإنما لابد من تكرار هذا الفعل أكثر من مرة حتى يتوافر عنصر الاعتياد الذي يتطلبه القانون لقيام هذا النوع من الجرائم المحدد في القانون من ذلك : التسول، التشرد...

      ويترتب على التمييز بين الجرائم البسيطة وجرائم الاعتياد ما يلي :

1- من حيث التقادم :
          يبدأ التقادم في الجريمة البسيطة من حيث ارتكابها، أما بالنسبة لجرائم الاعتياد فيبدأ من اليوم الذي ارتكب فيه الفاعل آخر نشاط يتحقق به ركن الاعتياد.

2- من حيث الاختصاص :
          بالنسبة للجرائم البسيطة، فالاختصاص ينعقد للمحكمة التي تقع في دائرتها الجريمة، أما بالنسبة لجرائم الاعتياد، فإنه ينعقد لكل محكمة ارتكب في دائرة اختصاصها فعل من الأفعال المكونة لعنصر العادة.

3- من حيث تصور المحاولة :
        إن المحاولة ممكنة التصور في الجرائم البسيطة سواء كانت في صورة الجريمة الموقوفة أو في صورة الجريمة الخائبة، أما بالنسبة لجريمة الاعتياد فتصور قيام المحاولة فيها غير ممكن، لأن النشاط الذي يحقق ركن العادة في الجريمة إما أن يرتكب فتقوم الجريمة، وإما أن لا يرتكب فلا تقوم الجريمة أصلا لانتفاء الاعتياد. 

ثانيا : حسب زمن تنفيذها :

وهي إما جرائم فورية أو جرائم مستمرة :
- Iفالجرائم الوقتية أو الفورية : هي التي تتطلب من مقترفها فعلا ماديا يبدأ وينتهي بمجرد ارتكابه إذ أنه يقع في لحظة واحدة، أي أثناء فترة بسيطة لا قيمة لها من حيث الامتداد في الزمن، ومعظم الجرائم على هذا النحو كالسرقة والقتل والضرب وهتك العرض …

- IIأما الجريمة المستمرة : فهي التي تتكون من عمل أو امتناع يمتد في الزمن سواء من حيث التنفيذ أو من حيث القصد الإجرامي، والعبرة في الاستمرار هنا هي بتدخل الجاني، ومن قبيل ذلك جرائم حمل السلاح بدون رخصة، إخفاء أشياء متحصلة من جناية أو جنحة، التشرد، إخفاء الجناة، إهمال الأسرة…

        ويبقى إذن أن معيار التمييز بين الجريمة الوقتية والجريمة المستمرة هو عامل الزمن الذي يستغرقه تحقق عناصر الجريمة، فإن لم يستغرق سوى وقتا يسيرا، فالجريمة وقتية، وإن امتد خلال وقت طويل فالجريمة مستمرة.

وتبد وأهمية التمييز بين الجريمة الفورية والجريمة المستمرة على عدة مستويات :

1- من حيث التقادم :
        تبدأ مدة التقادم من تاريخ وقوع الجريمة بالنسبة للجريمة الفورية، أما بالنسبة للجريمة المستمرة، فإنه لا يبدأ إلا من اليوم الذي ينتهي فيه العمل الإجرامي.

2- من حيث الاختصاص :
         فالجريمة الوقتية نظرا لكونه لا ترتكب في الغالب إلا في مكان واحد، فإن محكمة هذا المكان هي التي تكون مختصة بالنظر فيها، أما الجريمة المستمرة والتي يمكن استمرارها في عدة أماكن، فإن محاكم جميع هذه الأماكن يمكنها أن تنظر فيها.

3- من حيث تطبيق القانون الجديد :
        فلا يطبق القانون الجديد على أية جريمة وقتية سابقة عليه متى كان أسوأ للمتهم إذ تبقى خاضعة للقانون النافذ المفعول وقت ارتكابها مادام هو الأصلح، في حين أنه بالنسبة للجريمة المستمرة فإن القانون الجديد يطبق من يوم نفاذه على مرحلة الاستمرار اللاحقة على صدوره حتى ولو كان أسوأ للمتهم ولا عبرة بالقانون الذي ابتدأ في ظله تنفيذ الجريمة. وليس في هذا أي نوع من المرجعية لأن الجريمة هنا لازالت قائمة وقت صدور القانون الجديد.

ثالثا : حسب النتيجة :
        فهناك جريمة النتيجة، والجريمة الشكلية :
فجريمة النتيجة هي التي تتطلب لقيام ركنها المادي صدور نشاط إجرامي من الفاعل وتحقق نتيجة إجرامية من هذا النشاط إذ يدخل في ركنها المادي نشاط الجاني والنتيجة الإجرامية معا، بحيث إذا غابت النتيجة التي اشترطها المشرع لقيام الجريمة لم تتحقق هذه الأخيرة أيضا، مثلا : جريمة القتل، السرقة، النصب...

        أما الجريمة الشكلية أو جريمة الخطر أو جريمة السلوك : فهي التي لا يشترط المشرع لقيام ركنها المادي ضرورة تحقق نتيجة معينة عن إتيان الجاني للنشاط الإجرامي، فالمشرع هنا لا يأخذ بعين الاعتبار ما قد ينجم عنها من أضرار فعلية بقدر ما ينظر إلى الأخطار المحتملة التي قد تترتب عنها والتي قد تعرض مصالح أساسية في المجتمع للخطر مثل : جريمة التسميم، جريمة الامتناع عن أداء النفقة، حيازة المخدرات أو السلاح بدون رخصة...

وللتمييز بين هذين النوعين من الجرائم عدة آثار :

1- من حيث علاقة السببية :
        فجرائم النتيجة لا يتم ركنها المادي إلا إذا وجدت علاقة السببية بين سلوك الجاني والنتيجة الإجرامية التي حصلت، أما جريمة السلوك أو الشكلية فإنه لاوجود فيها للعلاقة السببية كعنصر في ركنها المادي لأن التجريم يتعلق بمجرد السلوك فقط، ولا يرتبط بحصول النتيجة.

2- من حيث المحاولة :
        في جريمة النتيجة، تتحقق المحاولة في جميع صورها (موقوفة-خائبة-مستحيلة)، أما الجرائم الشكلية فيمكن القول بأن إمكان حدوث محاولاتها في صورتي الجريمة الخائبة أو المستحيلة أمر غير وارد أبدا، لكنها ممكنة في صورة الجريمة الموقوفة عندما يرتكبها الجاني بنشاط إيجابي، من ذلك جريمة الدخول إلى منزل الغير باستعمال التهديد أو التدليس أو العنف ضد الأشخاص أو الأشياء (ف441 ق ج) حيث يمكن إيقاف الفاعل فيها ومنعه من إتمام تنفيذ جريمته بعد شروعه، ونكون حينئذ في مواجهة محاولة جريمة الدخول إلى منزل الغير في صورة الجريمة الموقوفة. لكن عندما تكون الجريمة الشكلية سلبية فإن تصور محاولتها في أية صورة من صورها – غير ممكن على الإطلاق لأن هذا النوع من الجرائم يكون تاما بمجرد إتيان الفاعل للنشاط السلبي المشكل لركنها المادي ولا يتصور أبدا الشروع فيها من ذلك مثلا : جريمة الامتناع عن التصريح بالازدياد.

المطلب الثالث: التقسيم الراجع إلى الركن المعنوي :
عادة ما يتم تصنيف الجرائم بحسب هذا الركن إلى جرائم عمدية وأخرى غير عمدية.

أولا: فالجرائم العمدية : هي مجموعة الجرائم التي تطلب المشرع لقيامها توافر العمد أي القصد الجنائي عند مرتكبيها، وهذا النوع من الجرائم هو الغالب من ذلك مثلا : القتل العمد، الإجهاض، الفساد، الخيانة الزوجية...

ثانيا: أما الجرائم غير العمدية : فهي التي يقوم فيها الخطأ مقام القصد الجنائي، إذ اكتفى المشرع لقيامها والعقاب عليها مجرد صدور خطأ غير متعمد من الفاعل كعدم التبصر، عدم الاحتياط، الإهمال، عدم الانتباه، عدم مراعاة النظم والقوانين، ومن قبيل هذه الجرائم : القتل الخطأ، الحريق الغير العمدي...
ويترتب على التمييز بين الجرائم العمدية وغير العمدية بعض النتائج منها:

1- المحاولة : لا يعاقب المشرع على المحاولة في الجرائم غير العمدية، وذلك لعدم إمكانية حصول ذلك لأن الفاعل لم يكن بنيته تحقيق النتيجة الإجرامية، على خلاف الجرائم العمدية.

2- المشاركة :
        لاوجود للمشاركة في الجرائم غير العمدية لأن المشاركة تفترض بداهة وجود قصد جنائي بين الفاعلين، الأمر الذي لا يتوفر في الجرائم غير العمدية، وعلى هذا الأساس، إذا تعدد الفاعلون لا يمكن مؤاخذتهم إلا كفاعلين أصليين، على خلاف الجرائم العمدية حيث المشاركة قائمة بشأنها عملا بمقتضيات الفصل 129 من القانون الجنائي.

3-ظروف التشديد :
        إن ظروف تشديد العقوبة كسبق الإصرار والترصد مثلا لاوجود له إلا بالنسبة للجرائم العمدية، أما بالنسبة للجرائم غير العمدية، فإنها لا تخضع للظروف المشددة العامة، وإنما قد يُشدد فيها العقاب تبعا لفداحة النتائج التي قد تترتب عن سلوك الفاعل أثناء أو بعد إتيانه للنشاط الخاطئ المرتكب من قبله. فمثلا: تشدد عقوبة القتل الخطأ إذا كان الفاعل في حالة سكر أو كان قد حاول التخلص من المسؤولية الجنائية أو المدنية التي قد يتعرض لها وذلك بفراره عقب وقوع الحادث أو بتغيير حالة مكان الجريمة أو بأية وسيلة أخرى.


الفصل الثاني: المسؤولية الجنائية

تمهيد:
تقوم الجريمة بتوافر أركانها العامة وهي: الركن القانوني، المادي والمعنوي بالإضافة إلى العناصر الخاصة التي يحددها القانون وسواء ارتكبت في شكل محاولة أو جريمة تامة، ويستوي كذلك أن تكون قد ارتكبت بعمل انفرادي، أو من قبل عدة أشخاص (المشاركين، المساهمين أو الفاعلين المعنويين)، إلا أن المسؤولية عن هذه الجريمة لا يكفي لقيامها مجرد وجود هذه الجريمة وتحققها من الناحية القانونية، بل لابد إضافة إلى ذلك أن يكون مرتكبها مميزا ومدركا للفعل أو الامتناع الذي يصدر منه وأن يكون كذلك كامل الإرادة، أي مختارا لها غير مكره أو مجبر على إتيانها.

أما إذا فقد الإنسان إدراكه، أو كان غير مميز، أو انتفت إرادته، فإن مساءلته جنائيا لا تقوم كلية، أما إذا نقص عنده الإدراك أو التمييز فإن مسئوليته لا تنتفي وإنما تخفف بنسبة النقص الحاصل له في إدراكه أو تمييزه أو إرادته..

ومن المبادئ المقررة في هذا الصدد أن المسؤولية الجنائية لا تطال إلا الذي ارتكب شخصيا الوقائع المكونة للجريمة أو شارك فيها، وهذا هو ما يعرف بمبدأ شخصية المسؤولية الجنائية، وهو ما عبر عنه القانون الجنائي المغربي في الفصل 132 الذي ينص على أن : " كل شخص سليم العقل قادر على التمييز يكون مسؤولا شخصيا عن:

-    الجرائم التي يرتكبها
-    الجنايات والجنح التي يكون مشاركا في ارتكابها.
    - محاولات الجنايات
    - محاولات بعض الجنح ضمن الشروط المقررة في القانون للعقاب عليها ولا يستثنى من هذا المبدأ إلا الحالات التي ينص فيها القانون صراحة على خلاف ذلك".

ومؤدى هذا المبدأ أن الشخص لا يسأل جنائيا إلا عن فعله دون ما عداه من الأفعال الصادرة عن الغير مهما كانت الروابط القائمة بينهم، إلا أن المشرع أورد على هذا المبدأ بعض الاستثناءات التي قد تمتد فيها مسؤولية الشخص إلى فعل غيره، وهو ما يعرف بالمسؤولية الجنائية الموضوعية ، أو المسؤولية الجنائية عن فعل الغير، والقائمة على أساس افتراض الخطأ من جانب المسؤول وذلك استنادا إلى الفقرة الأخيرة من الفصل المشار أليه آنفا والذي نجد تطبيقات كثيرة له في بعض النصوص الخاصة.

وإذا كانت المسؤولية الجنائية كما رأينا تستلزم توافر عنصري الإدراك والتمييز فإنه من البديهي أن يتبادر إلى الذهن أن الإنسان وحده هو الذي يكون مسؤولا عن الجرائم، لأن له حسا يدرك به وعقلا يميز به وإرادة يختار بها أفعاله فتستبعد بذلك الحيوانات من نطاقها.

أما الأشخاص المعنوية (كالشركات، الجمعيات وغيرها من الهيئات) فقد أثار موضوع تحملها للمسؤولية الجنائية خلافات فقهية بين مؤيدين ومعارضين، وقد مال المشرع المغربي إلى الأخذ بمسئوليتها جنائيا، ولكن ضمن نظام خاص للمسؤولية، بحيث لا يحكم عليها إلا بالعقوبات التي تتلاءم وطبيعتها، وهذه العقوبات في غالبها مالية أو إضافية، وقد ورد عليها النص في الفقرات الخامسة والسادسة والسابعة من الفصل السادس والثلاثين من  القانون الجنائي، كما أجاز أيضا الحكم عليها بالتدابير الوقائية العينية الواردة في الفصل 62 من نفس القانون.

وتنقسم أسباب انعدام المسؤولية الجنائية إلى قسمين :
- الأسباب الشخصية لانعدام المسؤولية الجنائية.
-  الأسباب الموضوعية لانعدام المسؤولية الجنائية (أو الأسباب المبررة).
وسنخصص لكل منها مبحثا مستقلا. 




المبحث الأول: الأسباب الشخصية لانعدام المسؤولية الجنائية
عرفنا أن من شروط المسؤولية الجنائية أن يكون الشخص الجاني مميزا عاقلا ومريدا للفعل الذي يرتكبه لكي يتحمل نتيجة فعله ويتعرض بذلك للعقاب. والأسباب الشخصية التي تعدم الإدراك والتمييز لدى شخص حسب ما يمكن استخلاصه من الفصل 132 من مجموعة القانون الجنائي المغربي هي:
المطلب I: الخلل العقلي والضعف العقلي.
المطلب II: القصور الجنائي.
المطلب III: فضلا عن وجود حالات أخرى قد تؤثر على المسؤولية إذا توافرت شروط خاصة.

المطلب الأول: العاهات العقلية
لقد ميز المشرع المغربي بين حالة الخلل العقلي الذي اعتبره مانعا من الموانع الكلية للمسؤولية الجنائية وبين حالة الضعف العقلي الذي اعتبره سببا من أسباب تخفيفها فقط.

أولا: الخلل العقلي
ينص الفصل 134 من القانون الجنائي على حالة الخلل العقلي بقوله: " لا يكون مسؤولا ويجب الحكم بإعفائه، من كان وقت ارتكابه الجريمة المنسوبة إليه،في حالة يستحيل عليه معها الإدراك، أو الإرادة نتيجة لخلل في قواه العقلية". فهذا الشخص الذي يشير إليه القانون لا يكون مسؤولا لأنه لا يستطيع إدراك أو فهم ما كان يفعله. ومسألة الخلل العقلي من الوجهة الطبية أيضا تتنوع، لأن الملكة العقلية قد تختلف من شخص لآخر لأسباب شتى ومختلفة، والقاضي لا تهمه معرفة أسباب الخلل العقلي وأعراضه عندما يريد الفصل في قضية معين وإنما يعنيه هو معرفة حالة المتهم العقلية الخاصة التي كان عليها وقت ارتكاب الجريمة وهل تعفيه من المسؤولية أم لا.

وموقف القانون المغربي من هذه الناحية موقف سليم ما دام أنه أشار إلى الشروط الواجب توافرها لقيام هذه الحالة وما ينجم عنها من آثار قانونية. ففي الجنايات والجنح يحكم على المتهم بالإيداع القضائي في مؤسسة لعلاج الأمراض العقلية وفق الشروط المقررة في الفصل 76، أما في ميدان المخالفات فإن الشخص الذي يحكم بإعفائه إذا كان خطرا على النظام العام يسلم إلى السلطة الإدارية.

 I -شروط قيام حالة الخلل العقلي:
لقيام حالة الخلل العقلي كمانع من موانع المسؤولية الجنائية لابد من توافر ثلاثة شروط:

الشرط الأول:
لابد من اختلال كلي للقوى العقلية لدى الشخص، وهذه مسألة موضوعية تخضع في تقديرها لسلطة قاضي الموضوع الذي له الالتجاء إلى الخبرة الفنية لتنوير وجهة نظره.

الشرط الثاني:
أن يثبت قيام الخلل العقلي لدى الفاعل وقت ارتكابه لفعله، أي أن تكون الحالة مصاحبة ومعاصرة للفعل، لأن ذلك هو الوقت الذي يعتد فيه بمدى تمتعه بقواه العقلية، أما إذا ارتكب الفعل في وقت سابق على حالة الخلل العقلي، فلا يكون ذلك إلا ظرفا من الظروف الذي يستطيع معه القاضي أن يمتع المتهم بظروف التخفيف. أما إن ارتكب في وقت لاحق فلا أثر لذلك أيضا على المسؤولية وإن كان يرتب بعض النتائج بحسب ما لو كان قد حدث قبل الحكم أو بعده، فإن حصل قبل الحكم وجب إيقاف المتابعة، بحيث لا يمكن بعد ذلك استنطاق المجنون ولا محاكمته وإن كان ذلك لا يوقف البحث والتحقيق.
أما إذا حصل بعد الإدانة فإنه يحول دون تنفيذ بعض العقوبات مثل الإعدام والعقوبات الماسة بالحرية الفردية، إلا أنه لا يمنع من تنفيذ العقوبات السالبة للحقوق ولا للعقوبات المالية كالتصفية والغرامة.

الشرط الثالث:
استحالة الإدراك والتمييز، أي أن المجرم يفقد جميع قواه العقلية بحيث يفقد السيطرة على جسمه وحواسه.

II- أثر قيام حالة الخلل العقلي:
إذا ثبت قيام حالة الخلل العقلي عند المتهم وقت ارتكابه الجريمة، امتنعت مساءلته جنائيا طبقا للمادة 134 من القانون الجنائي، وكذا المسؤولية المدنية استنادا إلى الفصل 96 من قانون الالتزامات والعقود الذي جاء فيه: " ...القاصر عديم التمييز لا يسأل مدنيا عن الضرر الحاصل بفعله ويطبق نفس الحكم على فاقد العقل بالنسبة إلى الأفعال الحاصلة في حالة جنون ".

فالمحكمة الجنائية تحكم عليه بالإعفاء وليس بالبراءة لعدم أهلية المتهم في تحمل المسؤولية الجنائية، مع العلم أن عمله يبقى دائما غير مشروع.

والجنون باعتباره سببا شخصيا لا ينفي المسؤولية إلا عن من اتصف به دون غيره من الفاعلين أو الشركاء، إلا أن ذلك لا يحول دون توقيع التدابير الوقائية ضد المتهم. والتدابير ليست جزاء للمتهم على ما اقترفه من إثم، فهي نوع من وقاية المجتمع من الخطورة الإجرامية الكامنة في شخص المتهم.

فإذا كانت الجريمة التي اقترفها المتهم جناية أو جنحة فإنه يحكم بإيداعه بمؤسسة لعلاج الأمراض العقلية وفق الشروط المقررة في الفصل 76. والشروط التي قررها الفصل المذكور هي:
1-    أن تثبت المحكمة أن المتهم كان وقت الفعل في حالة خلل عقلي يمنعه تماما من الإدراك والإرادة.
2-    أن تصرح بانعدام مسؤولية تماما وتحكم بإعفائه
وإذا كان المتهم معتقلا فيبقى أمر الاعتقال ساريا إلى أن يودع فعلا في تلك المؤسسة. أما في مواد المخالفات، فإن الشخص إن كان خطيرا على النظام العام فإنه يسلم إلى السلطة الإدارية.

ثانيا : الضعف العقلي
نص المشرع على الضعف العقلي في الفصل 135 بقوله:" تكون مسؤولية الشخص ناقصة إذا كان وقت ارتكابه الجريمة مصابا بضعف في قواه العقلية من شأنه أن ينقص إدراكه أو إرادته ويؤدي تنقيص مسئوليته جزئيا.
وفي الجنايات والجنح تطبق على الجاني العقوبات أو التدابير الوقائية المقررة في الفصل 78 ق.ج .أما في المخالفات فتطبق العقوبات مع مراعاة حالة المتهم العقلية ".

فمرحلة الضعف العقلي هي مرحلة وسط بين مرحلة الخلل العقلي والسلامة العقلية عند الأشخاص العاديين، فالشخص المصاب بضعف عقلي هو إنسان شاذ فلا هو كامل الإدراك كالشخص الطبيعي المتمتع بكامل قواه العقلية، ولا هو مختل العقل تماما كالمجنون أو المعتوه، ومن ثمة استلزم الأمر مراعاة ظروفه عند تقدير مسئوليته، فلا ينبغي القول بامتناعها نهائيا، ولا تحصيله إياها بالكامل.
I- شروط قيام حالة الضعف العقلي:
لقيام حالة الضعف العقلي كسبب لتخفيف المسؤولية الجنائية، لابد من توافر الشروط التالية:
الشرط الأول:
قيام حالة الضعف العقلي لدى المتهم وهي مسألة موضوعية يرجع الفصل فيها لقاضي الموضوع الذي له أن ينتدب خبرة في هذا الشأن.
الشرط الثاني:
قيام حالة الضعف العقلي وقت ارتكابه الجريمة لأن هذا هو الوقت الذي يعتد فيه بمدى تمتعه بقواه العقلية من عدمه.
      الشرط الثالث:
    أن تؤدي تلك الحالة إلى إنقاص إدراكه والسيطرة على توجيه إرادته بكيفية جزئية بحيث لا هو بكامل قواه العقلية ولا هو بعديمها.

II- أثر قيام حالة الضعف العقلي:
يترتب على قيام حالة الضعف العقلي لدى المتهم وقت ارتكابه لفعله أن يسأل مسؤولية ناقصة، فإذا كان ما اقترفه جناية أو جنحة تطبق عليه العقوبات أو التدابير الوقائية التالية:

إذا قررت محكمة الموضوع بعد الخبرة الطبية أن مرتكب جناية أو جنحة رغم كونه قادرا على الدفاع عن نفسه في الدعوى إلا أنه كان مصابا وقت ارتكاب الأفعال المنسوبة إليه بضعف في قواه العقلية يترتب عليه نقص مسئوليته، فإنه يجب عليها:
- أن تثبت أن الأفعال المتابع من أجلها المتهم منسوبة إليه.
- أن تصرح بأن مسئوليته ناقصة بسبب ضعف في قواه العقلية وقت ارتكابه الفعل.
- أن تصدر الحكم بالعقوبة.
- أن تأمر إذا اقتضى الأمر بذلك بإدخال المتهم عليه في مؤسسة لعلاج  الأمراض العقلية قبل تنفيذ العقوبة السالبة للحرية ويكون بقاؤه في هذه المؤسسة وفق الشروط المقررة في الفقرة الأخيرة من الفصل 77 والتي تنص على أن الإيداع القضائي يمتد لزمن أطول إذا ما تطلب ذلك علاج المعني بالأمر والأمن العام.

أما في المخالفات، فتطبق العقوبات مع مراعاة حالة المتهم العقلية.

هذا إذا كان الجاني مصابا في قواه العقلية وقت ارتكابه الجريمة، أما إذا أصيب بذلك بعد ارتكابها فإن الفصل 79 من القانون الجنائي يقرر في شأنه ما يلي:
إذا قررت محكمة الموضوع بعد الخبرة الطبية أن الشخص المتابع لديها بجناية أو جنحة كاملة المسؤولية بالنسبة للوقائع المنسوبة إليه ولكن بسبب خلل في قواه العقلية طرأ عليه أو اشتد أثره بعد ارتكاب الفعل وأصبح غير قادر على الدفاع عن نفسه في الدعوى، فإنه يجب عليها:
1-    أن تقرر أن المتهم عاجز عن إبداء دفاعه بسبب خلل في قواه العقلية
2-    أن تأمر بوقف النظر في الدعوى
3-    أن تأمر بإدخاله في المؤسسة للعلاج من الأمراض
وعند صدور حكم سالب للحرية من طرف محكمة الموضوع فإنه يمكن لها أن تخصم المدة التي قضاها في المؤسسة من مدة تلك العقوبة.

ويجب ملاحظة أن المسؤولية المدنية التي يمكن أن تترتب عن فعله فإنه يتحملها كاملة وغير ناقصة، تطبيقا لنصوص القانون المدني المغربي التي لا تحلل الشخص من المسؤولية المدنية إلا إذا كان قد ارتكب الفعل وهو فاقد للإدراك تماما، أما إذا كان هذا الإدراك موجودا ولو بكيفية جزئية فإنه يبقى مسؤولا مسؤولية كاملة (الفصل 96 من قانون الالتزامات والعقود).


المطلب الثاني: القصور الجنائي:

أولا: مراحل القصور الجنائي:
 لقد أثارت ظاهرة جنوح الأحداث التي أخذت تتزايد بصفة ملحوظة انتباه كثير من التشريعات وذلك لكونها تضع مشاكل خاصة تختلف عن مشاكل إجرام البالغين على اعتبار أنها تستلزم اتخاذ تدابير وقائية خاصة ، تقوم بدور فعال في هذا الميدان، وعلى اعتبار أن الحدث قابل للإصلاح أكثر من البالغ لكونه تمييزه لا يماثل تمييز البالغ ولكونه لا يقدر خطورة العمل الذي يقدم عليه، ولذلك فعوضا عن إدانته بعقوبات حقيقية يحسن إخضاعه إلى وسائل الإصلاح والمساعدة والعناية التي تختار تبعا للشخصية الحقيقية وللوسط الاجتماعي والعائلي الذي يعيش فيه، وهذا هو السبب في إيجاد قواعد خاصة بالمجرمين الأحداث سواء فيما يتعلق بالاختصاص والمسطرة أو بالمسؤولية والتدابير.

ولكن إذا ارتكب المجرم الحدث الجريمة، فما هو موقف القانون الجنائي  المغربي في هاته الحالة؟
  للإجابة على هذا السؤال ينبغي تمييز عدة حالات:

1- القاصر البالغ أقل من 12 سنة:  
جاء في الفصل 133 من القانون الجنائي:" الصغير الذي لم يبلغ سنه إثنا عشر عاما يعتبر غير مسؤول جنائيا لانعدام تمييزه، وفي الجنايات والجنح لا يمكن أن يحكم عليه إلا بواحد  أو أكثر من تدابير الحماية والتهذيب المقررة في الفصل 516 من المسطرة الجنائية، وفي المخالفات لا يمكن أن يحكم عليه إلا بالتوبيخ المقرر في الفصل 518 من المسطرة الجنائية".

فالحدث يعتبره القانون غير مسؤول جنائيا لانعدام تمييزه، والعلة في انتفاء مساءلته تكمن في عدم بلوغه السن الذي يؤهله تمييز ماهية الأفعال وآثارها والسن هنا تعتبر قرينة قانونية قاطعة لا يجوز إثبات عكسها بأي طريقة من الطرق حتى ولو كان الصغير في واقع الأمر مميزا أو يحظى بقدر كاف من التمييز يكفي لمساءلته.

2- القاصر البالغ من العمر ما بين 12 و 16 سنة:
نص المشرع في الفصل 139 من القانون الجنائي على أن:" الصغير الذي أتم اثنا عشر عاما ولم يبلغ السادسة عشر، تعتبر مسؤوليته ناقصة بسبب عدم اكتمال تمييزه.

    وفي الجنايات والجنح يتمتع بعذر صغر السن، ويجوز أن يحكم إما بتدابير الحماية والتهذيب المقررة في الفصل 516 من المسطرة الجنائية، وإما بالعقوبات المخففة المقررة في الفصل 517.
    وفي المخالفات يمكن أن يحكم عليه إما بالتوبيخ وإما بعقوبة الغرامة المقررة في القانون طبق الشروط التي حددها الفصل 518 من المسطرة الجنائية".

    فالصغير الذي أتم اثنا عشر عاما ولم يبلغ السادسة عشر، تكون مسؤوليته ناقصة بسبب عدم اكتمال تمييزه.

3- القاصر البالغ من العمر ما بين 16 و18 سنة:
    نص المشرع في الفصل 140 من القانون الجنائي :" المجرم الذي بلغ سن الرشد الجنائي أي ستة عشر عاما يعتبر كامل المسؤولية.
   
إلا أنه يجوز إذا كانت سنه أقل من ثمانية عشر عاما أن يخضع لتدابير الحماية والتهذيب طبق الشروط المقررة في الفصل 514 من قانون المسطرة الجنائية.

فالحدث الذي يبلغ سنه 16 سنة فما فوق يعتبر كامل الأهلية للمساءلة الجنائية لبلوغه سن الرشد الجنائي، مما يجعله يتحمل كامل المسؤولية عن الأفعال والامتناعات المجرمة التي يرتكبها، إلا أن المشرع قرر استثناءا من هذه القاعدة ما مفاده أن المجرم الذي تكون سنه أقل من 18 سنة، والذي أتم 16 سنة لم يكن متحكما في إرادته بكيفية كاملة، مما يقتضي معه معاملته بكيفية مخففة.

ثانيا: التدابير المتخذة في حق الأحداث القاصرين:

I- بالنسبة للأحداث الذين يقل سنهم عن 12 سنة:
في المخالفات لا يمكن أن يحكم عليهم إلا بالتوبيخ.
وفي الجنايات والجنح لا يمكن أن يحكم عليهم إلا بواحد أو أكثر من تدابير الحماية أو التهذيب المقررة في الفصل 516 من قانون المسطرة الجنائية وهذه التدابير هي:

1- تسليم الحدث لأبويه أو لوصيه أو لكافله أو لشخص جدير بالثقة، في حالة ما إذا كان الأبوان عاجزين عن الاهتمام به، ويعتبر هذا التدبير إجراء القصد منه إنذار الحدث وأبويه ويشار إلى اتخاذه بالسجل القضائي.

2- إيداعه تحت نظام الحرية المحروسة سواء بصفة مؤقتة أو نهائية، وتناط بالمندوبين الدائمين أو المتطوعين بمراقبة الأحداث الجاري عليهم نظام الحرية المحروسة مهمة السهر على ظروف حياة الحدث المادية والمعنوية وصحته وتربيته وخدمته وحسن قضاء أوقات فراغه، ويعرضون في كل ثلاثة أشهر تقارير بنتيجة مهمتهم على قاضي الأحداث، ويتعين عليهم أن يرفعوا علاوة على ذلك بمزيد من السرعة تقريرا فيما إذا ساءت سيرة الحدث أو تعرض لخطر معنوي.

وإذا اكتشفت حادثة ما عن إهمال جلي للمراقبة من لدن أبوي الحدث أو وصيه أو كافله أو عن عراقيل منظمة توضع حيال مهمة المندوب فلقاضي الأحداث أو لمحكمة الأحداث أن تحكم على أبويه أو وصيه أو كافله بغرامة تتراوح بين 10 إلى 500 درهم.

    3- إيداعه في مشروع أو مؤسسة عمومية أو خصوصية مخصصة للتهذيب أو التكوين المهني ومؤهله لذلك الإيداع.
    4- إيداعه بمؤسسة طبية تربوية مؤهلة لذلك.
    5- إيداعه على يد المصلحة العمومية المكلفة بالإسعاف.
    6- إيداعه بقسم داخلي صالح لإيواء مجرمين أحداث لا زالوا في سن الدراسة، إلا أنه يتعين في سائر الأحوال أن يحكم بالتدابير المشار إليها لمدة معينة من غير أن تتجاوز التاريخ الذي يبلغ فيه الحدث 16 سنة كاملة.

II- الحدث من 12 إلى 16 سنة:
    في حالة ارتكاب الحدث مخالفة يمكن أن يحكم عليه إما بالتوبيخ وإما بعقوبة الغرامة المقررة في القانون طبق الشروط التي حددها الفصل 518 من المسطرة الجنائية.

    وفي حالة اقتراف جناية أو جنحة:
أ‌-    بإحدى تدابير الحماية أو التهذيب الخاصة بالأحداث البالغين 12 سنة.
ب-إيداعه تحت نظام التربية المحروسة أو إعادة تقويمه بإخضاعه لنظام طاعة محكم.
ج‌-    بعقوبة الحبس أو الغرامة (الفصل 517 المسطرة الجنائية)، ويجوز للمحكمة نظرا لظروف ولشخصية المجرم الحدث أن تعوض الأحكام التالية:
- بإبدال عقوبة الإعدام أو السجن المؤبد بعقوبة تتراوح بين 3 و 20 سنة.
- إبدال عقوبة السجن مع القيام بالأشغال الشاقة لمدة معينة، بعقوبة تتراوح بين 3و10 سنوات سجنا.
- وإذا كانت الجريمة المقترفة تستوجب عقوبة السجن فإن العقوبة المقررة في القانون يخفض مقدارها الأقصى والأدنى إلى النصف.




III- الأحداث المتراوحة أعمارهم بين 16 و18 سنة:
المجرم الذي يبلغ سن الرشد الجنائي، أي ستة عشر عاما، يعتبر كامل المسؤولية إلا أنه يجوز إذا كانت سنه أقل من ثمانية عشر عاما، أن يخضع لتدابير الحماية أو التهذيب طبق الشروط المقررة في الفصل 514 من قانون المسطرة الجنائية.

المطلب الثالث: الحالات الخاصة لانعدام المسئولية الجنائية
هل تنحصر أسباب انعدام المسئولية أو نقصها في العاهات العقلية والقصور الجنائي أم تتعداها لغيرها من الحالات؟

لقد تعرض المشرع المغربي بكيفية غير مباشرة لحالات أخرى ينتفي فيها الإدراك والإرادة بسبب عوامل خارجية ورتب عليها إما انعدام المسئولية أو نقصها بالنسبة للفاعل رغم أنها ليست لا خلل ولا ضعفا عقليين ولا صغير السن.

1- فالفصل 137 يشير إلى الحالة التي يفقد معها الشخص القدرة على التمييز والإدراك، وهذه الحالة هي السكر، ويقرر هذا الفصل أن (السكر وحالات الانفعال أو الاندفاع العاطفي أو الناشئ عن تعاطي المواد المخدرة عمدا لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يعدم المسئولية أو ينقصها)، وبهذا يكون القانون المغربي صريحا بالنسبة لأحوال السكر والفزع والأحوال التي تنتج عن تناول مواد مخدرة عمدا.

ومنذ مدة طويلة والفقه يقضي بأن ليس هناك إلا جريمة إهمال، ما دام السكر يعدم التمييز وبالتالي يقضي على النية الإجرامية إلا أن اعتبارات المصلحة العامة حملت الفقه على تغيير موقفه هذا واعتبرته مسئولا جنائيا. ولتأييد هذا الحل قانونا لجأ إلى نظرية القصد الجنائي الاحتمالي، لأن الفرد كان يجب عليه أن يتوقع جميع النتائج التي قد تترتب على سكره، وعلى كل، فمن المؤكد أن الشخص إذا سكر لكي يتشجع على ارتكاب الجريمة فإن السكر في هذه الحالة لا يكون سببا من أسباب عدم المسئولية، بل ربما يكون ظرفا من الظروف المشددة كما هو الحال في قانون العقوبات الإيطالي لأنه يفصح عن سبق الإصرار.

إلا أنه يجب التنبه إلى الشرط الخاص بالمواد المخدرة وهو أن يتم تناولها عمدا، أما إذا ثبت تناولها بكيفية غير متعمدة فإنها قد تؤدي إلى انعدام المسئولية أو نقصها حسب الأحوال وذلك أخذا بمفهوم المخالفة للفصل المذكور. وهناك بعض الحالات الأخرى لم يتعرض لها المشرع المغربي يمكن أن تقع في الحياة العملية، مثل السير في النوم.




2- السير أثناء النوم:
هذه الظاهرة موجودة في الحياة العملية ولذلك بحث الفقهاء بشأنها من حيث قيام المسئولية الجنائية أو عدم قيامها، وقد قيل بصفة عامة أن الشخص لا يسأل عن الجرائم التي يرتكبها أثناء النوم لأنه ينقاد إلى دوافع لا يمكن مقاومتها واختلف فيما إذا صدر منه إهمال في حالة اليقظة ساعد على ارتكاب الجريمة في حالة النوم، كما لو ترك مسدسا بقربه استعمله في ارتكاب الجريمة.   


الأسباب الموضوعية لانعدام المسئولية الجنائية

* أسبــاب التبـريــر والإباحة:

قد يتوافر الركن القانوني والمادي والمعنوي، وتقوم الجريمة وتتحقق المسئولية عنها وفقا للمبادئ العامة في القانون الجنائي، ومع ذلك ترفع الصفة الإجرامية عن الفعل ولا يلحق مرتكبه أي جزاء جنائي, حيث يعود الفعل أو الامتناع إلى أصلهما من الإباحة, وتسمى الأسباب التي من شأنها السماح بارتكاب أفعال هي في الأصل جرائم دون إمكانية مؤاخذة فاعليها عليها بأسباب التبرير أو الإباحة أو أسباب رفع المسؤولية الجنائية وهذه التسميات كلها هي بمعنى واحد.

وقد تعرض المشرع المغربي لأسباب التبرير في الفصول 124 و125 من القانون الجنائي فنص في الفصل 124 على أنه :"لا جناية ولا جنحة ولا مخالفة في الأحوال الآتية:
-    إذا كان الفعل قد أوجبه القانون وأمرت به السلطة الشرعية ,
-    إذا اضطر الفاعل ماديا إلى ارتكاب الجريمة, أو كان في حالة استحال عليه استحالة مادية اجتنابها وذلك لسبب خارجي لم يستطع مقاومته,
-    إذا كانت هذه الجريمة قد استلزمتها ضرورة حالة للدفاع الشرعي عن نفس الفاعل أو غيره أو عن ماله أو مال غيره بشرط أن يكون الدفاع متناسبا مع خطورة الاعتداء".

وأسباب التبرير في مجملها وإن كانت تظهر على شكل جرائم مباحة كما قد يوحي بذلك الاسم الذي يطلق عليها، إلا أنها من حيث أهدافها ومقاصدها تسعى إلى تمكين الأشخاص من القيام ببعض الواجبات وممارسة بعض الحقوق في إطار المشروعية(أمر القانون وإذن السلطة الشرعية)، كما أنها تراعى بعض الظروف الخاصة التي يكون فيها الشخص مرغما على ارتكاب فعل مخالف للقانون نظرا لكونه مدفوعا إليه بقوة مادية لا يستطيع مقاومتها(الإكراه المادي والقوة القاهرة وحالة الضرورة). وأخيرا فإن الشخص قد يتعرض لفعل قد  يتهدده في نفسه أو ماله، ويتعين الترخيص له بمواجهة هذا الاعتداء، وهذا الحق قد يتحول إلى واجب على الشخص إذا كان المعتدى عليه هو شخص آخر أو ماله.

     ولمعالجة أسباب التبرير سنخصص لكل حالة منها مطلبا مستقلا، على الترتيب الواردة في الفصل 124 المشار إليه أعلاه.

المطلب الأول: أمر القانون وإذن السلطة الشرعية:
   
    أحيانا يأذن القانون بارتكاب فعل يعتبر في الواقع جريمة لكن هذا الفعل يفقد صفة الإجرام بالنسبة لمرتكبه بقوة القانون كيفما كانت خطورته. وقد راعى القانون في هذه الحالة المصلحة العامة على المصلحة الفردية، فإلقاء القبض على شخص مثلا أو دخول منزله يعتبر في نظر القانون جريمة معاقب عليها لكن موظف الشرطة إذا قام بذلك بناء على تكليفه من قاضي التحقيق، فإنه لا يعتبر مجرما لأن عمله مبرر بحكم القانون، وكذلك بالنسبة للجندي الذي يقتل فردا من أفراد العدو أثناء الحرب ومن ينفذ حكم الإعدام في الشخص المحكوم عليه به.

    والتبرير لا يتم إلا بتوافر شرطين:
1-    وجود نص قانوني يأمر بارتكاب الفعل:

ويقصد بأمر القانون بوجه عام، وجود قاعدة قانونية سواء كان مصدرها التشريع أو العرف يسمح بإتيان فعل يعتبر في الأصل جريمة، ولا يشترط أن يكون القانون المبيح للفعل في صيغة الأمر بل يمكن- وهذا هو الغالب- أن يأتي في شكل ترخيص أو إذن بالرغم من عبارة " الأمر" الواردة في نص الفصل 124.
    
والقانون كما قلنا، يأخذ بمعناه العام، وعلى هذا الأساس يبرر القضاء مجموعة من ممارسة بعض الحقوق والتي لا يمكن أن تعتبر كذلك إذا أخذ النص بمدلوله الضيق:
-    ممارسة الألعاب الرياضية
-    الأعمال التأديبية التي يمارسها الأب اتجاه أبنائه وزوجته وفقا لأحكام الشريعة الإسلامية.
-    الأعمال التأديبية التي يمارسها الأستاذ اتجاه تلامذته.
-    الأعمال الطبية التي يمارسها الطبيب اتجاه مرضاه.
-    أعمال العنف الناتجة عن الألعاب الرياضية

بيد أنه يجب أن يكون واضحا أن حالات الإباحة الناتجة عن ممارسة حق أو حرفة لا يمكن الأخذ بها إلا في حدود ضيقة ومع توافر شروط معينة يمكن إجمالها في شرطين أساسيين:

أ‌-    التقيد بالشروط والأوضاع التي يرسمها القانون لاستعمال الحق أو ممارسة الحرفة، فالمهن يجب ممارستها في إطار عملي ومهني صحيح وفق قواعد وأصول مهنية صحيحة، و إلا اعتبرت أفعالا مجرمة (قرار محكمة الاستئناف بتاريخ 29/01/1946، المنشور بمجلة المحاكم المغربية عدد:13، ص:16).

ب‌-    حسن النية: لا يكفي لتبرير الفعل مجرد التزام الحدود المادية للحق بل لابد من ممارسته وفقا لقواعد حسن النية، وسوء النية لا يتحقق فقط بإرادة الإضرار بالغير بل كذلك باستعمال الحق في غير ما أعد له أو الانحراف بالسلطة إلى أغراض غير التي خولت من أجلها.

2-    صدور إذن من السلطة الشرعية:

ويشترط في هذه السلطة أن تكون     شرعية وأن تكون عامة، ويستوي في ذلك أن تكون مدنية أو عسكرية، فسلطة الأب مثلا على ابنه أو رب العمل على خادمه لا تكفي لتبرير الفعل لأن هذه السلطة وإن كانت شرعية إلا أنها ليست عامة.

لكن، هل يجب توافر كل هذين الشرطين دائما وأبدا لتبرير الفعل أم يكفي أحيانا توافر أحدهما؟

ظاهر نص الفقرة الأولى من الفصل 124 يوحي بأن الإباحة تتطلب توافر الشرطين معا، ذلك أن المشرع استعمل " حرف الواو " الذي يفيد العطف لربط أمر القانون بإذن السلطة الشرعية.

إلا أن هذا الظاهر يتماشى مع الواقع، إذا أن هناك حالات كثيرة يكفي فيها توافر أحد الشرطيين لوجود حالة التبرير، وهذا ما يقتضي منا التمييز بين حالة أمر القانون وحده دون السلطة الشرعية، وحالة إذن السلطة الشرعية دون نص القانون.

أولا: أمر القانون دون إذن السلطة الشرعية:

    وتتحقق الإباحة بأمر القانون وحده، عندما يتم تنفيذ الفعل خارج إطار أية رابطة (تبعية) أو قانونية، حيث يكون الفاعل وحده مكلفا بتنفيذ الأمر وفقا للقانون الذي يخوله صلاحية القيام بالفعل. والأمثلة على ذلك كثيرة منها:
-    ضابط الشرطة القضائية يمكنه –دون استصدار أمر أو إذن من أية جهة كانت- أن يضع المشبوه فيهم تحت الحراسة خلال المدة القانونية (الفصل 81 من قانون المسطرة الجنائية).
-    يمكن لكل شخص ضبط شخصا آخر متلبسا بجناية أو جنحة أن يلقي عليه القبض وأن يسوقه إلى أقرب ضابط للشرطة القضائية (الفصل 78 ق م ج)
-    يمكن الدخول إلى المساكن والقيام بحجز كل ما له علاقة بالجريمة موضوع البحث من قبل ضابط الشرطة القضائية تلقائيا، وكذا من قبل قاضي التحقيق دون إذن من سلطة أخرى(الفصل 7 من ظهير 18 سبتمبر 1974) بالنسبة للجنايات. والقيام بعملية حجز الأدوات أو الوسائل المستعملة في ارتكاب الجريمة(الفصل12 ق م ج) وإصدار أمر بالاستقدام، بإلقاء القبض أو بالإيداع في السجن، والكل دون أن يعتبر أي منهما       - ضابط الشرطة القضائية أو قاضي التحقيق- مرتكبا لجنحة انتهاك حرمة مسكن الغير أو الاعتقال التحكمي.
-    كما يمكن لضابط الشرطة القضائية- في حالة التلبس- أن يمنع كل شخص يرى ضرورة في الاحتفاظ به، من مغادرة مكان الجريمة إلى أن ينتهي من تحرياته (الفصل 67 ق م ج). وهذا دون أن يكون هذا الفعل ماسا بالحرية الفردية.
-    كما أن الدخول إلى مسكن الغير أو إلحاق أضرار مادية بملكه من قبل شخص آخر بصدد تقديم مساعدة لشخص في خطر (الفصل 431 ق ج) لا يمكن أن تقع تحت طائلة الفصلين 441 ق ج المتعلق بانتهاك حرمة مسكن الغير، أو الفصل 534 المتعلق بإلحاق أضرار مادية بملك الغير لأن فعله مبرر.

ثانيا:إذن السلطة الشرعية دون أمر القانون:
إذا كان الأمر الصادر عن السلطة الشرعية غير مشروع، فهل يعتبر فعل المرؤوس مبررا من الناحية القانونية؟ وبعبارة أخرى هل يمكن للتبعية الرئاسية أن تبرر السلوك الإجرامي للمرؤوس عندما يتصرف بناء على تعليمات أو أوامر غير شرعية؟

    مبدئيا، إن المرؤوس ملزم بطاعة الأوامر التي تصدر إليه من رؤسائه، فإذا قام بتنفيذ إذن غير شرعي أو غير قانوني، فإنه يعاقب باعتباره أنه من حقه كمرؤوس، ومن واجبه أن يقدر مشروعية الأوامر الصادرة إليه، وبالتالي يستطيع أن يمتنع عن تنفيذها فيما إذا تبين له عدم مشروعيتها، إلا أن هذه النظرية لا يمكن تطبيقها لأنها تهدد النظام العام بشكل خطير سيما في الميدان العسكري.

    وهناك نظرية أخرى تفرق بين الأمر الغير القانوني الذي تظهر عدم مشروعيته بصفة واضحة وفيه يجب على المرؤوس أن يمتنع عن تنفيذه و إلا كان مسؤولا، وبين الأمر الذي تكون عدم مشروعيته غامضة أوفيها نوع من الاحتمال، وفيه يجب على المرؤوس أن يطيع الأوامر الصادرة إليه ولا يمكن أن يؤاخذ عنها فيما لو ظهر بعد ذلك أنها كانت غير قانونية.

    والفصل 253 من مجموعة القانون الجنائي المغربي يأتي (بتفصيل) في هذا الموضوع فيقرر أنه " إذا أثبت القاضي أو الموظف العمومي أنه تصرف بناء على أمر من رؤسائه، في نطاق اختصاصاتهم التي يجب عليه طاعتهم فيها، فإنه يتمتع بعذر معف من العقاب، وفي هذه الحالة تطبق العقوبة على الرئيس الذي أصدر الأوامر وحده"

المطلب الثاني: حالة الضرورة والإكراه المادي

أولا: حالة الضرورة

    في بعض الأحيان يكون الشخص مدفوعا، وهو في حالة ضرورة ملحة إلى ارتكاب فعل يعد جريمة وهو في هذا الإطار وخلافا لحالة الإكراه المادي، لا يكون مجبرا بصورة قسرية إلى إتيان الفعل المجرم، بل يكون في وضعية يتمتع فيها بكامل الإرادة وحرية الاختيار، والفاعل يسعى من وراء فعلته إلى المحافظة على حياة أو حق أو مال للفاعل وإن كان ذلك يقتضي التضحية بحياة أو حق أو حرية شخص آخر قد يكون لا علاقة له أصلا بالخطر الذي يتهدد الفاعل أو غيره. وهذا هو ما يميز حالة الضرورة عن حالة الدفاع الشرعي- وهو إحدى تطبيقات حالة الضرورة- الذي يكون فيه الضحية معتديا يسمح القانون بمواجهته باعتداء مضاد لأنه هو البادئ بالاعتداء.

    والقانون الجنائي المغربي يسمح للشخص الذي يواجه خطرا يتهدده في حياته أو جسمه أو ماله أو يتهدد حياة أو حق الغير أن يدفعه، متى كان الضرر الذي يواجهه أكبر وأخطر من مصلحة الغير التي يمكن التضحية بها. فحالة الضرورة تقوم على الموازنة بين القيام بعمل إجرامي وبين الرضوخ لضرر محقق غير مقبول اجتماعيا.
   
ومن حالات الضرورة ما يلي:
أ‌-    الإفطار نهارا في أيام رمضان إذا توافرت شروط تبرره شرعيا.(الفصل 222قج).
ب‌-    الإجهاض غير معاقب عليه عندما يكون مجرد تدبير وقائي للمحافظة على حياة
      الأم أو صحتها (الفصل453 ق ج).
ت‌-    إهمال الأسرة قد يكون جريمة ضرورية عندما يكون مبررا بسبب خطير في جميع
      الحالات المنصوص عليها في الفصل( 479 ق ج).
ث‌-    الجرائم المنصوص عليها في الفصول 602 و603 تصبح مباحة عندما ترتكب في حالة الضرورة (إبادة وقتل الحيوانات الأليفة...).
ج‌-    عرقلة السير في الطريق العمومي يكون مبررا عندما يكون وضع حواجز أو مواد أو أية أشياء أخرى من شأنها المس بحرية أو سلامة المرور ضروريا.


ثانيا: الإكراه المادي:
   
    يعتبر الإكراه المادي سببا من الأسباب المبررة في القانون المغربي استنادا على الفصل 124/2  نص على أنه " لا جناية ولا جنحة ولا مخالفة في الأحوال الآتية:
1-    ...
2-    إذا اضطر الفاعل ماديا إلى ارتكاب الجريمة أو كان في حالة استحال علية استحالة مادية اجتنابها وذلك لسبب خارجي لم يستطع مقاومته."

وإذا كان القانون الجنائي المغربي لم يحدد مفهوم الإكراه المادي بصفة عامة، فإنه أورد بعض الشروط التي يتعين توافرها لقيام هذا الإكراه الذي يختفي معه كل أثر للجريمة. وهكذا، واستنادا على ما جاء في الفصل 124 المشار إليه أعلاه، وبناء على القواعد العامة في القانون، يمكننا تعريف الإكراه المادي على أنه حالة موضوعية يكون فيها الشخص مدفوعا بصورة جبرية إلى ارتكاب، فعل يعد جريمة، وذلك بسبب قوة خارجية لا يد له في حدوثها، ولا يستطيع توقعها قبل حدوثها.

وهذه القوة المادية ,قد يكون مصدرها الطبيعة و ما يلحق بها من تقلبات مناخية أو أرضية كالعواصف الهوجاء , الفيضانات , الزلازل , البراكين . كما قد يكون مصدرها أو سببها هو الإنسان كالحروب , وفعل الأمير...
و تأسيسا على ما سبق فلا بد لقيام حالة الإكراه المادي من توافر شروط أربعة وهي :

1-    أن يكون الإكراه ماديا:
وهذا يستلزم أن يكون الفعل أو القوة التي تسببت في شل إرادة الفاعل ذات طبيعة مادية لا تدع له مجالا للاختيار. وهذا ما أشارت إليه الفقرة 3 من الفصل 124 ق ج، في عبارتين متشابهتين: " إذا اضطر الفاعل ماديا إلى ارتكاب الجريمة، أو استحال عليه استحالة مادية اجتنابها...".

        أما مجرد الظروف أو الأسباب النفسية أو المعنوية التي يشعر معها الشخص بالضيق والحرج أو الألم النفسي أو العاطفي، فإنها لا تنهض سببا للإباحة. وإذا ثبت أن لها دورا في دفع الفاعل إلى إتيان الفعل المُجَرَّم، فلا يمكن أن تمحو الجريمة ولا تخول سوى الحق في الاستفادة من ظروف التخفيف القضائية. وفي هذا الإطار نفسه لابد من الإشارة خلافا لبعض الآراء في الفقه والقضاء، إلى أن الإكراه المعنوي، وذلك استنادا إلى نفس الفقرة الثانية من الفصل 124 ق ج، التي وجد فيها المشرع التأكيد على الصفة المادية للإكراه مرتين: إذا اضطر الفاعل " ماديا" واستحال عليه استحالة "مادية" اجتنابها، فالسبب المعنوي أو الحالة النفسية التي يكون عليها الشخص وقت ارتكاب الجريمة مهما بلغت خطورتها من حيث التأثير على إرادة الشخص وقدرته على الاختيار في إتيان الفعل أو الإحجام عنه لا يمكن أن تصل إلى درجة الإكراه المادي، كذلك فهي لا تعدو أن تكون مجرد سبب أو باعث تبقى معه الجريمة قائمة ويستحق عنها فاعلها العقاب.

    فمن يتعرض للتهديد بالقتل إن هو لم يضع سما لشخص آخر في الطعام ويقدمه له ويقوم بتنفيذ هذا الأمر في ظروف يستطيع فيها العدول عن إتمام فعلته، يعد مرتكبا لجريمة التسميم ويعاقب عليها بهذه الصفة، ولا يشفع له في ذلك كونه قد تعرض لإكراه أدبي. أما لو كان نفس الشخص قد وضعت له المادة السامة في يده وأجبر عنوة على وضعها في الطعام ثم جاء شخص آخر مثلا وحمل الأطعمة المسمومة وناولها لشخص آخر، فإن من وضع السم يكون مكرها ماديا وبالتالي لا يسأل عن التسميم.

2-    يجب أن يكون مصدر الإكراه خارجيا:
وذلك تطبيقا لنص الفقرة2 من الفصل 124 ق ج الذي جاء فيه:"...وذلك لسبب
خارجي...". فمن يمسك بشخص آخر بإصبعه ويضعه على زناد مسدس مشحون تنطلق منه رصاصة وتصيب غيره فيجرح أو يقتل لا يعتبر مرتكبا للقتل أو الجرح العمدي حسب الأحوال، لأنه كان تحت إكراه مادي مصدره شخص آخر.

        أما إذا كان مصدر الإكراه داخليا لا خارجيا، أي ناتجا عن سبب راجع للفاعل نفسه، فإن الإكراه في هذه الحالة لا يبرر الجريمة، كمن يصاب بمرض مفاجئ أثناء سيره في الطريق فيسقط على طفل صغير ويقتله، فإنه يكون مسئولا عن القتل الخطأ.

        3- أن تكون القوة أو السبب الذي دفع الشخص إلى ارتكاب الجريمة مما لا يمكن 
           مقاومته(الفصل 124/2)

والاتجاه القضائي والفقهي، في هذا الموضوع، يميل إلى تقدير هذا العنصر بدقة وتشدد كبيرين. فالسبب لا يعتبر قاهرا مبررا للإباحة إلا إذا كان مما لا يمكن توقعه ولا يمكن تفاديه.

4- وأخيرا يجب أن لا يكون الفاعل قد ارتكب خطأ سابقا كان هو السبب في حدوث الجريمة:

ففي حالة الجروح غير العمدية المترتبة عن حادثة سير مثلا، لا يمكن
للسائق الادعاء بأنه كان تحت تأثير الإكراه المادي، إذا كانت سيارته قد فقدت توازنها وزاغت عن اليمين عندما كان يسير بها في الطريق العام بسبب خطأ ميكانيكي، إلا إذا أثبت أن الخلل الميكانيكي الذي تسبب في وقوع الحادثة يكتسي صبغة القوة القاهرة، وهو لا يكون كذلك إلا إذا كانت الحالة الميكانيكية للسيارة من حيث الصيانة لا تسمح باكتشاف هذا الخلل، ويقع على عاتق الفاعل إثبات عدم وجود أي خلل في مراقبته لسيارته والاعتناء بها.


المطلب الثالث: حالة الدفـاع الشرعــي:
   
إن الشرطة وكذا الجهات المكلفة بالمحافظة على الأمن والنظام قد لا تتمكن من القيام بحماية أرواح المواطنين وممتلكاتهم بكيفية مستمرة لأنها لا يمكنها أن تتواجد في نفس الوقت وفي جميع الأمكنة، وعلى هذا فإن القانون أجاز للأفراد حق الدفاع وحماية أنفسهم بنفسهم إذا لم يوجد أعوان القوة العمومية الموكول إليهم أمر القيام بذلك.

        إذا كان الأصل أن الدولة وحدها لها الصلاحية في توقيع العقاب على الجاني، فإن القانون نزولا عند بعض الضرورات العملية، أجاز للأفراد في حالات خاصة وضمن شروط محددة أن يقوموا مقام الدولة في حماية أرواحهم وممتلكاتهم بأنفسهم وكذا أرواح وممتلكات غيرهم، وهذا ما يصطلح على تسميته بحق الدفاع الشرعي.

        فقد عرض له المشرع في الفصل 124/3 من القانون الجنائي الذي جاء فيه:"... إذا كانت الجريمة قد استلزمتها ضرورة حالة للدفاع الشرعي عن نفس الفاعل أو غيره أو عن ماله أو مال غيره بشرط أن يكون الدفاع متناسبا مع خطورة الاعتداء" ، وكذا الفصل 125 من نفس القانون الذي جاء يقضي ما يلي:" تعتبر الجريمة نتيجة الضرورة الحالة للدفاع الشرعي في الحالتين الآتيتين :"

1-    القتل أو الجرح أو الضرب الذي يرتكب ليلا لدفع تسلق أو كسر حاجز أو حائط أو مدخل دار أو منزل مسكون أو ملحقاتهما.

2-    الجريمة التي ترتكب دفاعا عن نفس الفاعل أو نفس غيره ضد مرتكب السرقة أو النهب بالقوة ".

وتعرف هاتين الحالتين الأخيرتين بالحالات الممتازة للدفاع الشرعي، وعليه سنتناول في فقرة أولى الشروط العامة للدفاع الشرعي لنعرض في فقرة ثانية الحالات الخاصة أو الممتازة للدفاع الشرعي.

أولا: الشروط العامة لحالة للدفاع الشرعي
إن الدفاع الشرعي هو مجرد رخصة يقررها القانون للأفراد ضمن شروط وضوابط محددة، لا يكون الفعل مبررا إلا بتوافرها، منها ما يتعلق بالاعتداء ومنها ما يعود إلى فعل الدفاع:
I-    الشروط المتعلقة بفعل الاعتداء:
1-    أن يكون الاعتداء غير مشروع:
ويقصد به كل فعل مخالف للقانون الجنائي ومعاقب  عليه بمقتضاه يشكل
خطرا على نفس الفاعل أو ماله أو نفس أو مال غيره،  لا يستطيع درأه إلا بارتكاب جريمة أما إن كان الاعتداء لا يشكل جريمة في نظر القانون، فإنه لا يبرر فعل الدفاع، ومثل ذلك : الشخص الذي يزعم الدفاع عن نفسه ضد شرطي يحاول إلقاء القبض عليه وهو متلبس بجريمة (السرقة، الاغتصاب...).

ففي هذه الحالة وأمثالها التي يكون فيها مرتكب الفعل يستند إلى مبرر
قانوني يسمح له بذلك فإنه لا يجوز له مقاومته بدعوى الدفاع الشرعي لأن فعله مشروع.

2-أن يكون الاعتداء حالا:
    وهذا يعني أن الاعتداء وشيك الوقوع بحيث لا يمكن تجنبه إلا بارتكاب
الجريمة، أما إذا كان فعل الدفاع قد ارتكب كرد فعل ضد اعتداء تم وانتهى فإننا لا نكون أمام دفاع وإنما انتقام لا يجيزه القانون، كذلك لا يكون الاعتداء حالا إذا كان التهديد بالاعتداء مستقبلا لا حالا، أو كان احتماليا فقط. وعليه فإن الاعتداء لا يكون حالا إلا إذا لم يكن أمام المعتدى عليه أية وسيلة لتفادي ارتكاب الجريمة كاللجوء إلى السلطة أو أية وسيلة أخرى (الهرب).


    3-  أن يكون الاعتداء على المال أو النفس:

لا يلزم أن يكون الاعتداء واقعا على نفس الفاعل أو ماله، حتى يبرر
فعل الدفاع بل يمكن أن ينصب على نفس الغير أو ماله. والاعتداء على النفس يشكل الاعتداء على الحياة أو السلامة الجسدية للأشخاص كالقتل والجرح والضرب، أما الاعتداء الواقع على العرض والشرف فإنه لا يكون مبررا للدفاع إلا إذا كان مرفقا باعتداء مادي على شخص الضحية. أما مجرد السب والقذف فإنه لا يحتاج حتى الرد بالمثل بحجة الدفاع الشرعي.

        والدفاع الشرعي لا يكون فقط لدفع اعتداء على النفس، وإنما يتحقق أيضا حتى في حالة الاعتداء على المال سواء تعلق الأمر بمال المدافع أو غيره: الدفاع ضد السرقة، الإتلاف، التخريب، حريق عمدي...

II-    الشروط المتعلقة بفعل الدفاع:

1-    أن يكون ضروريا ولازما:
وليس معنى هذا أن يكون فعل الدفاع هو الوسيلة الوحيدة المتاحة لتفادي
خطر العدوان، فلو كانت هناك وسيلة أخرى غير ارتكاب الجريمة ومع ذلك ارتكبها يمكن أن يعتبر في حالة دفاع شرعي، ويبرر فعله ما دام الدفاع هو حق للفرد إن لم يكن واجبا عليه في بعض الأحيان حيث يجب على المعتدى عليه ألا يفر أمام المعتدي إذا كان ممثلا للسلطة العامة كالشرطي والدركي والجندي الذين يتعين عليهم الاستماتة ولو تعرضوا إلى خطر محقق.

2-    أن يكون فعل الدفاع متناسبا مع خطورة الاعتداء:
إن ممارسة حق الدفاع الشرعي لا تهدف إلى الانتقام من المعتدي أو إنزال الجزاء به بقدر ما تهدف إلى تمكين المعتدى عليه من وسيلة لدرء الخطر المحدق به أو بغيره في ماله أو نفسه، لهذا، وجب أن يستعمل هذا الحق دون إفراط أو تجاوز، وتقدير التناسب بين فعل الاعتداء والدفاع هي مسألة موضوعية يرجع الفصل فيها لقاضي الموضوع الذي يتعين عليه عند تقدير توافر التناسب من عدمه مراعاة الظروف والملابسات في كل حالة على حدة، ويجب مراعاة هذا الشرط بشكل دقيق عندما يقع الاعتداء على المال لأن الدفاع عنه مهما كانت شرعيته لا يمكن أن يصل إلى درجة التضحية بحياة إنسان أو إلحاق أضرار خطيرة جدا غير قابلة للعلاج.
3-    أن يكون الدفاع عن النفس أو المال:
قد تمت الإشارة إلى هذا الشرط.
4-    أن يكون فعل الدفاع حالا وفوريا:
أي أن يقوم المعتدى عليه بالدفاع عن نفسه مباشرة أو أثناء وقوع الاعتداء عليه بمعنى أنه إذا كان الاعتداء قد انتهى في زمن الماضي فلم يعد هناك مبرر للدفاع لأنه سيصبح انتقاما بل يصبح ظرفا مشددا وسبق إصرار.

ثانيا: الحالات الممتازة للدفاع الشرعي:
نص المشرع في الفصل 125 على أنه "تعتبر الجريمة نتيجة الضرورة الحالة للدفاع الشرعي في الحالتين الآتيتين:
1.    القتل أو الجرح أو الضرب الذي يرتكب ليلا لدفع تسلق أو كسر حاجز أو حائط أو مدخل دار أو منزل مسكون أو ملحقاتهما.
2.    الجريمة التي ترتكب دفاعا عن نفس الفاعل أو نفس غيره ضد مرتكب السرقة أو النهب بالقوة.
إن الحالتين المشار إليهما في الفصل أعلاه لا يشترط فيها لتبرير الفعل توافر الشروط العامة السابقة الذكر، وهذا هو الأصل في تسميتها بالحالات الخاصة أو الممتازة للدفاع الشرعي إذ أقام المشرع قرينة قانونية على توافر الشروط إذا ارتكب فعل الدفاع في إحدى الحالتين الآتيتين:
-    القتل أو الجرح أو الضرب الذي يرتكب ليلا لدفع تسلق أو كسر حاجز أو حائط أو مدخل دار أو منزل مسكون أو ملحقاتهما.
-    الجريمة المرتكبة للدفاع عن نفس الفاعل أو غيره ضد مرتكبي السرقة والنهب بالقوة (أو بالعنف)، وهكذا فإن المقتضيات الواردة في الفصل 125 المشار إليها أعلاه ليست تطبيقا للفقرة الثالثة من الفصل 124، وإنما استثناء مخالف للمبادئ العامة في الدفاع الشرعي.
وبتوافر الظروف المشار إليها في الفصل 125 ق.ج يكون الشخص في إحدى الحالات الممتازة للدفاع الشرعي حيث يلزم هو فقط بإثبات الظروف المشار إليها ومن يدعي العكس يجب عليه إثبات عكس تلك الظروف.



















الفصل الثالث: العقوبات والتدابير الوقائية

تمهيـد


يختلف القانون الجنائي عن بقية فروع القانون في أن مخالفة أحكامه تستوجب نوعا من الجزاء يختلف عن أنواع الجزاءات الأخرى المطبقة على مخالفة مبادئ وقواعد باقي القوانين.

فالجزاء الجنائي يتمثل أساسا في العقوبة، وقد أوجد المشرع إلى جانبها التدابير الوقائية والتي ليست في حد ذاتها جزاءا بقدر ما هي تدابير إصلاحية غايتها حماية المجتمع من الخطورة الإجرامية الكامنة في شخص مرتكب الفعل الإجرامي وتقويم سلوكه، وهي لا تطبق إلا على أشخاص معينين كما سنرى، والتدابير الوقائية كالعقوبات تخضع لبعض الأحكام العامة فيما يتعلق بتطبيقها وإيقاف تنفيذها أو انقضائها، وهذا ما سنبحثها في النقط الثلاثة التالية:
-    المبحث الأول:  العقوبة
-    المبحث الثاني: التدابير الوقائية
-    المبحث الثالث: أسباب إيقاف وانقضاء تنفيذ العقوبات والتدابير الوقائية.

المبحث الأول: العقـوبـات
المطلب الأول:  تعريف العقوبة، خصائصها وأغراضها:
إن نظرة المجتمع والغاية التي يتوخاها من إيقاع العقوبة على مرتكب الجريمة تختلف باختلاف المدرسة الجزائية، واختلاف آراء فقهاء القانون والمذاهب المتعددة، وقد مرت النظرة إلى غاية العقاب من خمسة مراحل هي:
-    مرحلة الانتقام الفردي.
-    مرحلة التكفير.
-    مرحلة الإخافة.
-    مرحلة الإصلاح.
-    مرحلة الشفاء.
وخير مذهب لتعليل مشروعية العقاب هو المذهب الانتقائي، وهذا المذهب يهدئ ثورة المجتمع، ويطفئ ظمأ العدالة في آن واحد على أساس حفظ التوازن بين حرية الفرد وضرورة العقاب. ويرى أصحاب هذا المذهب بأن حق العقاب مشتق من العدالة الأخلاقية التي تحدد المنفعة الاجتماعية ورأيهم في ذلك هو أن السلطة الاجتماعية لا تستطيع أن تعاقب كل الأفعال التي تخرق القوانين الأخلاقية المجردة، ولكنها تعاقبها إذا أضرت بالمصلحة الاجتماعية، ويشترط في العقاب أن يبقى محافظا على الحدود والنسب التي ترسمها العدالة الأخلاقية وألا يتجاوز هذا العقاب حدود الضرر الاجتماعي الثابت.
وهذا المذهب لا يهمل الركن المادي ولا المعنوي للجريمة ويوفق بين مختلف النظريات بانتقائه الأحسن، وتتجلى مشروعية العقوبة حسب الاتجاه الحديث باعتبار أن للعقاب دورا معنويا يلعبه في زجر الآخرين، وإخافتهم وإخافة الفاعل نفسه لكي يتجنب ارتكاب الجريمة بواسطة الألم الذي يكون جوهر العقوبة، كما أن للعقاب كذلك دورا نفعيا يتمثل في حسن التنظيم والتنسيق والتطبيق الذي يؤدي إلى النتائج التالية:
-    إصلاح المجرم ليعود إلى حظيرة المجتمع إنسانا شريفا ليعيش سويا مع غيره في المجتمع الذي أساء إليه، والوصول إلى إصلاح المجرم ليصل إلى هذه النتيجة يتوقف على حسن إرادة وتنظيم السجون التي تأوي من زلت قدماه وتعمل على تثقيفه ثقافة أخلاقية تنتزع من نفسه بذور الشر.
-    بالقضاء عليه نهائيا في حالة استحالة إصلاحه عندما يتمكن الشر والانحراف من نفسه تمكنا مطلقا، والقضاء عليه يكون إما بسجنه طول الحياة لتخليص المجتمع الذي أرهبه من الخطر الكامن فيه، أو بإقصائه نهائيا من المجتمع وذلك بإعدامه.

أولا: تعريف العقوبة:
العقوبة هي عبارة عن جزاء قانوني يوقعه المجتمع على مرتكب الجريمة بناء على حكم صادر من محكمة جنائية مختصة.
وهذا الجزاء يصيب المجرم في جسمه أو حريته أو ماله أو شرفه أو في حقوقه السياسية والاجتماعية.

وتختلف العقوبة عن تدابير الشرطة أو إجراءات الأمن التي يتخذها رجال الأمن المكلفين بصيانة الأمن قبل ارتكاب الجريمة لمنع وقوعها.
كما تختلف عن التعويض المدني الذي فرضه المشرع لإزالة آثار الجريمة وذلك بإلزام الفاعل بدفع مبلغ من المال للمتضرر مباشرة أو لأقاربه في حال موته.

وتختلف عن التدابير الوقائية التي تعتبر في جوهرها تدابير احتياطية للدفاع عن المجتمع، وهي لا ترمي إلى فرض عقاب على مجرم تثبت مسؤوليته بل إلى تأمين حماية المجتمع ضد فرد لخطورته، وإعادة تربيته ليتسنى له استرجاع مكان لائق في المجتمع.






ثانيا: الخصائص العامة للعقوبات:

I- شرعية أو قانونية العقوبة:
أي أن يكون قد نص عليها القانون، وهذا هو ما يسمى بمبدأ شرعية العقوبة الذي يقابل مبدأ شرعية الجريمة.
فلا يسوغ مؤاخذة أحد على فعل لا يعد جريمة بصريح القانون ولا معاقبته بعقوبة لم يقررها القانون (الفصل 2 من القانون الجنائي المغربي)، وبهذا يكون القانون قد ألزم القاضي باتباع القانون عند المحاكمة وأن لا يتخذ أحكاما حسب هواه أو من وحي أفكاره، وإنما يكون مقيدا بالنص فيما يتعلق بنص العقوبة ومقدارها وحدودها، أي الحد الأدنى والحد الأقصى وطريقة تنفيذها . وإذا كان هذا الفصل يصرح بتمسكه بمبدأ "لا جريمة ولا عقوبة بدون نص"، فإن مجموعة القانون الجنائي المغربي قد أبقت فرقا كبيرا بين الحد الأقصى والحد الأدنى للعقوبات التي تقررها لتترك للقاضي مجالا واسعا لإمكانية منح ظروف مخففة متروك أمر تقديرها لاجتهاده طبقا لمبدأ تفريد العقاب.

II-    يجب أن تكون العقوبة عامة:
تطبق في حق كل شخص كيفما كان مركزه في المجتمع فلا دخل ولا اعتبار للمكانة الاجتماعية للأشخاص الذين تسلط عليهم العقوبة لكن لوحظ أن أثر العقوبة يختلف باختلاف الأشخاص، فوقع الحبس مثلا على الشريف وعلى الفقير والبائس ليس متساويا، فهو على الأول أشد وقعا والغرامة لا تؤثر في الغني بقدر ما تؤثر في الفقير كما أن التسوية مفقودة بين الفاعلين في نفس الجريمة وذلك بالنسبة لبعض الظروف الشخصية المشددة أو المخففة التي تطبق فقط على من توافرت فيه.
ولكن يكفي أن يكون حكم القانون واحدا بالنسبة لجريمة معينة وبشروطها بالرغم من هذه الفوارق.

III-    يجب أن تتعلق العقوبة بشخص المجرم:
وهذا هو مبدأ شخصية العقوبة، والملاحظ أن مبدأ شخصية العقوبة غير مطلق، فرب الأسرة الذي يحبس يؤثر سلب حريته على أفراد أسرته الذين حرموا من ثمرة عمله ورعايته، وكذلك الغرامة، فإنها تصيب الورثة إذا مات المحكوم عليه لأنها تنفذ في ماله، إلا أن المشرع قصد بالعقاب تحقيق فكرة العدالة وحماية المجتمع، وهي أغراض عامة تفوق تلك الآثار الخاصة غير المباشرة التي تنشأ عن توقيع العقوبة المحكوم بها.






مبدأ تفريد العقاب:
لقد اهتم المشرع المغربي بتفريد العقوبات، فضمن نصوص القانون إمكان توفيق العقوبة مع خطورة الجريمة المرتكبة وشخصية المجرم، وقد جاء في الفصل 141 من مجموعة القانون الجنائي المغربي أن "للقاضي سلطة تقديرية في تحديد العقوبة، وتفريدها في نطاق الحدين الأدنى والأقصى المقررين في القانون المعاقب على الجريمة، مراعيا في ذلك خطورة الجريمة المرتكبة من ناحية، وشخصية المجرم من ناحية أخرى"، وبهذا اعتنق حلا وسطا بين أسلوب العقوبة التقديرية وأسلوب العقوبة الثابتة، فعين لكل جريمة عقوبة ولكل عقوبة حدا أدنى وحدا أقصى ثم افترض أسباب إعفاء وتخفيف وتشديد العقاب.

ثالثا: أغراض وأهداف العقوبة:
إن التشريع الجنائي الحديث لم يعد يهدف إلى غاية انتقامية كما كان عليه الحال في الماضي حيث يميل إلى العقوبات البدنية القاسية في حق الجناة، وذلك إما ببتر أعضاء الجاني المحكوم عليه وإما بجره أو ربط أوصاله على العجلة إلى غير ذلك من صنوف العذاب الذي تشمئز منه النفس، والتشريع الجنائي المغربي لا يوجد به أي مظهر من هذه المظاهر القاسية، وإنما نهج طريق أحدث المذاهب (المذهب التوفيقي)، التي ترى أن تتوفر في العقوبة مبادئ العدل، وبأن تكون على قدر الفعل المجرم لزجر مرتكبه بغير قسوة، وأن يكون هدفها حماية المجتمع من المجرمين وخطورتهم.
وبهذا يصبح للعقاب في نظر المشرع الأغراض التالية:

 I-الغرض التخويفي أو الإرهابي:
بإيقاع عقوبات في حق الجاني لإخافته وتحذيره كعقوبات جرائم الإهمال والجنح البسيطة مثل: الغرامات والمصادرات، والحبس لمدة قصيرة في إطار مبدأ الردع العام والردع الخاص.
II- غرض الإصلاح والتقويم:
كعقوبة الحبس الذي تطول مدته والسجن والأشغال الشاقة المؤقتة، وهذه العقوبات يتعرض لها مرتكبو الجرائم الأشد جسامة، والمجرمون الأشد خطرا، وهي تهدف إلى ردعهم، وبهذا تردع غيرهم من المجرمين الذين تسول لهم أنفسهم السير على منوالهم في ارتكاب الجرائم.
III-غرض استئصال كبار الجناة من المجتمع:
وهذا النوع هو أشد أنواع العقاب التي فرضها القانون الجنائي لأخطر المجرمين الذين يرتكبون أبشع الجرائم، وهذه العقوبات هي: إعدام الجاني وتنحيته تماما من المجتمع أو سجنه طيلة حياته مع الأشغال الشاقة.


المطلب الثاني: أنواع العقوبات:
منذ بداية القرن التاسع عشر وقع تغيير في عدد العقوبات وطرق تنفيذها، فلم يعد أي وجود للعقوبة التي كانت تتصف بطابع التنكيل، وظهرت عقوبات أخرى تضمنتها التشريعات الجنائية في عدة بلدان، وهي تهتم بالدفاع الاجتماعي ضد ظاهرة الإجرام.
وعلى هذا، فإن العقوبات يمكن تقسيمها وتصنيفها حسب وجهات مختلفة؛

أولا: تصنيف العقوبة من الوجهة القانونية:
قسم القانون الجنائي العقوبات إلى قسمين: العقوبات الأصلية (التي تكون إما جنائية أو جنحية أو ضبطية) والعقوبات الإضافية.

ومنذ سنة 1962، كانت توجد عقوبة أساسية وهي التي يمكن الحكم بها وحدها، والإضافية التي لا يمكن أن يُحكم بها وحدها، وإنما يجب أن تكون مضافة إلى عقوبة أساسية أخرى، والعقوبة الإضافية نوعان: فهي إما أن تضاف إلى العقوبة الأساسية بحكم القانون وتطبق سواء نص عليها الحكم أو لم ينص عليها، أو لا تضاف بحكم القانون وإنما يجب على المحكمة أن تنص عليها حين يمكن تطبيقها.

وهذا التقسيم كان يشكل عقبة من الوجهة العملية ويؤدي إلى التباس فيما بين العقوبة التكميلية والإضافية، إلا أن الفصل 14 من مجموعة القانون الجنائي المغربية وضع حدا لهذا الالتباس بتمييزه صراحة بين نوعين من العقوبات. فتكون العقوبة أصلية عندما يسوغ الحكم بها وحدها دون أن تضاف إلى عقوبة أخرى، وتكون إضافية لا يسوغ الحكم بها وحدها أو عندما تكون ناتجة عن الحكم بالعقوبة الأصلية.
لكن ما هي العقوبات الأصلية؟.

I- العقوبات الأصلية:
فقد عينتها الفصول 16، 17، 18 من القانون الجنائي كما يلي:
1-    العقوبات الجنائية الأصلية:
-    الإعدام,
-    السجن المؤبد,
-    السجن المؤقت من 5 سنوات إلى 30 سنة,
-    الإقامة الإجبارية,
-    التجريد من الحقوق الوطنية.





2- العقوبات الجنحية الأصلية:
أ‌-    الحبس من شهر إلى خمس سنوات باستثناء حالات العود أو غيرها التي يحدد فيها القانون مدة أخرى.
ب‌-    ظهير 25/07/1994 : الغرامة التي يتجاوز حدها الأدنى 1200 درهم.

3-  العقوبات الضبطية الأصلية:
1-    الاعتقال لمدة تقل عن شهر.
2-    ظهير 25/07/1994 الغرامة من 30 درهم إلى 1200 درهم.

II- العقوبات الإضافية:
أما العقوبات الإضافية، فإن الفصل 36 من القانون الجنائي لم يحدد أنواعها وإنما ميزها كالآتي:
1-    الحجر القانوني,
2-    التجريد من الحقوق الوطنية,
3-    الحرمان المؤقت من ممارسة بعض الحقوق الوطنية أو المدنية أو العائلية,
4-    الحرمان النهائي أو المؤقت من الحق في المعاشات التي تصرفها الدولة,
5-    المصادرة الجزئية للأشياء المملوكة للمحكوم عليه بصرف النظر عن المصادرة المقررة كتدبير وقائي في الفصل 89 من ق.ج.,
6-    حل الشخص المعنوي,
7-    نشر الحكم الصادر بالإدانة.

ثانيا: تصنيف العقوبة من الوجهة المادية:
I-    بالنسبة لموضوعها:
-    العقوبات البدنية (كعقوبة الإعدام التي تصيب الإنسان في حياته).
-    العقوبات السالبة للحرية (كالسجن والحبس والاعتقال).
-    العقوبات التي تحد من الحرية (الإقامة الإجبارية).
-    العقوبات المالية (الغرامة والمصادرة وحل الشركة والحرمان النهائي أو المؤقت من الحق في المعاشات التي تصرفها الدولة).
-    العقوبات التي تحد من التمتع بالحقوق (كالتجريد من الحقوق الوطنية).
-    الحرمان المؤقت من ممارسة بعض الحقوق الوطنية أو المدنية أو العائلية.
-    العقوبات المهينة للكرامة (كنشر الحكم الصادر بالإدانة).


II-    بالنسبة لمدتها:
-    العقوبات المؤبدة: الإعدام أو السجن المؤبد.
-    العقوبات المؤقتة: السجن المؤقت، الإقامة الإجبارية، الحبس والاعتقال، والتجريد من الحقوق الوطنية.
-    العقوبات التي تكون أحيانا مؤبدة وأحيانا أخرى مؤقتة، كالحجز القانوني الذي يحرم المحكوم عليه من مباشرة حقوقه المالية طوال مدة تنفيذ العقوبة الأصلية.

ثالثا: أنواع العقوبات:
سندرس كل عقوبة على حدة وذلك بالسير على المنهج التالي:
1-    العقوبة البدنية.
2-    العقوبات السالبة للحرية.
3-    العقوبات المقيدة للحرية.
4-    العقوبات المالية.
5-     العقوبات السالبة للحقوق.
6-    العقوبات الشائنة.


I- العقوبة البدنية:
1- عقوبة الإعدام هي العقوبة البدنية الوحيدة في القانون المغربي.

والإعدام هو استئصال المحكوم عليه بإزهاق روحه بعد الحكم عليه نهائيا بهذه العقوبة من محكمة مختصة، وهو يعد أقصى عقوبة جنائية فرضها القانون للجرائم الخطيرة ولأخطر المجرمين.

وقد اختلفت الآراء حول عقوبة الإعدام قديما وحديثا، فقد رأى (روسو) وهو من أصحاب المذهب التقليدي القديم أن الفرد الذي اندمج في جماعة في ظل حكم الدولة قد قبل صيانة المجتمع لحياته بحيث أنه لا يقبل أن يكون مجنيا عليه في جريمة قتله، ومطلبه هذا يعتبر من أبرز حقوقه في الجماعة التي يعيش فيها لكنه إذا اقترف هو نفسه نوعا من هذه الجرائم فقد يعتبر بذلك مخلا بحق من حقوق أفراد المجتمع، وبهذا يتوجب عليه أن يخضع لحكم الإعدام قصاصا منه.

لكن (بكاريا) يرى أن اللجوء إلى عقوبة الإعدام تفرضه بعض الظروف السياسية فقط، عندما تكون الهيئة الحاكمة في حاجة إلى العنف والشدة لإقرار النظام والأمن واستئصال عناصر الفتنة والاضطراب، ويقترح عقوبات أخرى غير الإعدام في الظروف العادية يكون غرضها الردع.

وأصحاب المذهب الوضعي في العصر الحديث ينظرون إلى شخص المجرم ونفسيته والعوامل التي تؤثر فيه وتؤدي إلى ارتكاب الجرائم, وقد اختلفت آراؤهم حول عقوبة الإعدام، فـ (لمبروزو) لا يرى مانعا من تنفيذ عقوبة الإعدام في حق المجرم بالفطرة الذي يجب  التخلص منه، ولا تنفع معه وسائل الإصلاح. و (جاروفالو) لا يعتبر في عقوبة الإعدام قسوة، ويشير إلى الفائدة التي كان يجنيها المجتمع من إعدام عدة مجرمين في وقت واحد لتطهير المجتمع من العناصر الخبيثة الموجودة فيه.

وبالرغم من الانتقادات التي وجهت إلى عقوبة الإعدام من طرف الفلاسفة والكتاب، والعلماء الذين سعوا لإلغائها والاقتصار على بعض العقوبات الأخرى، رغم هذا فقد بقيت في كثير من التشريعات الحديثة.

أما معارضو عقوبة الإعدام، فتستند نظريتهم إلى كون الجماعة المنظمة لم تمنح الفرد الحياة بل هي هبة من الخالق، فلا يحق لها أن تحرمه منها، إلا أن اعتراضهم هذا يمكن توجيهه لكافة العقوبات السالبة للحرية.

ويؤكد دعاة هذا الاتجاه إلى أن هذه العقوبة إذا نفذت استحال بعد ذلك إصلاح ما عسى أن يكون قد وقع من خطأ القضاة بالحكم على برئ وقد يتصور حدوث ذلك أيضا بالنسبة للمحكوم عليه بالسجن، فيصاب بمرض وبائي داخل السجن فيموت، ففي هذه الحالة يتعذر إصلاح ما قد ينشأ عن تنفيذ عقوبة السجن من الضرر إذا كان الحكم مشوبا بأخطاء.

2- كيف تنفذ عقوبة الإعدام:
لهذا أبقى القانون الجديد على عقوبة الإعدام التي كان منصوصا عليها في الفصل 13 الفقرة الأولى من ظهير 1953 وكان تنفيذ الأحكام بالإعدام يخضع فيما مضى إلى القواعد التي قررها الظهير رقم 1.59.023 المؤرخ في 25 ذي القعدة 1378 الموافق(02 يونيو 1959).

فالفقرة الأولى من الفصل 19 من القانون الجديد تنص، كما كان ينص الفصل 3 الفقرة الأولى من الظهير المذكور، على أنه "تنفذ عقوبة الإعدام رميا بالرصاص وذلك بأمر من وزير العدل وبسعي من رئيس النيابة العامة بمحكمة الاستئناف.
يقع التنفيذ من لدن السلطة العسكرية بناء على تكليف من وكيل الملك لدى المحكمة التي أصدرت الحكم.
1-    رئيس المحكمة التي أصدرت الحكم وإلا فقاضي يعينه الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف.
2-    عضو من النيابة العامة يعينه رئيس النيابة العامة بمحكمة الاستئناف.
3-    أحد قضاة التحقيق وإلا فأحد القضاة من محكمة المكان الذي يقع به التنفيذ.
4-    أحد كتاب الضبط من محكمة المكان الذي يقع به التنفيذ.
5-    مدافعو المحكوم عليه.
6-    مدير السجن الذي يقع به التنفيذ أو مدير السجن الذي كان المحكوم عليه معتقلا به عندما يقع التنفيذ بمكان آخر.
7-    رجال الأمن الوطني المكلفون من قبل النيابة العامة.
8-    طبيب السجن، وإلا فطبيب تعينه النيابة العامة.
9-    إمام وعدلان.

ولا يجوز لغير هؤلاء الأشخاص حضور عملية التنفيذ، وتسلم إثر التنفيذ جثة المحكوم عليه إلى عائلته فيما إذا طلبت ذلك على أن تلتزم بدفنه في غير علانية.
وإذا ما أراد المحكوم عليه أن يفضي بأي تصريح فيتلقاه أحد القضاة بالمحكمة المستقرة بمحل التنفيذ بمساعدة كاتب الضبط.

ولا يمكن أن ينشر عن طريق الصحافة أي بيان أو مستند يتعلق بالتنفيذ عدا المحضر المذكور، كما يمنع أن ينشر أو يذاع بأي وسيلة من الوسائل قبل التنفيذ أو قبل تبليغ ظهير العفو لعلم المحكوم عليه، أي خبر له صلة بالآراء التي أبدتها لجنة العفو أو بالقرار المتخذ من لدن جلالة الملك.

ويحرر كاتب الضبط محضر التنفيذ ويوقعه كل من رئيس المحكمة الجنائية أو مفوض من قبله، وممثل النيابة العامة وكاتب الضبط.
وبمجرد ما يقع التنفيذ تعلق نسخة من هذا المحضر بباب السجن الذي أنجز فيه التنفيذ، وتبقى معلقة 24 ساعة، فإذا وقع التنفيذ خارج حظيرة السجن علق المحضر بباب بلدية  مكان التنفيذ.
المرأة المحكوم عليها بالإعدام إذا ثبت حملها فإنها لا تعدم إلا بعد أن تضع حملها بأربعين يوما.
وعلى النيابة العامة ألا تضع الحكم الصادر موضوع التنفيذ إلا بعد اقتران طلب العفو بالرفض (الفصل 946 من قانون المسطرة الجنائية).




3- الجرائم التي يعاقب عليها القانون الجنائي المغربي بالإعدام:

في حالة العود لارتكاب الجناية (الفصل 154)، الاعتداء على حياة الملك أو شخصه (الفصل 163)، الاعتداء على حياة ولي العهد (الفصل 165)، الاعتداء على أحد أعضاء الأسرة المالكة (الفصل 167)، في حالة محاولة ارتكاب إحدى الجنايات المنصوص عليها في الفصول السابقة (الفصل 171)، جناية الخيانة في وقت السلم والحرب (الفصل 181)، جناية الخيانة بتحريض العسكريين (الفصل 182)، جناية التجسس (الفصل 185)، جناية المس بسلامة الدولة الخارجية (الفصل 190)، جناية المس بأمن الدولة الداخلي (الفصل 201)، جناية المس بالأمن الداخلي بمباشرة عمل بغير حق ولا مبرر مشروع في رئاسة إحدى وحدات الجيش ...إلخ (الفصل 202)، المس بسلامة الدولة الداخلية (الفصل203)، محاولة ارتكاب الجنايات المشار إليها في الفصل 201-الفصل 204، ارتكاب جناية القتل(الفصل392)، القتل لأحد الأصول (الفصل 395)، قتل طفل وليد عمدا(الفصل 397) ارتكاب جريمة القتل بواسطة التسميم (الفصل 398) استعمال وسائل التعذيب والأعمال الوحشية لتنفيذ جناية(الفصل 399)، ارتكاب الجرح والضرب أو العنف أو الإيذاء بقصد إحداث الموت(الفصل 410)، الجنايات المنصوص عليها في الفصول الآتية :411- 412-439-474 ق.ج .

II- العقوبات السالبة للحرية:
توجد ثلاثة عقوبات سالبة للحرية في القانون الجنائي المغربي وتعتبر من العقوبات الجنائية الأصلية، وهذه العقوبات هي كالتالي:

1-السجن المؤبد أو المؤقت (من 5 إلى 30 سنة).
2-    الحبس للجرائم الجنحية (من شهر إلى خمس سنوات).
   3-  الاعتقال في الجنح الضبطية (من يوم إلى شهر).

وسندرس كل عقوبة من العقوبات الثلاثة على حدة.

1-    السجن المؤبد أو المؤقت: (من 5 إلى 30 سنة).
تنفذ عقوبة السجن (حسب الفصل 24 من القانون الجنائي) داخل سجن مركزي مع الانفراد بالليل، كلما سمح بذلك، ومع الشغل الإجباري فيما عدا حالة ثبوت عجز بدني.

    ويضيف نفس الفصل على أنه لا يمكن مطلقا للمحكوم عليه بالسجن أن يشتغل في الخارج قبل أن يقضي عشر سنوات من العقوبة إذا كان محكوما عليه بالسجن المؤقت.
وعلى هذا فإن الشخص المحكوم عليه بعشرين سنة سجنا لا يمكن أن يشتغل في الخارج قبل أن يقضي خمس سنوات من العقوبة المحكوم عليه بها وهي 20 سنة.

ولا يمكن أن تطال عقوبة السجن الحدث الذي لم يبلغ السادسة عشر سنة طبقا للفصل 516 من قانون المسطرة الجنائية.
وتبتدئ مدة العقوبة السالبة للحرية من اليوم الذي يصبح فيه المحكوم عليه معتقلا بمقتضى حكم حائز قوة الشيء المحكوم به (الفصل 30 من القانون الجنائي).
وإذا ثبت أن المرأة المحكوم عليها بعقوبة سالبة للحرية حامل لأكثر من ستة أشهر فلا تنفذ العقوبة في حقها إلا بعد وضعها بأربعين يوما.
فإن كانت معتقلة قبل صدور الحكم فإنها تنتفع بنظام الاعتقال الاحتياطي طوال الفترة اللازمة(الفصل 32) ويوقف تنفيذ العقوبات السالبة للحرية أيضا في حق النساء اللائى وضعن قبل الحكم عليهن بأقل من أربعين يوما.

2- الحبس من شهر إلى خمس سنوات:
    ينص الفصل 28 من القانون الجنائي على أن تنفيذ عقوبة الحبس في إحدى المؤسسات المعدة لهذا الغرض أو في جناح خاص من إحدى السجون المركزية مع الشغل الإجباري في الداخل أو الخارج فيما عدا ثبوت عجز بدني.
    وأقل مدة الحبس شهر، وأقصاها خمس سنوات، باستثناء حالات العود أو غيرها التي يحدد فيها القانون مددا أخرى(الفصل 17).
وفيما عدا حالات العود التي توجب وفق الفصلين 156و157 عقوبة مدتها عشر سنوات، فقد يتأتى عن بعض الجرائم عقوبات تقل مدتها الدنيا عن شهر واحد كما هو الحال في تمزيق الإعلانات وإزالتها الذي أشار إليه الفصل 325، وكذلك أحكام الفصل 150 الذي تراعى فيه أسباب التخفيف فيحدد الحبس بالنسبة للجنح الضبطية بمدة أدناها ستة أيام.

3- الاعتقال من يوم إلى شهر:
    تنفذ عقوبة الاعتقال في السجون المدنية أو ملحقاتها مع الشغل الإجباري في الداخل أو الخارج فيما عدا حالة ثبوت عجز بدني (الفصل29 من القانون الجنائي).
وتحسب مدة العقوبة المحكوم بها كما يلي:
-    إذا كانت العقوبة المحكوم بها يوما واحدا فإن المدة هي أربعة وعشرين ساعة.
-    إذا كانت العقوبة تقل عن شهر فإنها تحسب بالأيام، وكل يوم أربعة وعشرين ساعة.
-    إذا كانت العقوبة المحكوم بها شهرا واحدا فإن المدة هي ثلاثون يوما.
-    إذا كانت العقوبة تتجاوز شهرا  فإن المدة تحسب بالشهور الميلادية من تاريخ إلى تاريخ.
والجرائم التي يعاقب عليها بالاعتقال هي المخالفات من الدرجة الأولى المنصوص عليها في الفصل 608 من القانون الجنائي. وهي مخالفات ارتكاب أعمال العنف والإيذاء الخفيف والإلقاء العمدي بمواد صلبة أو قاذورات على شخص، التسبب في إصابة أو مرض يؤدي إلى عجز عن القيام بالأعمال الشخصية مدة تعادل أو تقل عن ستة أيام ...إلخ.

    ومدة الاعتقال في حالة اقتراف أحد هذه المخالفات وغيرها التي ينص عليها الفصل المذكور تبتدئ من يوم واحد إلى 15 يوما إلا أنه في حالة العود بالنسبة إلى المخالفات المعاقب عليها في هذا الفصل فإنه يجوز أن ترفع عقوبة الاعتقال والغرامة إلى الضعف بمعنى أن لا تتجاوز 20 يوما.

4- الترتيب الذي يتعين فيه تنفيذ العقوبة السالبة للحرية:
إذا تعين تنفيذ عقوبة سالبة للحرية فإن المحكوم عليه يبدأ بقضاء أشدها ما لم يرد نص على خلاف ذلك.
والمفهوم لعبارة العقوبة الأشد يقصد به العقوبة التي هي أعلى درجة من حيث خطورتها.
فإذا تعادلت العقوبة من حيث طبيعتها فإنه يراعى ويرجع أطولها مدة على أن لهذه القاعدة استثنائين:
أ‌-    تطبيقا لمبدأ التواصل والاستمرار في قضاء العقوبات، إذا بوشر بقضاء مدة العقوبة بحكم سريان مدة الاعتقال الاحتياطي فإنه يتوجب إنجاز قضائها بدون انقطاع حتى نهايتها.
ب‌-    في حالة إلغاء وقف التنفيذ فقد نصت الفقرة الثالثة من الفصل 56 على أن تنفيذ العقوبة الثانية يتم دون إدماج.

III- العقوبة التي تحد من الحرية:
الإقامة الإجبارية، وهي العقوبة الجنائية الأصلية الوحيدة التي تحد من الحرية، فهذه العقوبة تعد من مستحدثات القانون الجنائي المغربي وينص عليها الفصل 25 منه كما يلي:" الإقامة الإجبارية هي أن تحدد المحكمة مكانا للإقامة أو دائرة محدودة لا يجوز للمحكوم عليه الابتعاد عنها بدون رخصة طوال المدة التي يحددها الحكم بحيث لا تقل عن خمس سنوات متى كانت عقوبة أصلية.

ويبلغ الحكم بالإقامة الإجبارية إلى الإدارة العامة للأمن الوطني التي يجب عليها أن تتولى مراقبة الإقامة المفروضة على المحكوم عليه".

وتدعو الضرورة إلى التمييز بين الإقامة الإجبارية التي هي عقوبة أصلية وبين الإجبار على الإقامة المعتبر تدبيرا وقائيا بمقتضى الفصل 61 من القانون الجنائي.
فقد أبرز المشرع التفرقة في الألفاظ فسمى التدبير الوقائي الإجبار على الإقامة بمكان معين لتمييزه عن الإقامة الإجبارية التي ذكرها الفصل 16 كعقوبة جنائية أصلية.

فالإقامة الإجبارية كعقوبة أصلية لا تقل مدتها عن 5 سنوات، والقاضي الذي ينطق بهذه العقوبة يجب أن يحدد مدتها في نطاق الحدين الأقصى والأدنى الذين حددهما النص المعاقب على الجريمة.

أما الإجبار على الإقامة كتدبير وقائي فمدته وفقا للفصل 70 لا تتجاوز خمس سنوات أي الحد الأقصى هو خمس سنوات.

والعقوبتان تشتركان معا في أن مهمة مراقبة الإقامة المفروضة تقع على عاتق الإدارة العامة للأمن الوطني وإذا كانت الإقامة الإجبارية أصلية في جناية فإنه في حالة الضرورة يمكن منح المحكوم عليه رخصا مؤقتة للتنقل داخل القطر من طرف وزير العدل طبقا للفقرة الأخيرة من الفصل 25، أما في حالة تحديد الإقامة كتدبير وقائي فإن هذا الحق مخول للإدارة العامة للأمن الوطني طبقا للفصل 70.

وعقوبة الإقامة الإجبارية عقوبة أصلية، بالرغم مما يبدو لأول وهلة من المرور بالفصل 25 من عبارة " عندما تكون محكوما بها كعقوبة أصلية".
فالقصد من ذلك تمييز الإقامة الإجبارية عن الإجبار على الإقامة بمكان معين التي تعد تدبيرا وقائيا.

والمشرع أجاز لوزير العدل أن يمنح المحكوم عليه رخصا مؤقتة للابتعاد عن دائرة المكان المحدد لإقامته إذا دعت الضرورة لذلك، وقد ترك لوزير العدل سلطة تقدير تلك الضرورة كما في حالة ضرورة العلاج أو في حالة الاستدعاء من محكمة أو جهة إدارية أو ما يماثل ذلك.
ولا يسمح للمحكوم عليه أن يخرج عن حدود مكان الإقامة دون الحصول على هذا التصريح وإلا تعرض لعقوبة الحبس من سنة إلى 5 سنوات طبقا لما نص عليه الفصل 317 من القانون الجنائي.

ومما ينص عليه القانون الجنائي الفرنسي وجود عقوبتين أطلق عليهما اسم العقوبات الشائنة وهما النفي والتجريد المدني وقصده من ذلك جعل هاتين العقوبتين خاصتين بالجرائم السياسية.

أما المشرع المغربي فقد استبعد عقوبة النفي باعتبارها تتعارض مع المبادئ الأساسية في الدساتير الديموقراطية الحديثة التي ينص بعضها على أنه لا يجوز إبعاد المواطن عن أرض الوطن، لهذا فضل المشرع المغربي استحداث عقوبة الإقامة الإجبارية بدلا من النفي.

والفصول التي ينص فيها المشرع على هاته العقوبة قليلة جدا في القانون الجنائي المغربي وتكاد الجريمة الوحيدة التي يعاقب عليها بهاته العقوبة هي الجريمة التي ينص عليها الفصل 234 وذلك في الأحوال التي يتم فيها الاتفاق على مخالفة القوانين وكان الاتفاق على هذا قد حصل بين سلطات مدنية وهيئات عسكرية أو رؤسائها، فالمحرضون على ذلك يعاقبون بالحبس من 5 إلى 10 سنوات، أما الجناة الآخرون فيعاقبون بالاقامة الإجبارية مدة لا تتجاوز عشر سنوات.

IV- العقوبات المالية:
العقوبات المالية هي التي تصيب المحكوم عليه في ماله أو ممتلكاته وحسب مقتضيات الفصول 17-18-36 من القانون الجنائي فإن العقوبات المالية هي كالآتي:
1-    الغرامة:
هي عقوبة أصلية جنحية أو أصلية في المخالفات.
2-    المصادرة:
لا ينبغي الخلط بينها وبين المصادرة التي تعد من التدابير الوقائية، فهي إضافية قابلة للارتباط بالعقوبات الأولية الجنحية.
3-    حل الشخص المعنوي:( أو حل الشركة كما يقال).
وهي عقوبة إضافية قابلة للتطبيق على عدد جد محدود من المخالفات وهي تختلف عن غلق إحدى المؤسسات الذي يعتبر أحد التدابير الوقائية.
وسنعرض فيما يلي كل نوع من هذه العقوبات.

1-    الغرامة:
حسب منطوق الفصل 35 من القانون الجنائي المغربي فإن الغرامة هي إلزام المحكوم عليه بأن يؤدي لفائدة الخزينة العامة مبلغا معينا من النقود بالعملة المتداولة قانونا في المملكة.


الفرق بين الغرامة الجزئية والتعويض المدني
إن السبيل للحكم بالغرامة الجزئية هو الدعوى العمومية التي ترفعها النيابة أو يحركها المدعي بالحقوق المدنية.
-    أما التعويض المدني فهو لا يكون إلا بدعوى خاصة، وهي الدعوى المدنية، ذلك أن الشخص الذي وقع له ضرر يكون مخيرا بين رفع دعواه بالتعويض على حدة أمام القضاء المدني أو أن يتدخل في الدعوى الجنائية مدعيا مدنيا وأساس طلبه يكون هو الجريمة التي وقعت وطرحت أمام القضاء الجنائي.
-    الغرامة الجزئية هي في الغالب عقوبة أصلية ذات طابع عقابي وتتعدد بتعدد الفاعلين وشركائهم، أما التعويض المدني فيحكم به أصلا جملة لأنه يقدر بنسبة الضرر الحاصل.
والغرامة الجزئية لا يمكن أن يحكم بها إلا على مرتكب الجريمة، فإذا توفي فلا توجه الدعوى العمومية إلى ورثته.
-    الغرامة الجنائية يوقعها القاضي من تلقاء نفسه إذا رفعت الدعوى العمومية العمومية إليه، أما التعويض فلا يحكم به القاضي الجنائي إلا إذا حصل الادعاء مدنيا أمامه أثناء قيام الدعوى العمومية.

2-    المصادرة الجزئية للأشياء المملوكة للمحكوم عليه:
المصادرة حسب نص الفصل 42 من القانون الجنائي هي: تمليك الدولة جزءا من أملاك المحكوم عليه أو بعض أملاك له معينة.

ويجب التمييز بين هذه المصادرة التي هي عقوبة إضافية والمصادرة المنصوص عليها في الفقرة الأولى من الفصل 62 (وهي مصادرة الأشياء التي لها علاقة بالجريمة أو بالأشياء الضارة أو الخطيرة أو المحظور امتلاكها) التي تعد أحد التدابير الوقائية.

والمصادرة الجزئية لا يمكن أن تحكم بها المحاكم الزجرية إلا ضد المحكوم عليه وحده لا على ورثته أو الشخص المسئول مدنيا.

والمشرع المغربي ميز بين الحكم بالمصادرة بسبب فعل يعد جناية والمصادرة الناتجة عن الأفعال التي تعد جنحا ومخالفات. فالفصل43 من القانون الجنائي ينص على المصادرة بسبب فعل يعد جناية كما يلي: في حالة الحكم بالمؤاخذة عن فعل يعد جناية يجوز للقاضي أن يحكم بأن يصادر لفائدة الدولة، مع حفظ حقوق الغير، الأدوات والأشياء التي استعملت أو كانت ستستعمل في ارتكاب الجريمة أو التي تحصلت منها وكذلك المنح وغيرها من الفوائد التي كوفئ بها مرتكب الجريمة أو كانت معدة للمكافأة ". ففي هذه الحالة التي ينص عليها هذا الفصل فإنه يجوز للقاضي أن يصدر حكما بالمصادرة لفائدة الدولة."

أما في حالة الجنح والمخالفات، فإنه لا يجوز للقضاة إصدار حكم بالمصادرة إلا في الحالات التي ينص عليها القانون كالحالة التي يشير إليها الفصل 255 حيث يقرر أنه " لا يجوز مطلقا أن ترد إلى الراشي الأشياء التي قدمها ولا قيمتها، بل يجب أن يحكم بمصادرتها وتمليكها لخزينة الدولة"، كما يجب الحكم حتما بمصادرة الأموال والمستندات موضوع الرهان، وكذلك ما يضبط منها في صناديق المؤسسة أو ما يوجد منها مع الأشخاص المسيرين، أو مع أعوانهم وكذا جميع الأثاث والمعدة الأشياء المنقولة التي أثث أو زين بها المحل وجميع الأدوات المعدة أو المستعملة لغرض اللعب، الفصل 282 المتعلق بالجرائم المخلة بالضوابط المنظمة لدور القمار واليناصيب والتسليف  على رهون. وتوجد حالة أخرى ينص فيها القانون على الحكم بالمصادرة في المخالفات وهي الحالات التي يتناولها الفصل 610 من القانون الجنائي وهي الأدوات والمناضد وأجهزة القمار أو اليناصيب وكذلك نصبة المقامرين والنقود والسلع، والمفاتيح أو المخاطيف...إلخ.

وهناك حالة أخرى يسمح فيها للقاضي الحكم بالمصادرة وهي الحالة التي يشير إليها الفصل 578 ق.ج كما يلي:" في جميع الحالات المشار إليها في الفصول 575-577 يحكم أيضا على مرتكبي الجريمة بمصادرة مبلغ يعادل حصتهم في المدخول الحاصل من الإنتاج أو العرض أو الإداعة غير المشروعة وكذلك مصادرة جميع الأدوات التي أقيمت خصيصا لهذا الإنتاج غير المشروع والأشياء المقلدة ونسخها وهذا في موضوع الاعتداءات على الملكية الأدبية والفنية.

ويظهر من خلال هذا الفصل أن المجرمين المعتدين على الملكية الأدبية والفنية يجب الحكم عليهم بالإضافة إلى الغرامة والحبس بعقوبة المصادرة.
والمصادرة تخضع لمبدأ تشخيص العقاب، وعلى هذا نص الفصل 45 بأن المصادرة لا تمس إلا الأشياء المملوكة للمحكوم عليه.
وإذا كان المال محل المصادرة مملوكا على الشياع بين المحكوم عليه والغير فإن المصادرة لا تنصب إلا على نصيب المحكوم عليه ويترتب عنها حتما القسمة أو التصفية عن طريق المزايدة.

ويباشر تفويت الأموال المصادرة من طرف إدارة الأملاك المخزنية حسب الإجراءات المقررة بخصوص أملاك الدولة.

3-    حل الشخص المعنوي:
لقد سبق أن  رأينا عند دراسة المسئولية الجنائية أنه لكي يكون الإنسان مسئولا
جنائيا يجب أن يكون له جسدا وعقلا وحرية وإرادة فيخرج بذلك عن هذه المسئولية الحيوان والشخصيات المعنوية بحيث أنه لا يجوز الحكم بالحبس على كلب مثلا يكون قد عض أحد الأشخاص، لكن مالكه يتعرض للحكم عليه بالغرامة، كما أن الشركة المكونة من أشخاص اعتباريين لا تتابع جنائيا في حالة ما إذا ارتكب خطأ قانونيا، وإنما المتابعة تقوم في حق المسئولين عن إدارتها أو مسيريها نظرا لكون الشخصية المعنوية لا إرادة ولا تمييز لها.

والفصل 47 من القانون الجنائي عرف عقوبة حل الشخص المعنوي  في أنها تتضمن منعه من مواصلة النشاط الاجتماعي ولو تحت اسم آخر وبإشراف مديرين آخرين.

ويترتب على هذه العقوبة تصفية أموال الشخص المعنوي ولا يحكم به إلا في الأحوال المنصوص عليها في القانون، وبنص صريح في الحكم بالإدانة.
وحل الشخص المعنوي هو منعه من مواصلة نشاطه الاجتماعي(كالشركة) ولو اتخذ اسما آخر أو مسيرين آخرين، أو مديرين ويؤدي ذلك إلى تصفية (البيع) أموال الشخص المعنوي.

العقوبات السالبة للحقوق
1- التجريد من الحقوق الوطنية:
حسب نص الفصل 26 من القانون الجنائي فإن التجريد من الحقوق يشمل:
-    عزل المحكوم عليه وطرده من جميع الوظائف العمومية، وكل الخدمات العامة.
-    حرمان المحكوم عليه من أن يكون ناخبا أو منتخبا، وحرمانه بصفة عامة من سائر الحقوق الوطنية والسياسية ومن حق التحلي بأي وسام.
-    عدم الأهلية للقيام بمهمة عضو محلف أو خبير، وعدم الأهلية لأداء الشهادة في أي رسم من الرسوم أو الشهادات أمام القضاء إلا على سبيل الإخبار فقط.
-    عدم أهلية المحكوم عليه لأن يكون وصيا أو مشرفا على غير أولاده.
-    الحرمان من حق حمل السلاح ومن الخدمة في الجيش والقيام بالتعليم أو إدارة أو مدرسة أو العمل في مؤسسة للتعليم كأستاذ أو مدرس أو مراقب. ويعاقب بالتجريد من الحقوق الوطنية، كل عامل أو باشا أو قائد أو حاكم إداري تدخل إما في عمل من أعمال السلطة التشريعية وذلك بإصدار نظم تتضمن نصوصا تشريعية أو بتعليل أو توقيف تنفيذ قانون أو أكثر.

وإما في عمل من أعمال السلطة القضائية بإصدار أمر أو نهي إلى المحاكم(الفصل238). فالتجريد من الحقوق الوطنية عقوبة أصلية جنائية سالبة للحقوق ومؤقتة.
إن هذه التدابير التي تشملها في نفس الوقت عقوبات وتدابير وقائية، الغاية منها أن يمنع أشخاص لا يتوفرون على الأهلية القانونية أو الأخلاقية من تولي بعض الوظائف العمومية والخصوصية.

فعندما يحكم بالتجريد الوطني كعقوبة أصلية فإنه يجوز أن تضاف إليه عقوبة الحبس لمدة يحددها الحكم بحيث لا تزيد عن خمس سنوات فإن لم يكن من الممكن الحكم بالتجريد من الحقوق الوطنية، إما لكون المتهم مغربيا سبق تجريده من هذه الحقوق وإما لكونه أجنبيا وجب الحكم عليه بالسجن من 5 إلى 10 سنوات (الفصل 27).

    2-  الحجز القانوني:
الحجز القانوني يحرم المحكوم عليه من مباشرة حقوقه المالية طوال مدة تنفيذ العقوبة الأصلية (الفقرة الأولى من الفصل 38).

أما الأفعال الغير المالية كإبرام عقد الزواج والاعتراف بولد طبيعي وكذا الأفعال
المالية التي لا تنتج أثرها القانوني إلا بعد انتهاء العقوبة كالوصية فيجوز قانونيا مباشرتها.
والحجز القانوني يسري أثره طوال مدة تنفيذ العقوبة الأصلية.
فإذا سقطت العقوبة الأصلية بطريقة أخرى كالعفو الشامل أو التقادم سقط أيضا بطريقة التبعية الحجز القانوني.

3-  الحرمان المؤقت من ممارسة بعض الحقوق الوطنية أو المدنية أو العائلية:
تعتبر هذه العقوبة الإضافية نوع مخففا من التجريد من الحقوق الوطنية وهي مؤقتة واختيارية ، وقابلة للتجزئة.

وتنفذ عقوبة الحرمان الإضافية ابتداء من اليوم الذي يصبح فيه الحكم غير قابل للطعن متى كانت العقوبة الجنحية الأصلية غرامة.
ولا تحسب إلا ابتداء من اليوم المحكوم فيه نهائيا فيما إذا كانت العقوبة الأصلية هي الحبس.

ويجوز للمحاكم في الحالات التي يحددها القانون، إذا حكمت بعقوبة جنحية أن تحرم المحكوم عليه لمدة لا تتجاوز 10 سنوات، من ممارسة حق أو عدة حقوق من الحقوق الوطنية أو المدنية أو العائلية المنصوص عليها في الفصل 26.



4-    الحرمان النهائي أو المؤقت من المعاشات التي تصرفها الدولة:
كل حكم بالإعدام أو السجن المؤبد يتبعه حتما الحرمان النهائي من الحق في المعاش والذي تصرفه الدولة ويطبق هذا الحرمان بحكم القانون، دون حاجة للنطق به في الحكم (الفصل 41).

    أما الحكم الصادر بعقوبة جنائية غير العقوبتين المنصوص عليهما في الفقرة السابقة فيجوز أن يتضمن النص على الحرمان المؤقت من الحق في المعاش طوال مدة تنفيذ العقوبة.

    والحرمان النهائي من الحق في المعاش لا يسري على المحكوم عليه فقط بل أيضا على عائلته بينما الحرمان المؤقت يمكن أن يكون جزئيا إذا كان للمحكوم عليه زوجة أو أبناء قاصرين.

5-    نشر الحكم الصادر بالإدانة:

الغاية من نشر بعض الأحكام هي تحقيق التعويض عن الأذى المعنوي أو الفضيحة اللذين نشئا من تصرف الفاعل أو المسبب للجريمة ويتم نشر الحكم إما بإدراجه بالصحف أو بإعلانه بأماكن معينة.

    ويجوز الحكم بهذه العقوبة الإضافية "الشائنة" في كافة المواد الجنائية أو الجنحية والضبطية ويشترط لذلك التنصيص عليها.
   
ونشر الحكم إما أن تكون له صفة العقاب  كما في حالة ارتكاب جرائم رفع الأسعار في المواد الغذائية وغيرها حسبما نص عليه الفصل 291 الذي أمر القاضي بأن يأمر بنشر الحكم وإلصاقه.
   
أو أن تكون له صفة الإصلاح كجرائم إهانة أحد رجال القضاء أو أحد الموظفين العموميين (الفصل 264) ففي هذه الحالة يجوز لمحكمة القضاء أن تأمر بنشر حكمها وإعلانه بالطريقة التي تحددها.

والنشر يكون على نفقة المحكوم عليه بشرط ألا تتجاوز النفقات الحد الأقصى للغرامة المقررة في الفقرة الأولى من الفصل 236.


المطلب الثالث : أسباب تخفيف وتشديد العقوبة.

    أولا: أسباب التخفيف من العقوبة

أسباب الإعفاء أو التخفيف من العقاب هي ظروف تؤثر في الجريمة، تؤدي بالقاضي إلى الامتناع عن تطبيق العقوبة أو النزول بها إلى ما دون الحد الأدنى المنصوص عليه في القانون وهي قسمين:

1-    الأعذار القانونية المعفية أو المخففة من العقاب.

2-    والظروف المخففة للعقاب.

وتتخذ الظروف المخففة القضائية مع الأعذار المعفية أو المخففة من العقاب من حيث ما يترتب على النوعين من تخفيف العقاب، لكنهما يختلفان من حيث أن القانون لم يحصر ظروف التخفيف كما نص على الأعذار القانونية، فالظروف القضائية المخففة متروكة لتقدير القاضي، وهو عندما يأخذ بظروف التخفيف يكون معفى من بيان الأسباب التي دعته للرأفة.

أ‌-    تعريف الأعذار القانونية:

حسب نص الفصل 143 فإن (الأعذار هي حالات محدودة في القانون على سبيل الحصر يترتب عليها، مع ثبوت الجريمة وقيام المسؤولية أن يتمتع المجرم إما بعدم العقاب، إذا كانت أعذار مخففة، وإما بتخفيض العقوبة، إذا كانت أعذارا مخففة).

1.    الأعذار المعفية من العقاب:

الفصل 145 يترتب على الأعذار المعفية منح المؤاخذة الإعفاء من العقاب، غير أن القاضي يبقى له الحق في أن يحكم على المعفى بتدابير الوقاية الشخصية أو العينية ما عدا الإقصاء.

وأغلب الأعذار المعفية من العقاب يقوم على اعتبارات نفعية بالنسبة للمجرم، وهي بمثابة مكافآت اقتضتها مصلحة الدولة العليا كتشجيع وثواب لمن يكنون للدولة ونظام الأمن الولاء والطاعة.
فالفصل 211 يقرر أنه (يتمتع بعذر معف من العقوبة، طبقا للشروط المقررة في الفصول 143 إلى 145 من أخبر من الجناة، قبل غيره السلطات المشار إليها في الفصل 209 بجناية أو جنحة ضد سلامة الدولة وبفاعليها أو المشاركين فيها، وذلك قبل أي تنفيذ أو شروع في التنفيذ.

وهناك أعذار أخرى معفية من العقاب تقوم على اعتبارات متصلة بفكرة العدالة وبانتفاء الضرر كمضمون الفصول 225 و 285 الخاص بإساءة استعمال الوظيفة بناء على أوامر وتوجيهات الرؤساء والفصل 298 الخاص بإخفاء مجرم ظهرت براءته فيما بعد والفصل 355 الذي يعفي من العقاب من كان قد أدلى، بصفته شاهدا أمام العدل، بتصريح مخالف للحقيقة ثم عدل عنه قبل أن يترتب على استعمال المحرر أي ضرر للغير وقبل أية متابعة ضده.

وينبغي تمييز الأعذار المعفية عن:

-    الأسباب المبررة التي تمحو الجريمة كالفعل الذي أوجبه القانون أو الاضطرار المادي أو الدفاع المشرع المنصوص عليه في الفصلين 124 و 125.

-    الحالات التي يكون فيها الفاعل خاضعا للملاحظة ولكنه غير خاضع للعقوبة.

-    الحالات التي تكون فيها الجريمة قائمة ويكون الفاعل في منجى من العقوبة وحتى من الملاحظة.

وهذه الأسباب الأخيرة توجب قبول سماع الدعوى العامة لارتباط تلك الأسباب باعتبارات عائلية أو باعتبارات خاصة بالعدالة كمضمون الفصلين 297 و 299 المتعلقين بمساعدة المجرم من قبل أحد أقاربه، والفصل 378 المتعلق بامتناع أحد أقارب المجرم عن الشهادة لمصلحة شخص بريء والفصل 475 الخاص بخطف الفتاة الذي يعقبه الزواج والفصل 227 الذي يبطل مسؤولية موظف أبلغ سلطته العليا عن تنفيذ أوامر باعتقال تعسفي غير مشروع.

2.    الأعذار المخففة من العقاب:

لا يترتب على الأعذار المخففة بخلاف الأعذار المعفية سوى تخفيف مسؤولية الجاني وتنزيل عقوبته.

فالمحكمة المختصة بالنظر في الجناية يمكنها متابعة الحكم حتى ولو أصبح يعاقب على هذه الجناية بعقوبة الجنحة بسب عذر مخفف.

فبعض الأعذار المخففة لها عامل نفعي كما هو الشأن بالنسبة للأعذار المعفية. وكما هو منصوص عليه في الفصل 440 المتعلق بالجاني الذي يضع حدا للاحتباس والاحتجاز من تلقاء نفسه.

وهناك عذر مخفف آخر وهو العذر الناتج عن الاستفزاز الذي يمكن تعليله في أن الشخص الذي تم استفزازه قد اضطرب عقله وأعطبه الغضب الشيء الذي يؤدي به إلى عدم التحكم في السيطرة على نفسه وبذلك نقل مسؤوليته ثم إن الشخص الذي يقوم بالاستفزاز قد يرتكب هو نفسه خطأ يوازي نسبيا خطأ رد الفعل عند الشخص المستفَز.

والفصل 416 يقرر أنه يتوفر عذر مخفض للعقوبة، إذا كان القتل أو الجرح أو الضرب قد ارتكب نتيجة استفزاز ناشيء عن اعتداء بالضرب أو العنف الجسيم على شخص ما.

ومن الجائز تمييز الأعذار المخففة الشخصية عن الأعذار المخففة العينية، فالأعذار الشخصية هي أعذار القصور، أو الأعذار التي يستفيد منها الزوج نتيجة استعماله العنف أو لجوئه إلى القتل عن مباغثته لزوجته وعشيقها متلبسين بجريمة الخيانة الزوجية.
أما الأعذار العينية فهي كالقتل المقترف نتيجة ضرب وعنف وقعا على القاتل أو كالقتل أو العنف الواقعين دفعا لتسلق أو كسر حواجز واقعين نهارا والقتل الواقع فور نتيجة هتك عرض بالقوة.

والفصل 130 قرر أن الظروف الشخصية المخففة لا تؤثر إلا بالنسبة لمن تتوفر فيه تلك الظروف وإن الظروف العينية تنتج مفعولها بالنسبة لجميع المساهمين أو المشاركين.

ب‌-    الظروف القضائية المخففة:

تعتبر الظروف القضائية المخففة من أسباب الرأفة بالجاني، ومن هذه الظروف ما يتعلق بالجريمة كضعف أثرها وقلة الضرر الحاصل منها، والظروف التي تحيط بها، والكثير من هذه الظروف يرجع إلى شخص المرتكب كحداثة سنه (في غير الأحوال التي يعتبر فيها صغر السن عذرا قانونيا)، وكذلك الشيخوخة، والبواعث ****، وماضي المرتكب. والقاضي عند أخذه بظروف التخفيف يكون معفى من بيان الأسباب التي أدت به إلى الرأفة بالجاني.

ولذلك منح الظروف المخففة أمر موكول لتقدير القاضي.

وينتج عن منح الظروف المخففة تخفيف العقوبات المطبقة، ومفعولها شخصي وقاصر على ذات المحكوم عليه الذي رأت المحكمة منحه حق الاستفادة من تلك الظروف.

وقد أصبحت ف الوقت الحالي كافة التشريعات المانعة لمنح الظروف المخففة ملغاة بالظهير المؤرخ في 10 غشت 1952، كما أن الفصل 18 من الظهير المؤرخ في 21 يوليوز 1923 الخاص بضابطة الصيد قد عدل بالظهير المؤرخ في 30 يونيو 1962.

آثار الظروف القضائية المخففة:

تبقى الآثار التي تحدثها الظروف المخففة خاضعة لأحكام النصوص والفصول 147 إلى 151 التي تعدد العقوبات الجديرة بالتطبيق بعد الإسعاف بالظروف المخففة.

1 - العقوبات الجنائية:

-    تبدل عقوبة الموت بعقوبة السجن المؤبد

-    وعقوبة السجن المؤبد بالسجن من عشر إلى 30 سنة.

-    عقوبة السجن من 20 إلى 30 سنة بعقوبة سجن متراوحة بين خمس سنوات وعشرين سنة.

-    وإذا كان حد العقوبة الأدنى السجن 10 سنوات، فللمحكمة الحكم بالسجن من 5 إلى 10 سنوات أو بالحبس من سنتين إلى 5 سنوات.

-    وإذا كان الحد الأدنى السجن 5 سنوات، فللمحكمة الحكم بالحبس من سنة واحدة إلى 5 سنوات.
-    وإذا كانت العقوبة المقررة مصحوبة بغرامة فإن لمحكمة الجنايات تخفيض تلك الغرامة حتى مائة وعشرين درهما ولها أن تمحوها.

-    وإذا كانت العقوبة المقررة في القانون هي الإقامة الإجبارية فإن القاضي يحكم بالتجريد من الحقوق الوطنية، أو الحبس من ستة أشهر إلى سنتين.

-    وإذا كانت العقوبة المقررة هي التجريد من الحقوق الوطنية، يحكم القاضي إما بعقوبة الحبس من ستة أشهر إلى سنتين أو بالحرمان من بعض الحقوق المشار إليها في الفصل 26.

-    وإذا حل الحبس محل عقوبة جنائية وذلك نتيجة الأخذ بظروف التخفيض فللمحكمة أن تضيف على عقوبة الحبس غرامة متراوحة بين 120 و 1200 درهم وحرمان المحكوم عليه من الحقوق المنصوص عليها في الفقرتين الأولى والثانية من الفصل 16
(العزل من جميع الوظائف العمومية، والحرمان من الحقوق الوطنية والسياسية ومن حق التحلي بالأوسمة) وكذا المنع من الإقامة لفترة متراوحة بين خمس وعشر سنوات.

2 – العقوبات الجنحية :

-    فيما يتعلق بالجنحة التأديبية لقد نص الفصل 149 على إمكان تنزيل عقوبتها إلى ما دون الحد القانون الأدنى على أن لا تقل مدة الحبس عن شهر واحد ومقدار الغرامة عن 120 درهما. وعلى أن حق التنزيل مباح  للقاضي حتى في حالة العود.

وأما بشأن الجنحة الضبطية فقد أجاز أيضا الفصل 150 التنزيل على أن لا تقل مدة الحبس عن ستة أيام والغرامة عن إثني عشر درهما.
وطبقا للفقرة الثانية من هذا الفصل فإنه يمكن باستثناء الجنح التأديبية الحكم بإحدى عقوبتي الحبس والغرامة على أن لا يقل مقدار الغرامة على الحد الأدنى المقرر للمخالفة، البالغ خمس دراهم.

-    وإذا حلت الغرامة محل الحبس فإن الحد الأقصى لها هو 5000 درهم، ويبدو أن الحد الأدنى المقرر لها هو حد الغرامة الجنحية الأدنى ومقداره 200 درهم.

3 – عقوبات المخالفات :

    نص الفصل 151 على أنه إذا تبين للقاضي توفر الظروف المخففة يستطيع أن ينزل بعقوبة الاعتقال والغرامة إلى الحد الأدنى لعقوبة المخالفات المقررة في القانون، ويجوز له أن يحكم باتلغرامة عوضا عن الاعتقال في الحالة التي يكون فيها الاعتقال مقررا في القانون.

ثانيا : أسباب تشديد العقوبة :

    ينص الفصل 152 من القانون الجنائي على أن (تشديد العقوبة المقررة في القانون بالنسبة لبعض الجرائم، ينتج عن ظروف متعلقة بارتكاب الجريمة أو بإجرام المتهم).

    ويحدد القانون ظروف التشديد المتعلقة بجنايات أو جنح معينة (الفصل 153).

    فظروف التشديد تستلزم زيادة في العقوبات وهي ظروف فرعية تابعة للفعل الأصلي، بخلاف الظروف المخففة المعينة حصرا في القانون.

    وينبغي تمييز الظروف المشددة عن العناصر المكزنة للجريمة، فإذا كانت نية القتل أو السرقة منتفية فلا جريمة قتل ولا سرقة طالما أن هذا العنصر المكون مفقود، وبالعكس من ذلك فإن سبق التصميم الذي يزيد في خطورة السرقة فإنها تضاف إلى الجريمة دون أن تغير من طبيعتها بالرغم من أن هناك بعض حالات خاصة تغير فيها الظروف المشددة من نوع الجريمة.

    ومن الأفعال ما تشكل تارة عنصرا من عناصر تكوين الجريمة، وتارة أخرى ظرفا مشددا للعقوبة مثل جريمة هتك العرض بحيث يكون سن الضحية فيها إذا كان دون الخامسة عشر عنصرا للجريمة إذا لم يكن مصحوبا بعنف ويكون ظرفا مشددا إذا استعمل فيها العنف.

    والظروف المشددة تكون إما عينية أو شخصية.

    فالظروف العينية هي التي تلحق بفعلة الجريمة، فهي تتصل بالعمل المادي كحالة السرقة المصحوبة بكسر أو تسلق أو حمل سلاح ...إلخ.

    والظروف المشددة الشخصية هي التي تتصل بشخصية الفاعل فالعمد في جريمة القتل يتجلى فيه خطر الفاعل ونيته الإجرامية الناتجة عن تفكيره بالإعداد لها وارتكابها.

والفائدة من التمييز بين الظروف المشددة العينية والظروف المشددة الشخصية هو أن المساهمين والمشاركين في ارتكاب جريمة تتصف بتشديد أسبابها المادية يتحملون جميعهم العقوبة المشددة لأنهم أبدوا إرادتهم جميعهم في ارتكاب الجريمة في مختلف ظروفها المادية ولو كانوا يجهلونها أما المساهمون والمشاركون في ارتكاب جريمة تتميز بظرف مشدد شخصي، فإنهم لا يقعون تحت طائلة التشديد وإنما يتحمل ذلك الشخص الذي ينطبق عليه هذا الظرف.

فقد نص الفصل 130 من القانون الجنائي على أن الظرف المشدد الشخصية لا تؤثر على المشارك والمساهم.

أما الظروف المشددة العينية فتنتج مفعولها بالنسبة لجميع المساهمين أو المشاركين في الجريمة ولو كانوا يجهلون تلك الظروف.

والظروف المشددة العينية أي التي تلتصق بفعلة الجريمة تقوم على عدة اعتبارات منها :

أ – الوسيلة المستعملة : كحمل السلاح من طرف السارق أو استعمال مفاتيح مزورة لارتكاب السرقة الذي يعاقب مرتكبها بالسجن من 10 إلى 20 سنة بمقتضى الفصل 509.

ب – الإجراءات العملية المتخذة : كسبق الصرار أو الترصد الذي يجعل من جريمة القتل المعاقب عليها بالسجن المؤبد جريمة اغتيال يعاقب مرتكبها بالإعدام طبقا للفصل 393، كما أن حالة سبق الإصرار أوالترصد أو استعمال السلاح تضاعف الحد الأقصى لعقوبة الحبس من سنة إلى سنتين في حق من ارتكب عمدا ضد غيره جرحا أو أي نوع آخر من العنف أو الإيذاء طبقا لما ينص عليه الفصل 400 من القانون الجنائي المغربي. وكذلك الأمر بالنسبة لما ينص عليه الفصل 509 الذي يعاقب على ارتكاب السرقة التي تقترن بظرفين على الأقل من الظروف المشار إليها في الفقرة الثانية منه.

ج – مكان الجريمة : كحالة إهانة أحد رجال القضاء الواقعة بالمحكمة أثناء الجلسة حيث أن العقوبة تكون أشد بمقتضى الفصل 263.

د – زمن ارتكاب الجريمة : كما في حالة السرقة (نفس الفصل 509) المرتكبة ليلا التي يتعرض مرتكبها إلى عقوبة السجن من 10 إلى 20 سنة لأن المشرع اعتبر الليل مسهلا لارتكاب هذا النوع من الجرائم.

هـ- تعدد الجناة : كموضوع جريمة العصيان التي يعاقب المساهمون فيها إذا كانوا أكثر من شخصين بعقوبة أشد كما يشير إلى ذلك الفصلان 301 و 302.

و – جسامة الضرر: كما في حالة الضرب والجرح العمد حيث أن الحد الأقصى لعقوبة مرتكبها تتراوح من سنتين إلى 3 سنوات حبسا، ويصل 10 سنوات سجنا.

ز – شخص الضحية : كحالة جرح أو ضرب بكيفية عمدية طفلا دون الثانية عشر من عمره، أو حرمانه من التغذية ... إلخ (الفصل 408).

والظروف المشددة العينية أشير إليها في الكتاب الثالث من مجموعة القانون الجنائي المغربي.

ولندرس الآن الظروف المشددة المتصلة بشخصية الفاعل وهي الظروف الشخصية.

فهذه الظروف منها ما يتعلق بالأصول، كحالة قتل الأبناء التي يعاقب فيها القاتل بعقوبة الإعدام حسب نص الفصل 396.

والظروف المشددة الشخصية أقل عددا من الظروف المشددة العينية وتشابه الظروف العينية، الظروف المختلطة المتميزة بالطابع العيني والشخصي والتي تغير بحكم ارتباطها بالجريمة طبيعتها وناحية التجريم فيها، كصلة القربى كون صفة الفاعل موظفا عاما، أو خادما.وعندما تتغير طبيعة العقوبة بنتيجة الاخذ بالأسباب المشددة بتغيير نوع الجريمة (الفصل 113) فالسرقة العادية مثلا وهي نوع من الجنحة التأديبية تصبح من نوع الجناية إذا ما صاحبتها أسباب مشددة محددة في الفصل 507 وتصبح من اختصاص محكمة الجنايات.


الـــعــــود

إن مدلول لفضة العود يفيد السقوط ثانية أو الانتكاس وهي تعبير عن حالة شخص سبق أن صدر بحقه حكم غير قابل للطعن من أجل جريمة ارتكلبها، ثم عاد فارتكب جريمة أخرى.

ويقرر الفصل 154 أنه (يعتبر في حالة عود، طبقا للشروط المقررة في الفصول التالية، من يرتكب جريمة بعد أن حكم عليه بحكم حائز لقوة الشيء المحكوم به من أجل جريمة سابقة)

والعود ليس بالظرف المشدد الذي لا يتبدل، فهو سبب لتشديدالعقوبة يتصف بطابعه الشخصي المحض.


وسندرس الشروط العامة للعود التي ينص عليها القانون المغربي

فالعود يقتضي شرطين، الشرط الأول الحكم بعقوبة جزائية اكتسبت قوة الشيء المحكوم به والشرط الثاني جريمة جديدة مستقلة عن الجريمة الأولى المحكوم بها سابقا.

أ – ففيما يتعلق بالشرط الأول فإنه يشترط وجود حكم جزائي بعقوبة، وهذا ما يستبعد تدابير التهذيب والإصلاح المتخذة بشأن القاصرين وفقا للفصلين 514 و 516 من قانون المسطرة الجنائية.

ويجب أن يكون الحكم صادرا عن القضاء المغربي، إلا أن الفصل 762 منت قانون المسطرة الجنائية أباح الأخذ بمفعول حكم صادر عن قضاء أجنبي إذا كانت الجريمة المحكوم من أجلها معاقب عليها في القانون المغربي وأمر الاختيار عائد للقاضي.

ولا عبرة في الأصل لطبيعة الجريمة غير أن الفصل 160 أوضح أن من سبق الحكم عليه من المحكمة العسكرية من أجل جناية أو جنحة معاقب عليها بالقوانين الجزائية العادية (وهذا يستبعد الجرائم العسكرية المحضة كالهرب من الجندية والعصيان وعدم الانصياع للأوامر وإهانة الرؤساء...)

وإذا كانت العقوبة الوحيدة المحكوم بها من قبل المحكمة العسكرية قابلة لأن تطبق على الجرائم العسكرية والجرائم العادية معا، (مثل السرقة والهرب من الجندية) ففي هذه الحالة يبدو لنا أن يؤخذ بمفعول الازدواج وبتطبيقه على العود.

ويشترط أيضا أن يكون الحكم غير قابل للطعن أي أن تكون مدد الطعن فيه منقضية وكافة طرق المراجعة القانونية بشأنه منتهية نافذة.

ولا أهمية لكون العقوبة قد نفذت بحق المحكوم عليه أولا. فالعفو والتقادم لا يمحيان الحكم في حين أن الحكم يمحي أن الحكم يمحي معه آثارا بالعفو العام وإعادة الاعتبار وإيقاف التنفيذ عند انقضاء مدة التجربة.

ب – الشرط الثاني : تكون الجريمة الجديدة وكذلك الجريمة السابقة، معاقبا عليها بالقانون الجنائي أو بقانون خاص، ومعظم النصوص المتعلقة بجرائم خاصة قد حددت أساسا قواعد العود الجديرة بكل جريمة منها.

ولإيضاح حالة العود وتعيين مدى التشديد الناشئ عند العقوبة فقد ميز القانون الجنائي طبيعة الجلرائم وطبيعة العقوبات المحكوم بها والخاضعة للتطبيق.

وتختلف شروط العود الخاصة فيما يتعلق بالقضايا الجنائية والجنحية وقضايا المخالفات.

1 - في القضايا الجنائية :

نص الفصل 155 من ارتكب جناية ثانية من أي نوع كان بعد الحكم عليه بعقوبة جنائية بحكم حائز لقوة الشيء المحكوم به يعاقب حسب تفصيلات مشار إليها في نفس الفصل.

وييشير الفصل 156 إلى الحالة التي يكون فيها شخص قد حكم عليه من أجل جناية بعقوبة تزيد عن سنة حبس واحدة، ثم ارتكب جريمة (جناية أو جنحة) معاقبا عليها بالحبس مهما كان مقداره فإن عقوبته يجب أن تعادل الحد الأقصى لعقوبة الحبس هذه ويجوز أن تبلغ ضعفها كما يجوز عليه، علاوة بالمنع من الإقامة.

2 - في القضايا الجنحية :

يشير الفصل 157 إلى حالة المحكوم عليه من أجل جنحة بعقوبة الحبس وارتكب بعد ذلك نفس الجنحة.

فإذا ارتكبت هذه الجنحة قبل مضي 5 سنوات من تمام تنفيذ العقوبة أو تقادمها فإن مرتكبها يعد في حالة العود.

وتعد جنحا متماثلة لتقرير العود، الجرائم المجموعة في كل فقرة من الفقرات التالية للفصل 158 من ق.ج.

أ- السرقة والنصب وخيانة التوقيع على بياض وإصدار شيك بدون رصيد والتزوير واستعمال الأوراق الزورة والتفالس بالتدليس وإخفاء الأشياء المتحصلة من جناية أو جنحة.

ب- القتل الخطأ والإصابة خطأ وجنحة الهروب عقب ارتكاب الحادث.

ج- هتك العرض بدون عنف والاخلال العلني بالحياء واعتياد التحريض على الفساد والمساعدة على البغاء.

د- العصيان والعنف والإهانة اتجاه رجال القضاء والأعضاء المحلفين  أو رجال القوة العمومية.

3 - في قضايا المخالفات :

ينص الفصل 159 على أن (من سبق الحكم عليه من أجل مخالفة ثم ارتكب نفس المخالفة خلال فترة إثني عشر شهرا من النطق بحكم الإدانة الذي صار حائزا لقوة الشيء المحكوم به يعاقب بعقوبات العود المشددة في المخالفت طبق مقتضيات الفصل 611.

فهذا العود خاص ووقتي وآثاره تختلف تبع لكون المخالفات من الدرجة الأولى أو من الدرجة الثانية.
ففي الأولى المعاقب عليها بالاعتقال والغرامة يمكن رفع العقوبة إلى الضعف (30 يوما و240 درهما، الفصل 611).

أما في الثانية التي لا تعاقب إلا بالغرامة فيجوز رفع حد الغرامة الأقصى إلى الضعف 120 درهما ويجوز علاوة الحكم بالاعتقال لمدة 6 أيام.

تـــــعدد الـجرائــم

لقد مر بنا عند دراسة حالة العود إلى ارتكاب الجريمة أن الشخص لكي يقع تحت طائلة هذه الظروف المشددة ويعاقب يجب أن يكون قد تم الحكم عليه بحكم حائز لقوة الشيء المحكوم به ولكن هذا الشخص يمكن أن يرتكب عدة جرائم، عدة سرقات مثلا من غير أن تقع متابعته أو يحاكم على أحدها.
وتعدد الجرائم على نوعين :

-    تعدد الجرائم المادي.

-    تعدد الجرائم المعنوي.

أ- تعدد الجرائم المادي :

هذا النوع من التعدد يوجد إذا أقدم الفاعل على ارتكاب عدة جرائم قبل أن يحاكم من أجل واحدة منها. وتكون هذه الجرائم من طبيعة واحدة كما لو ارتكب عدة سرقات أو من طبيعة مختلفة في حالة ما إذا ارتكب جريمة ضرب وجرح، وسرقة، وجريمة أخلاقية

-    أولهما أن يرتكب شخص واحد جريمتين أو أكثر

-    وثانيهما أن لا يكون قد صدر عليه حكم من أجل جريمة ما.

ب- تعدد الجرائم المعنوي :

ففي هذه الحالة لا يوجد إلا فعل واحد له عدة أوصاف، كجريمة السرقة بواسطة الكسر بحيث أن السرقة جريمة والكسر يكون جريمة أخرى أذا لم يكن مرافقا للسرقة، وكذلك هتك العرض المرتكب على شخص قاصر سنه دون الخامسة عشر.

ويقرر الفصل 118 على أن الفعل الواحد الذي يقبل أوصافا متعددة يجب أن يوصف بأشدها.

وقد ميز الفصلان 118 و 119 موضوعين :

الأول : موضوع الفعل الواحد الذي يقبل أوصافا متعددة.

الثاني : موضوع الجرائم المتعددة المرتكبة من شخص واحد.

ففي الحالة الأولى : يجب أن يوصف فيها الفعل بأشد الأوصاف المتعددة الواردة.

أما في الحالة الثانية : فقد بحث الفصلان 120 و 121 أمر ضم العقوبات أو عدمه.

المـــبحـث الثانــي : التدابـيـر الوقائيــة.

المطلب الأول : نظرة حول التدابير الوقائية.

منذ القرن الثامن عشر لم تكن العقوبة سوى جزاء يفرضه الشارع على مرتكبي الجرائم وكان القاضي ولا يزال في بعض الدول ينصب جهده على نظر القضايا والتثبت من توفر شروط العقاب من غير اعتبار لشخصية الجاني، ولا ملابسات الجريمة، فتنفذ عليه العقوبة ويبقى في محبسه منبوذا إلى نهاية مدة اعتقاله وكان يعود إلى المثول أمام القاضي غالبا بعد خروجه من السجن ليدخل إليه من جديد. ذلك لأن الغاية المتوخاة من العقاب كانت مفقودة فبدلا من العناية بإصلاح السجين وتهذيبه كان يعامل كمجرم شرير لا فائدة من إصلاحه، إلا أن أئمة علم العقاب تنبهوا إلى ضرورة إيجاد وسائل أخرى بجانب العقوبة لتحقيق أغراض العقاب.

وهذه الوسائل هي ما يسمى بالتدابير الوقائية، والمقصود منها الاحتياط. من شرور طائفة المجرمين تمادت في الإجرام وأطلقتلنفسها عنان الشر، كما أريد منها تأديب الاحداث بتعويدهم على أحسن الأخلاق وتعليمهم، أو علاج ذوي العقلية في مصحات أعدت لهم.

وأول من أضاف نظام التدابير الوقائية إلى التشريع الجنائي المشرع الإسباني في سنة 1928 بفرض حماية المجتمع، ثم أخذ بها القانون الإيطالي مع شيء من التوسع سنة 1930، ثم مشروع القانون الفرنسي الذي وضع سنة 1933، وغيرها من التشريعات الحديثة.

وقد برزت قيمة هذه التدابير من ناحية الإصلاح الإجتماعي أقوى من مجرد إيقاع العقاب بالمجرم، وهذه التدابير الواقية يتيسر بتوقيعها تجنب خطر المجرمين المعتادين، وإنصاف المجانين أو أضعاف الإدراك والمدمنين على الخمور والمخدرات وغيرها، وهذا يكون باتخاذ طرق خاصة تنفذ على كل مجرم تبعا لحالته وظروفه ونوع إجرامه. والقضاء هو الذي يقوم بتوقيع هذه التدابير سواء لمناسبة وقوع الجريمة أو بالنسبة لبعض الأشخاص.

وتسمية التدابير الوقائية جديدة في المغرب، فلم ترد لا في القانون الجنائي الصادر في 24 أكتوبر 1953 ولا في القانون الجنائي الذي كان مطبقا لدى المحاكم العصرية في المنطقة الجنوبية سابقاولا في تشريع المنطقة الشمالية سابقا الصادر سنة 1914، ولا في القانون الجنائي لمنطقة طنجة.

والتدابير الوقائية هي تدابير فردية زجرية لا ترمي إلى فرض عقاب على مجرم تثبت مشؤوليته، بل إلى تأمين حماية المجتمع ضد فرد نظرا لخطورته والسعي في إعادة تربيته ليعود إلى حظيرة المجتمع، فلها في آن واحد دورا وقائيا وآخر شفائيا.

المــــطلــب الــثانــي : أنواع التدابير الوقائية

لقد سبقت الإشارة في بداية الكلام عن التدابير الوقائية أنها تدابير فردية زجرية لا ترمي إلى فرض عقاب على مجرم تثبت مسؤوليته كما هو الشأن بالنسبة للعقوبات، وإنما تهدف إلى تأمين حماية المجتمع من بعض الأفراد الخطرين، ولهذا فإن تصنيفها لا يكون مماثلا تصنيف العقوبات.

لكن على من وعلى ماذا تطبق هذه التدابير؟

إن الإجابة على هذا السؤال تفضي بنا إلى التمييز بين التدابير الوقائية الشخصية التي تضمن حماية المجتمع من خطر بعض الأفراد.

أ – كالمجرمين المعتادين أو العائدين للإجرام الذين لم تنفع معهم وسائل الإصلاح.
ب- المصابين بأمراض عقلية والمجانين، والمتعاطين للمخدرات والمصابين بالتسمم.
ج- المجرمون الأحداث الذين يتطلب الأمر إعادة تربيتهم ومساعدتهم بوسائل الإصلاح.

والتدابير الوقائية العينية – وهي التدابير المنصوص عليها في الفصل 62 من مجموعة القانون الجنائي المغربي – هي التي تطبق على الأشياء التي لها علاقة بالجريمة أو الأشياء الضارة أو الخطيرة أو المحظور امتلاكها، كبعض حانات الخمر التي يرتادها بعض المجرمين والتي تدعو الضرورة إلى غلقها.

وتختلف التدابير الوقائية حسب هدفها :
-    البعض منها يهدف إلى التحكم في المجرمين العائدين.
-    وبعضها يهدف إلى الإصلاح كما هو الشأن بالنسبة لمدمني المخدرات، والمصابين بالتسمم الذين يتطلب الأمر علاجهم.
وهناك تدابير أخرى تهدف إلى تأمين المساعدة أو الوصاية على الأحداث. والتدابير الوقائية التي عينها القانون الجنائي المغربي حسب الفصلين 61 و 62 :

التدابير الشخصية وهي :
1 –  الإقـصاء.
2 –  الإجـبار على الإقامة بمكان معين.
3 –  المنع من الإقامة.
4 –  الإيداع القضائي داخل مؤسسة لعلاج الأمراض العقلية.
5 – الوضع القضائي داخل مؤسسة للعلاج.
6 – الوضع القضائي في مؤسسة فلاحية.
7 – عدم الأهلية لمزاولة جميع الوظائف أو الخدمات العمومية.
8 – المنع من مزاولة مهنة أو نشاط أو فن سواء كان ذلك خاضعا لترخيص إداري   أم لا.
9 – سقوط الولاية الشرعية على الأبناء.



التدابير الوقائية العينية وهي :

1-    مصادر الأشياء والأدوات التي لها علاقة بالجريمة أو الأشياء الضارة أو الخطيرة أو المحظور امتلاكها.
2-    إغلاق المؤسسة أو المحل الذي استغل في ارتكاب الجريمة.

أولا : التدابير الوقائية الشخصية:

 * التدبير الوقائي الوحيد السالب للحرية :

1- الإقصاء :
يوجد من بين المحكوم عليهم بارتكاب جرائم أشخاص يشكلون خطرا على النظام الاجتماعي، ومن هؤلاء المجرمين المعتادين الذين يعودون لارتكاب الجرائم باستمرار، والمجرمين والمنحرفين الذين ليس لهم أي استعداد لمزاولة أي عمل مشروع.

وهؤلاء الأشخاص يعتبرون من الذين لا تنفع معهم وسائل الإصلاح لذا فإنه يصبح من الضروري اتخاذ تدابير تقي المجتمع من شرورهم المؤذية.

وقد أشرنا إلى جملة من التدابير الوقائية وأشدها أثرا على المجرم هو تدبير الإقصاء، وهو تدبير سالب للحرية. والقانون الجنائي المغربي عرف تدبير الإقصاء بالفصل 63 كما يلي :

" الإقصاء هو إيداع العائدين الذين تتوفر فيهم الشروط المبينة في الفصلين 65 و 66 داخل مؤسسة للشغل ذات نظام ملائم لتقويم الانحراف الاجتماعي."

والإقصاء لا تحكم به إلا المحاكم العادية دون غيرها من المحاكم الخاصة أو الاستثنائية (الفصل 64) وعلى هذا، فإن الحكم بالإقصاء عائد للمحكمة الابتدائية بالرغم من أن مدته تتراوح بين 5 و 10 سنوات، وذلك أنه ليس بالعقوبة، ولا ينطبق عليه تحديد الاختصاص المشار إليه في الفصل 252 من المسطرة الجنائية، وهو عائد أيضا إلى المحاكم الاستئنافية ولا يمكن أن يكون تابعا لاختصاص محكمة عسكرية أو مجلس أعلى.

ويجد الحكم مدة الإقصاء التي لا يسوغ أن تقل عن 5 سنوات أو تزيد عن 10 سنوات ابتداء من اليوم الذي ينتهي فيه تنفيذ العقوبة.

فالسارق العائد المحكوم عليه من طرف المحكمة بأربع سنوات حبسا لأجل السرقة و 5 سنوات إقصاء، فإنه يقضي عقوبة الحبس أولا، - وبانتهائها يشرع في تنفيذ مدة الإقصاء التي يحكم بها عليه والتي هي 5 سنوات.

وتقرر الفقرة الأخيرة من الفصل 63 من القانون الجنائي أن المحكوم عليه الذي تبدو علامات صادقة تفيد أنه قد استقامت حالته يجوز أن يمنح الإفراج المقيد بشروط طبق الترتيبات المنصوص عليها في الفصل 663 إلى 672 من القانون الجنائي المغربي.

والإقصاء يكون إلزاميا ويتعين على القاضي أن يحكم به متى توفرت شروطه،  وحسب الأحوال المنصوص عليها في الفصل 65 و 57 ويكون اختياريا في الحالات المنصوص عليها في الفصل 66.

حالات تطبيق الإقصاء الاختياري

الحالة الأولى : (الفصل 66 الفقرة الأولى).

إذا كانت قد صدرت بحق الشخص ثلاثة أحكام واحد منها بالسجن من أجل أية جريمة كانت والاثنان الآخران إما بالحبس من أجل جريمة توصف بجناية وإما بالحبس لأزيد من ستة أشهر من أفعال عددها الفصل 66 نفسه في الفقرة رقم 1.

أ- الحبس من فعل يوصف بجناية :
فيما يتعلق بهذين الحكمين، فهما يشكلان مدعاة للإقصاء مهما كانت طبيعة الجناية ومدة العقوبة المحكوم بها ويمكن أن يترتب عن الأسباب التالية:
-    إما لأن الفعل الموصوف جناية والمحال بهذه الصفة إلى المحكمة الجنائية لم يعاقب من أجله إلا بعقوبة الحبس نظرا لوجود ظروف مخففة.
-    إما لأن العقوبة قد أسقطت إلى عقوبة الحبس بسبب تطبيق عذر مخفف بمقتضى الفصل 116 وما يليه.

ب – الحبس لمدة تزيد على ستة أشهر:

يشترط في هذه الحالة أن يكون الحكم قد صدر من أجل الأفعال الآتية :  السرقة – النصب – خيانة الأمانة – إخفاء الأشياء التي تم الحصول عليها من أو جنحة – الإخلال العلني بالحياء – استغلال البغاء – تحريض القاصرين على الفساد – استخدام الغير من أجل الفساد – الإجهاض – الاتجار في المخدرات.

ويتجلى من خلال هذه القائمة أنها تشتمل جرائم ماسة بالأموال وجرائم ماسة بالأخلاق وهي ما يرتكبه عادة أفراد يعيشون على هامش المجتمع ويمثلون خطرا عليه بسبب اعتيادهم المطالبة والكسب الهين، وتجردهم من كل مبدأ وأخلاق، والمشاركة في هذه الجرائم أيضا تعتبر تحت طائلة القانون.

الحالة الثانية : (الفصل 66 الفقرة الثانية)

أربعة أحكام بالحبس من أجل أفعال تعتبر جنايات أو أربعة أحكام كل منها بالحبس لأزيد من ستة شهور عن الجنح المنصوص عليها في الفقرة 1 من نفس الفصل.

الحالة الثالثة :

سبعة أحكام يكون اثنان منها على الأقل من نوع الأحكام المنصوص عليها في الرقمين السابقين، والباقي بالحبس لأزيد من ثلاثة أشهر عن جناية أو جنحة.

التدابير الوقائية المقيدة للحرية:

1- الإجبار على الإقامة :

الإجبار على الإقامة هو فرض مكان أو دائرة معينة لإقامة شخص محكوم عليه من أجل أفعال خطيرة حين يتبين أنه عند إطلاق سراحه قد يكون خطرا على النظام الاجتماعي.

ويختلف الإجبار على الإقامة الإجبارية التي سبق دراستها في باب العقوبات وهي عقوبة أصلية جنائية كما يختلف عن تعيين محل إقامة من طرف هيئة التحقيق أو الحكم التي تترك الحرية المؤقتة لشخص حسبما ينص عليه الفصل 158 من قانون المسطرة الجنائية.

والمبرر لهذا التدبير – أي تدبير الإجبار على الإقامة الذي يعد مسا خطيرا بالحرية الفردية – هو نوع الجريمة التي صدرت من أجلها العقوبة الأصلية، إذ يتعين أن تكون من جرائم المس بسلامة الدولة وأن يتبين من الأحداث أن للمحكوم عليه نشاطا عاديا فيه خطر على النظام الاجتماعي.

والإجبار على الإقامة لا يمكن أن تتجاوز مدته خمس سنوات والإشراف على تنفيذه يعود إلى الإدارة العامة للأمن الوطني، وهي تختص متى اقتضى الحال بمنح الشخص المفروض عليه هذا التدبير رخصا مؤقتة للتنقل ولكن داخل القطر فقط.

وبمقتضى الفصل 318 من القانون الجنائي يعاقب من يغادر المكان أو المنطقة المحددة لإقامته دون إذن من السلطة المختصة بالحبس من ستة أشهر إلى سنتين.

2 – المنع من الإقامة :

المنع من الإقامة هو منع المحكوم عليه من أن يحل بأماكن معينة ولمدة محددة إذا اعتبرت المحكمة، نظرا لطبيعة الفعل المرتكب أو لشخصية فاعله ولظروف أخرى، أن إقامة المحكوم عليه بالأماكن المشار إليها يكون خطرا على النظام العام أو على أمن الأشخاص (الفصل 71 من القانون الجنائي).

ويذكر على سبيل المثال ضرورة إبعاد شخص محكوم عليه من أجل جريمة استخدام الغير للبغاء، عن المدن الكبرى،وعن المرافئ خاصة، وضرورة منع قاتل من الرجوع إلى المدينة التي ارتكب فيها جريمته حيث يمكنه أن يمس بحياة الشهود أو أن يتعرض هو نفسه لانتقام أقارب الضحية.

وينص الفصل 72 أنه يجوز دائما الحكم بالمنع من الإقامة في حالة إصدار عقوبة من أجل فعل يعتبره القانون جناية، وعليه، فإنه يجوز الحكم به حتى ولو كانت العقوبة التي صدرت من أجل الجناية هي عقوبة حبس فقط بسبب منح المتهم ظروفا مخففة أو قبول عذر مخفف.

أما في حالة إصدار عقوبة بالحبس من أجل جنحة فلا يجوز الحكم بالمنع من الإقامة إلا إذا كان ذلك واردا في النص الذي يعاقب على تلك الجنحة مثال : جريمة السرقة حيث أن الفصل 539 ينص على ما يلي : في جميع الجرائم المشار إليها في فصول هذا الفرع يجوز الحكم على المتهمين أيضا... وبالمنع من الإقامة من خمس سنوات إلى عشر.

وتوضح الفقرة الأخيرة من الفصل 72 أن المنع من الإقامة لا يطبق إلا إذا نص عليه صراحة في الحكم الصادر بالعقوبة الأصلية.

ويعين الفصل 73 مدة المنع من الإقامة :
-    من خمس سنوات إلى 20 سنة في حق المحكوم عليه بعقوبة السجن.
-    ومن سنتين إلى 10 سنوات في حق المحكوم عليه بعقوبة الحبس، ويقرر الفصل نفسه أن مدة المنع من الإقامة ومفعوله لا يبدأ إلا من يوم سراح المحكوم عليه وبعد تبليغه قرار المنع ويتولى تحرير قرار المنع المدير العام للأمن الوطني ويتضمن قائمة الأماكن أو الدوائر التي خصها بالمنع الحكم القضائي بالنسبة لكل محكوم عليه.

ويؤخذ بعين الاعتبار عند تحرير هذه القوائم خصائص السكان والحياة الاقتصادية في بعض الدوائر تجنبا لتجمع العائدين في مدن كبرى تسهل عليهم التخلص من رقابة الشرطة وارتكاب جرائم جديدة أو تكوين عصابة للإجرام.

ويتولى المدير العام للأمن الوطني السهر على تنفيذ الحكم بالمنع من الإقامة والشخص الذي يظهر في أحد الأمكنة المحظورة عليه يعاقب بمقتضى الفصل 319 بالحبس من ستة أشهر إلى سنتين.

* التدابير الوقائية الطبية والعلاجية والتهذيبية :

ينص الفصل 61من القانون الجنائي على هذه التدابير ويعينها كما يلي :
أ – الإيداع القضائي داخل مؤسسة لعلاج الأمراض العقلية.
ب – الوضع القضائي داخل مؤسسة للعلاج.
ج – الوضع القضائي في مؤسسة فلاحية.

ولندرس كل تدبير من هذه التدابير على حدة :

1- الإيداع القضائي داخل مؤسسة لعلاج الأمراض العقلية :

الإيداع القضائي داخل مؤسسة لعلاج الأمراض العقلية هو أن يوضع شخص  في مؤسسة مختصة بمقتضى قرار من هيئة الحكم إذا كان متهما بارتكاب جناية أو جنحة أو بالمساهمة أو المشاركة فيها، ولكنه كان وقت ارتكاب الفعل في حالة خلل عقلي ثبت بناء على خبرة طبية واستوجب التصريح بانعدام مسؤوليته مطلقا وإعفاؤه من العقوبة التي قد يستحقها بمقتضى القانون.

ويتطلب الأمر اتخاذ هذه التدابير في مثل الحالة التالية:

إذا ارتكب شخص ما جناية، كالقتل مثل وألقي عليه القبض وظهرت عليه علامات تدل على إصابته بخلل عقلي، ومن الممكن أن يكون الأشخاص الذين يعيش بينهم قد شاهدوا إمارات هذا الخلل، ففي هذه الحالة يوضع الشخص رهن الاعتقال ويخضع لخبرة طبية فيصرح الطبيب [انه كان منعدم المسؤولية ساعة اقتراف الجريمة.

والفصل 134 من القانون الجنائي يقرر أنه " لا يكون مسؤولا ولا يجب الحكم بإعفائه، من كان وقت ارتكابه الجريمة المنسوبة إليه، في حالة يستحيل عليه معها الإدراك والإرادة نتيجة لخلل في قواه العقلية.

والفصل 76 من القانون الجنائي يعين لهيئة الحكم الخطة التي يجب أن تسلكها في هذه الحالة وهي الآتية:

-    أن تثبت أن المتهم كان، وقت الفعل، في حالة خلل عقلي يمنعه تماما من الإدراك أو الإرادة.
-    أن تصرح بعدم مسؤوليته مطلقا وتحكم بإعفائه.

وهذه التدابير المقررة في الفصل 348 من قانون المسطرة الجنائية تختلف عن البراءة، لأنه في حالة البراءة، يعتبر أن المتهم لم يرتكب الفعل الذي كان منسوبا إليه، أما في حالة الإعفاء فالمتهم قد ارتكب حقيقة الفعل لكنه لا يتابع من أجله لانعدام مسؤوليته.

-    أن تأمر في حالة استمرار الخلل العقلي، بإيداعه في مؤسسة لعلاج الأمراض العقلية.

وفيما يتعلق بمدة الإيداع فإن الفصل 77 من القانون الجنائي يقرر أن الإيداع القضائي يستمر طالما استوجب ذلك الأمن العام وعلاج الشخص المأمور بإيداعه.

والفصل 78 ينص على الإجراءات الواجب اتباعها في الحالة التي يكون فيها المتهم، حسب تقرير الطبيب الخبير، مصابا وقت ارتكاب الجريمة بضعف في قواه العقلية من شأنه أن يؤدي إلى تنقيص مسؤوليته جزئيا. وهذه الإجراءات هي:
1-    أن تثبت أن الأفعال المتابع من أجلها المتهم منسوبة إليه.
2-    ان تصرح بأن مسؤوليته ناقصة بسبب ضعف قواه العقلية وقت ارتكاب الفعل.
3-    أن تصدر الحكم بالعقوبة.
4-    أن تأمر إذا اقتضى الأمر ذلك بإدخال المحكوم عليه في مؤسسة لعلاج الأمراض العقلية قبل تنفيذ العقوبة السالبة للحرية ومدة بقائه في هذه المؤسسة تخصم من مدة العقوبة.

والفصل 79 من القانون الجنائي يشير إلى الحالة التي يكون فيها مقترف الجريمة كامل المسؤولية أو ناقص المسؤولية في وقت اقترافها لكنه بسبب خلل في قواه العقلية ظهر أثره بعد ارتكاب الفعل أصبح غير قادر على الدفاع عن نفسه على هيئة الحكم :

أ‌-    أن تقرر أن المتهم عاجزا عن إبداء دفاعه بسبب خلل حالي في قواه العقلية.
ب‌-    أن تأمر بوقف النظر في الدعوى.
ج-أن تأمر بإدخاله في مؤسسة لعلاج الأمراض العقلية.

2- الوضع القضائي داخل مؤسسة للعلاج :

الوضع القضائي في مؤسسة للعلاج هو أن يجعل تحت المراقبة بمؤسسة ملائمة وبمقتضى حكم صادر عن قضاء الحكم، شخص ارتكب أو ساهم أو شارك في جناية أو جنحة تأديبية أو ضبطية وكان مصابا بتسمم مزمن ترتب عن تعاط للكحول أو المخدرات إذا ظهر أن لإجرامه صلة بذلك التسمم (الفصل 80) ويعتبر هذا التدبير علاجا منظما للتسمم المزمن ويمكن استعماله مع السكير المدمن أو مع تاجر المخدرات المتابع من أجل هذه الجريمة كما يمكن استعماله بسبب ارتكاب الجرائم الأخلاقية واستعمال العنف والسرقة عندما يتضح أن مرتكب الجريمة قد تصرف تحت تأثير الكحول أو المخدرات.

وهذا التدبير سلاح مهم لمكافحة الإدمان على الكحول ولا سيما لمكافحة تعاطي المخدرات والكيف بالخصوص.

ويتعين على المحكمة بمقتضى الفصل 81 :

أ‌-    أن تصرح بأن الفعل المتابع من أجله صادر عن المتهم.
ب‌-    أن تثبت صراحة (أي في حيثيات الحكم) أن إجرام مرتكب الفعل مرتبط بتسمم مزمن(لا إلى حادث طارئ ومنفرد) مترتب عن تعاطي الكحول أو المخدرات.
ج-أن تحكم بالعقوبة.
د-أن تأمر علاوة على ذلك، بالوضع القضائي داخل مؤسسة للعلاج لمدة لا تزيد على سنتين ويطبق هذا التدبير مبدئيا قبل تنفيذ العقوبة قبل الوضع في المؤسسة وقد تصلح هذه الطريقة في حالة ما إذا كانت مدة العقوبة قصيرة.

وبمقتضى الفصل 82 يلغي التدبير الصادر بالوضع القضائي في مؤسسة للعلاج عندما يتبين أن الأسباب التي استوجبته قد انتهت.

ويختلف الوضع القضائي داخل مؤسسة للعلاج عن الإيداع القضائي داخل مؤسسة لعلاج الأمراض العقلية، في كون مدة الإيداع لا تخصم من مدة العقوبة.

3- الوضع القضائي في مؤسسة فلاحية:
ينص الفصل 83 من القانون الجنائي على إمكان المحكمة أن تلزم المحكوم عليه بالإقامة في مؤسسة فلاحية "وذلك إذا ظهر أن إجرامه مرتبط بتعوده على البطالة أو تبين أنه يعيش عادة من أعمال غير مشروعة" وعليه يمكن أن يطبق هذا التدبير بالخصوص على المتشردين والمتسولين ومحترفي السرقة(الذين لا تبرر جرائمهم أو سوابقهم الحكم بالإقصاء والمهربين والمحرضين على البغاء وغيرهم) ويشترط أن تكون الجريمة الرئيسية المرتكبة معاقبا عليها بعقوبة الحبس.

وهؤلاء المحكوم عليهم يلزمون بالإقامة في مؤسسة فلاحية مختصة حيث يستعملون في أشغال فلاحية  من أجل إعادة تربيتهم بواسطة الشغل إذ أنه من المفيد جدا أن يبعد معظم هؤلاء الأفراد عن المدن الكبرى وبيئتها ويوجهون إلى شغل يساعد على تربيتهم تربية جديدة وتبدأ الإقامة بالمؤسسة الفلاحية بمجرد انتهاء تنفيذ العقوبة.

* التدابير الوقائية السالبة للحقوق :

وهـــــي :
1-    عدم الأهلية لمزاولة جميع الوظائف أو الخدمات العمومية.
2-    المنع من مزاولة مهنة أو نشاط أو فن تكون خاضعة لترخيص.
3-    سقوط الحق في الولاية الشرعية على الأبناء.

أ- عدم الأهلية لمزاولة جميع الوظائف أو الخدمات العمومية:

يعد هذا التدبير من التدابير الوقائية الشخصية، ويمكن أن تصدر من المحكمة ولا يمكن أن تزيد مدته على عشر سنوات ما لم يرد نص صريح بخلاف ذلك.

ويتخذ هذا التدبير في حق بعض المجرمين الذين يتبين من التحقيق أن لإجرامهم علاقة مباشرة بمزاولة الوظيفة أو الخدمة على الوجه المرضي.

والفصول التي أشير فيها إلى الأحوال التي يحكم فيها بهذا التدبير هي 247.241.240 من مجموعة القانون الجنائي المغربي.

ب- المنع من مزاولة مهنة أو نشاط أو فن:

يحكم بهذا التدبير الوقائي الشخصي لمدة لا تزيد على عشر سنوات، وتحسب هذه المدة من اليوم الذي ينتهي فيه تنفيذ العقوبة ويحكم به في حق المحكوم عليهم من أجل جناية أو جنحة، عندما يتبين للمحكمة أن الجريمة المرتكبة لها علاقة مباشرة بمزاولة المهنة أو النشاط أو الفن وأنه توجد قرائن قوية يخشى معها أن يصبح المحكوم عليه إن هو تمادى في مزاولة ذلك، خطرا على أمن الناس أو صحتهم أو أخلاقهم أو على مدخراتهم (الفصل 87)

ج- سقوط الحق في الولاية الشرعية على الأبناء:

يحكم بهذا التدبير الشخص في حالة ما إذا أصدرت محكمة ما حكما بالعقوبة من أجل جناية أو جنحة معاقب عليها بالسجن ارتكبها أحد الأصول على شخص أحد أبنائه القاصرين (كالعنف ضد الأطفال وهتك العرض) الفصل 88. وكذلك الأفعال المنافية للحشمة التي يمكن أن تغرس في نفوس القاصرين بذور الشر وسوء السلوك، أو تعرض الأبناء إلى خطر بدني أو أخلاقي.

ثـانـيـا : التدابير الوقائية العينية :

إن التدابير الوقائية العينية حسب الفصل 62 من القانون الجنائي هي : المصادرة وإغلاق المحل حيث جاء الفصل يقضي فيما :

1-    مصادرة الأشياء التي لها علاقة بالجريمة أو الأشياء الضارة أو الخطيرة أو المحظورة امتلاكها.
2-    إغلاق المحل أو المؤسسة التي استغلت في ارتكاب الجريمة.

المصادرة :

يقضي الفصل 89 بأنه يؤمر بالمصادرة كتدبير وقائي بالنسبة للأدوات والأشياء المحجوزة التي يكون صنعها أو استعمالها أو حملها أو حيازتها أو بيعها جريمة ولو كانت تلك الأدوات والأشياء ملكا للغير وحتى ولو لم يصدر حكم بال إدانة (مثال ذلك : المفرقعات والأسلحة غير المرخص بها والمخدرات والأطعمة الفاسدة والموازين الناقصة، والكتب والنشرات التي تكون خطرا على الأمن أو الأخلاق ... )


الإغـــلاق

يجوز الأمر بإغلاق المحل التجاري أو الصناعي في جميع الأحوال التي يستعمل فيها المحل لارتكاب الجريمة سواء كان ذلك بإساءة استغلال الإذن أو الرخصة المحصل عليها، أو بمخالفة الضوابط أو النظم الإدارية وقد يكون الأمر بالإغلاق إلزاميا متى نص القانون على ذلك كالفصل 37 من قرار 17 يوليوز 1967 المنظم للاتجار في المشروبات الكحولية الذي يقضي بأنه يعلن عن الإغلاق وجوبا في حالة العود إلى الجرائم المنصوص عليها في المواد 19 و 23 و 25 و 27 و 28 من القرار.

أما المحلات غير التجارية والصناعية كعيادة الطبيب فلا يجوز الأمر [إغلاقها إلا في الحالات التي ينص عليها القانون.

والإغلاق بجميع أشكاله قد يكون نهائيا وقد يكون مؤقتا، والمؤقت لا يقل عن 10 أيام ولا يتجاوز 6 أشهر ما لم ينص القانون على خلاف ذلك وينتج عن الغلق منع المحكوم عليه من مزاولة نفس المهنة أو النشاط في ذلك المحل، والمنع يشمل أفراد أسرته وغيرهم ممن يكون المحكوم عليه قد باع له المحل أو أكراه أو سلمه إليه، كما يسري المنع في حق الشخص المعنوي أو الهيئة التي ينتمي إليها المحكوم عليه أو كان يعمل لحسابها وقت ارتكاب الجريمة (الفصل 90).

ولا يمنع تطبيق إيقاف التنفيذ بسبب حكم سابق قضى بالعقوبات التالية : عقوبة الغرامة – عقوبة الاعتقال تقل عن شهر – تدابير الحماية الخاصة بالقاصرين – العقوبة المرفقة بإيقاف التنفيذ إذا كان قد مر على الحكم بها 5 سنوات وأصبح الحكم بها كأن لم يكن – العقوبات الصادرة من أجل مخالفة عسكرية صرفة معددة في الكتاب الثاني، الباب الثاني، الفرع من 1 إلى 11 من قانون العدل العسكري – والعقوبات التي شملها العفو العام أو أعيد بشأنها الاعتبار.

ب- الأحكام التي يجوز إيقاف تنفيذ عقوبتها :

يتضح مما جاء في الفصل 55 أن الأحكام القاضية بالحبس أو بالغرامة الضبطية، هي وحدها التي يمكن إرفاقها بإيقاف تنفيذ العقوبة.

والملاحظ أن طبيعة لعقوبة هي التي تؤخذ بعين الاعتبار ولا ينظر إلى النوع الذي تنتسب إليه الجريمة. فعقوبة الحبس الصادر بسبب عمل جنائي وقد روعيت فيها المعذرة أو ظروف التخفيف يمكن أن يرفق الحبس بإيقاف التنفيذ إذا كان الحبس وفقا للفصل 27 من القانون الجنائي مصحوبا بعقوبة التجريد من الحقوق الوطنية كعقوبة أصلية.

1-    إيقاف تنفيذ العقوبة له تأثير على أداء صوائر الدعوى والتعويض المدني.
2-    وليس له تأثير على العقوبات الإضافية المتصلة بالأحكام الممكنة التطبيق.
3-    ينص الفصل 92 على أن لا أثر لإيقاف تنفيذ العقوبة على التدابير الوقائية.
4-    يصبح الحكم بإيقاف التنفيذ كأن لم يكن بعد مضي خمس سنوات من التاريخ الذي صار فيه الحكم حائزا لقوة الشيء المحكوم به إذا لم يرتكب المحكوم عليه خلال تلك الفترة جناية أو جنحة عادية حكم عليه من أجلها بالحبس أو بعقوبة أشد (الفصل 56).

وبعكس ذلك إذا ارتكب جناية أو جنحة داخل أجل الخمس سنوات المنصوص عليها في الفقرة السابقة فإن الحكم بالحبس أو بعقوبة أشد بسبب تلك الجناية أو الجنحة ولو صدر الحكم بعد انصرام الأجل المذكور يترتب عنه وحتما بقوة القانون عندما يصير نهائيا إلغاء وقف تنفيذ الحكم.

وتنفذ العقوبة الأولى قبل العقوبة الثانية دون إدماج.

5-    يسمح للمحكوم عليه بالحصول على البطاقة رقم 3 من السجل العدلي خالية من أي تصنيف خاص بالحكم الذي أسعف فيه بسبب إيقاف التنفيذ وذلك بعد مضي أجل 5 سنوات.

 ثـانــيا : الإفراج الشرطي

حسب نص الفصلين 59 و 101 من القانون الجنائي، فإن الإفراج الشرطي يجعل المحكوم عليه يستفيد بإطلاق سراحه من السجن الذي يقضي به العقوبة المحكوم بها عليه، نظرا لحسن سيرته داخل مؤسسة السجن، وقرار الإفراج الشرطي يجوز أن ينص فيه على تنفيذ التدابير الوقائية.

والفصل 663 من قانون المسطرة الجنائية يمكن كل محكوم عليه يقضي في أحد سجون المملكة عقوبة صدرت بحرمانه من الحرية، من الانتفاع بالإفراج المقيد طبقا للفصل 672، وذلك فيما إذا أعطى الدليل الكافي على تحسن سيرته.

شروط تطبيق الإفراج الشرطي :

1 – يجب أن يقضي المحكوم عليه فعليا في السجن مدة تعادل على الأقل نصف العقوبة المحكوم بها عليه، ولا يجوز أن تقل المدة التي قضاها في السجنعن ثلاثة أشهر.

والفصل 664 من قانون المسطرة الجنائية ينص على حالتين انفراديتين :


أولهما : تتعلق بحالة العود إلى الجريمة المنصوص عليها قانونيا :

يتعين أن تكون مدة الاعتقال الفعلي مساوية على الأقل لثلثي مدة العقوبة المحكوم بها على شرط أن لا تقل على ستة أشهر.

ثانيهما : فيما يتعلق بالمحكوم عليهم بعقوبة التغريب :

فلا يمكن أن تكون مدة اعتقالهم الفعلي أقل من ثلاث سنوات ابتداء من يوم تطبيق عقوبة التغريب عليهم.

2 – يلزم المحكوم عليه بإعطاء الدليل على حسن سيرته وذلك باعتبار أن الإفراج الشرطي منحه يحظى بها من هو أهل لها.

3 – يلزم المحكوم عليه بإعطاء الدليل عمليا على قدرته على ممارسة الحياة العملية بوسائل عمل عادية ومعقولة بعد خروجه من السجن.

إجراءات الإفراج الشرطي :

1 – يمكن أن يهيأ ملف للحصول على منحة الإفراج الشرطي سواء بطلب من السجين أو عائلته، أو بطريق مباشر من لدن رئيس مؤسسة السجن.

2 – يوجه إلى مدير إدارة السجون مرفقا من جهة بشهادة الإيواء أو شهادة أحد المشغلين يتعهد فيها بإيجاد شغل للسجين بمجرد الإفراج عنه، ومن جهة أخرى ببطاقة شخصية مشتملة على تعريفه، والحالة العائلية، الحالة الجنائية، السيرة، الحالة المهنية، والحالة الصحية، الجسمية والعقلية للسجين ويضاف إليها رأيه الشخصي.

3 – يرفع مدير مصلحة السجون الملف المذكور إلى لجنة العفو بواسطة مدير الشؤون الجنائية وشؤون العفو بوزارة العدل.

4 – يبدي رئيس النيابة لدى المحكمة التي أصدرت العقوبة رأيه، ويتعين أن يتضمن هذا الرأي عرضا للوقائع التي كانت السبب في العقوبة وأن يرتكز على حسن السلوك والمثابرة في العمل الذين برهن عليهما المحكوم عليه أثناء سجنه أكثر من ارتكازه على خطورة الوقائع المشار إليها.

وكذلك لعامل الإقليم الذي ينوي السجين الإقامة به بعد الإفراج عنه أن يبدي رأيه ويجب أن يتضمن هذا الرأي علاوة على نتائج البحث الذي أجري في شأن قيمة شهادة الإيواء أو شهادة الالتزام بتوفير العمل المنصوص عليها في الفصل 666 نظره حول ملائمة مقام المفرج عنه في الإقليم.

5 – يصدر وزير العدل باقتراح من لجنة العفو القرار القاضي بمنح السجين الإفراج المقيد بشروط.

ويمكن إن اقتضى الحال أن يشترط في الإفراج ما يلي :

-    أداء المبالغ الواجبة للخزينة أو التعويضات المحكوم بها للضحايا.
-    الالتزام بالانخراط في القوات المسلحة إذا كان الأمر يتعلق بمواطن.
-    الطرد من تراب المملكة إذا كان الأمر يتعلق بأجنبي.

آثـــــار الإفــراج الــشرطـي

1 – إذا كانت سيرة المفرج عنه حسنة واحترمشروط الإفراج عنه من العقوبة السالبة للحرية فإنه يعتبر كأنه قضى مدة العقوبة بأتمها

والإفراج الشرطي يختلف عن إيقاف التنفيذ من حيث مدة الاختبار، فانقضاء هذه المدة بالنسبة لإيقاف التنفيذ يعتبر الحكم الصادر كأن لم يكن، أما بالنسبة للإفراج فإنه لا يمحى وإنما يعد سابقة ويمكن أن تطبق على المسعف به مقتضيات العود فيما إذا لو ارتكب جريمة أخرى كما أنه يخلف آثارا بالسجل العدلي.

2 – وإذا ما أساء المحكوم عليه السلوك خلال مدة الاختبار فإنه يجوز لعامل الإقليم الذي أقام فيه المعني بالأمر أو وكيل الملك لدى المحكمة المختصة اقتراح إلغاء الإفراج الشرطي بناء على إشعار من لدن سلطات الشرطة أو الدرك.

ويصدر قرار الإلغاء عن وزير العدل بعد استشارة العامل والنيابة بالدائرة التي يقيم فيها المفرج عنه (الفصل 670 من قانون المسطرة الجنائية).

وإذا اتخذ وزير العدل قرار الإلغاء فإن المفرج عنه يعاد إلى السجن فيقضي ما تبقى من العقوبة.

إلا أن المدة التي قضاها المحكوم عليه المفرج خالرج السجن فإنها تعد من المدة التي قضاها كما لو كان مسجونا وكذلك مدة اعتقاله لإعادته إلى السجن.

المطلب الثاني : أسباب انقضاء العقوبة والتدابير الوقائية.

أولا : الأسباب العادية لانقضائها :

الأسباب العادية لانقضاء العقوبات حسب نص الفصول 49، 60، 93 من القانون الجنائي هي كالآتي :
1.     موت المحكوم عليه.
2.    إلغاء القانون الجنائي المحكوم بمقتضاه.
3.    العفو.
4.    العفو الشامل.
5.    التقادم.

وقبل أن نخلص إلى دراسة العفو والعفو الشامل بكيفية مفصلة، وكذلك الأمر بالنسبة للتقادم وإعادة الاعتبار، فإنه يجدر بنا أن نتناول بإيجاز الأسباب الأخرى لانقضاء العقوبات.

1 – موت المحكوم عليه :

تنقضي عقوبة الحبس بوفاة المحكوم عليه، أما عقوبة الغرامة فلا تسقط بسبب وفاته إذا لم يكن قد سدد الغرامة قبل قبل الوفاة ويطالب ورثته بسدادها. وينص الفصل 50 من القانون الجنائي على أن موت المحكوم عليه لا يحول دون تنفيذ الجزاءات المالية على تركته.

ولهذا فإن موت المحكوم عليه يعتبر سببا لانقضاء العقوبات الأصلية والإضافية متعلقا بشخص المتوفى لا يحول دون تنفيذ العقوبات المالية والتدابير الوقائية المتعلقة بالأشياء المضرة بالمجتمع.

2 – إلغاء القانون الجنائي :

    إذا قرر المشرع إلغاء صفة الجريمة عن فغل ما فإن كافة العقوبات المحكوم بها على صاحب الفعل تصبح غير قابلة للتنفيذ ويوضع حد للعقوبة الجاري تنفيذها.

    وإلغاء القانون الجنائي لا يؤدي فحسب إلى منع تنفيذ العقوبات الأصلية ولكنه يشمل كذلك العقوبات الإضافية والتدابير الوقائية (باستثناء الإيداع بمؤسسة صحية للأمراض العقلية، والوضع بإحدى المؤسسات العلاجية وكذلك سقوط حق الولاية الشرعية على الأبناء الذي يخضع لقواعد قضائية فردية).

3 – العفو:

العفو هو منحة موهوبة لمحكوم عليه، تزيل عنه العقوبة كليا أو جزئيا ويمكن أن يصدر من دون طلب، كما يمكن التماسه واستصداره بطلب حسب الأصول.
وحسب الفصل 53 من القانون الجنائي فإن العفو يعتبر حقا من حقوق الملك وأحكامه محددة في الظهير المؤرخ في 6 فبراير المعدل بالظهير المؤرخ في 16 غشت 1963.

وإذا قدم طلب العفو عن محكوم عليه، معتقل من أجل جنحة أو مخالفة جاز لوزير العدل بصفة استثنائية أن يأمر بالإفراج عنه ريثما يبث في الطلب.

والفصول 103 و 104 من القانون الجنائي تشير إلى أن العفو لا يطبق على الإيداع القضائي في مؤسسة لعلاج الأمراض العقلية، ولا على الوضع القضائي في مؤسسة علاجية، وكذلك الحرمان من الولاية على الأبناء.

المحكوم عليهم الذين يستطيعون طلب العفو :

كل فرد صدر في حقه حكم أصبح غير قابل للطعن الذي يمكن تنفيذه له الحق في طلب العفو باستثناء أحكام الغرامات الصادرة بناء على طلب من الإدارات العمومية (مثل الغرامات الجنائية) وكذلك التدابير التهذيبية النتخذة لصالح القصر الجانحين.

والأفراد الذين يتعرضون للجزاءات التأديبية لا يجوز لهم التماس العفو لأن الجزاء التأديبي لا يكون مماثلا للعقاب.

إجراءات طلب العفو:

1 – يمكن أن يتقدم بطلب العفو كل من المحكوم عليه، وأقاربه أو أصدقائه أو من قبل النيابة العامة، أو الإدارة، وكما يمكن أن يصدر دون طلب.

2 – يحال الملف المنجز من طرف النيابة العامة لدى المحكمة التي أصدرت الحكم في حق المعني بالأمر، يحال على لجنة العفو مشتملا على كل المعلومات المفيدة.

3 – وهذه اللجنة المكونة من وزير العدل أو نائب عنه كرئيس ومن مدير الديوان الملكي أو نائب عنه، ومن الرئيس الأول للمجلس الأعلى، ومن وكيل الدولة العام لدى هذا المجلس، ومن مدير الشؤون الجنائية والعفو، ومن مدير إدارة السجون (بوزارة العدل) أو من ينوب عنهم، وكذلك من ضابط من القيادة العليا للقوات المسلحة الملكية معين من طرف وزير الدفاع الوطني في حالة ما إذا كان الحكم بالعقوبة صادرا عن المحكمة الدائمة للقوات المسلحة الملكية، فهذه اللجنة تختص بفحص الطلبات المقدمة أو الالتماسات الصادرة دون طلب. وتجتمع في تاريخ محدد من قبل وزير العدل، أو بمناسبة الأعياد التالية :

•    عيد الفطر.
•    عيد الأضحى.
•    عيد المولد النبوي.
•    عيد العرش.

وتبث هذه اللجنة في الطلبات المقدمة لها وتبدي رأيها في كل منها على حدة وتوجه بعد ذلك قرارها إلى الديوان الملكي.

4 – ويوجه قرار الملك قصد التنفيذ على يد وزير العدل ويبلغ إلى المحكوم عليه أكان الأمر يتعلق بالعفو الجماعي أو الانفرادي.

آثار طلبات العفو :

1 – كل عقوبة قاضية بالإعدام تستلزم تلقائيا وبدون طلب، إجراء معاملة استصدار عفو، ولا يجوز أصلا تنفيذه إلا بعد اقتران التماس العفو بالرفض (الفصل 649، الفقرة الثانية من قانون المسطرة الجنائية).

وبما أن لجنة العفو لا تجتمع إلا بمناسبات الأعياد المشار إليها سابقا فقد يحدث للعقوبات القصيرة أن لا يبحث في طلب العفو أو لا ينتهي إصدار قرار بشأنه إلا بعد انقضاء مدتها، وبناء على ذلك فقد وجهت وزارة العدل المنشور رقم 20 المؤرخ في 11 ديسمبر 1957 إلى النيابات العامة في موضوع اتخاذ تدبير مؤقت بإيقاف تنفيذ عقوبات الغرامة كذلك، إذا كان هناك إجراء أو طلب مقدم باستصدار العفو عن تلك العقوبات.

2 – في حالة الحصول على العفو فإن المحكوم عليه يعفى من تنفيذ العقوبة بأتمها أو بجزء منها (ربع مدة الحبس أو نصف الغرامة المحكوم بها بعقوبة من نفس المرتبة ولكن أخف من الأولى، كاستبدال عقوبة الحبس بعقوبة أداء مبلغ من المال إلى الخزينة.

وفي جميع هذه الأحوال فإن العفو لا ينطبق على صوائر القضاء ولا على العقوبات الإضافية إلا إذا نص القانون على خلاف ذلك.

وعليه فإن الجاني المحكوم بسنتين حبسا و 5 سنوات بالمنع من الإقامة يمكن أن يستفيد بتخفيض سنة حبسا، لكن هذا التخفيض لا يشمل عقوبة المنع من الإقامة.

ولا يمكن للمحكوم عليه أن يتنصل من أثر العفو أو أن يرفض تنفيذه ولا يمحي كذلك الأحكام فهو يبقى مسجلا بالسجل العدلي.

ولا يمس العفو بحقوق المجني عليهم الذين يحتفظ لهم بحق إمكان حصولهم على التعويض عن الأضرار.

4 - العفو الشامل :

يختلف العفو الذي يعد حقا من حقوق الملك عن العفو الشامل الذي لا يكون إلا بنص تشريعي صريح، وهو من اختصاص السلطة التشريعية وحدها.

فهو يتميز بالطابع الموضوعي عندما يشمل فئة معينة من الجرائم أيا كان مرتكبها ويتميز بالطابع الشخصي عندما يخضع تطبيق أحكامه لشروط معينة متوفرة في أشخاص مرتكبي الجريمة (الجاني المبتدئ، المنافع، القاصر).

وآثاره يحددها النص التشريعي الذي صدر العفو بموجبه، وليس لها في كل حال أي مساس بحقوق الغير بمعنى أن للعفو مفعولا يلغي العقوبة الأصلية والعقوبات الفرعية ولكن لا يمكن أن يلغي التعويضات التي تستحقها ضحية الجريمة.

كما أن العفو الشامل يوقف تنفيذ التدابير الوقائية الشخصية ولا أثر له على تنفيذ التدابير العينية.





5 – التقادم :

إذا انقضى زمن محدد قانونا لتنفيذ العقوبة ولم تستطع النيابة تنفيذها على المحكوم عليه، فإن التنفيذ التنفيذ يصبح ممتنعا بعذ انقضاء هذا الزمن المحدد وبذلك يتخلص المحكوم عليه من العقاب نهائيا.

ومشروعية التقادم نوقشت كثيرا وخصوصا ما يتعلق منها بجرائم الحرب ففئة تقول بها وترى للتقادم تبريرا في أن المصلحة الاجتماعية لا تصر على تنفيذ عقوبة أصبحت قديمة بالية منسية، وفئة تعارضها مستندة إلى أن الأخذ بالتقادم يشكل تشجيعا للمجرمين الخطيرين.

أما القانون الجنائي المغربي فقد أخذ بالتقادم وعزز هذا الأخير بالتنصيص عليه في الفصل 688 من قانون المسطرة الجنائية.

العقوبات القابلة للتقادم وغير القابلة له :

إن العقوبات الأصلية التي يشملها التقادم هي :
1 – عقوبة الإعدام، والعقوبات الجنائية والجنحية والضبطية والسالبة للحرية (السجن المؤبد أو المؤقت، الحبس، الاعتقال).
2 – عقوبات الغرامة الجنحية والضبطية بما فيها الغرامات المالية الجبائية والمصادرات غير أن هناك استثناء عن هذه القاعدة، وهو الذي نص عليه الفصل 150 في فقرته الثانية من قانون العدل العسكري من أن الأحكام الصادرة غيابيا لسبب هرب من الجندية أو تمرد وقع في الخارج أثناء حالة الحرب، لا تخضع للتقادم كما لا تخضع لذلك العوى العامة.

العقوبات الإضافية :

نصت الفقرة الثانية من الفصل 688 من قانون المسطرة الجنائية على أن التقادم لا يمنع استمرار الحرمان الوارد في قرار الحكم الناشئ عن نتائج الحكم القانوني ولا يختلف عن العقوبات الإضافية عن مفعول هذا الفصل إلا موضوع الحجز القانوني الذي سبق شرحه.

انقطاع وتوقف التقادم :

الفرق بين انقطاع مدة التقادم وبين توقفها هو المدة الإجمالية للتقادم، ففي حالة الإنقطاع تعود على بدء وتسير ابتداء ومجددا من تاريخ الانقطاع أي أن المدة التي سبقت الانقطاع تسقط من حساب المدة الإجمالية وتعتبر ملغاة.

في حين أن الوقت الذي سبق التوقف يحسب من أصل مدة التقادم الإجمالية ويضاف إلى الفترة التي تلي التوقف.

وبشأن العقوبات البدنية فقد رأى المجتهدون أن انقطاع التقادم لا يتحقق بوقوع تبليغ المحكوم حكم العقوبة بل أنه لا يمكن أن ينشأ الأمن تنفيذ العقوبة بشخص المحكوم عليه.

وفي حالة هرب المحكوم عليه من السجن خلال فترة قضائه العقوبة تبتدئ مدة التقادم بالنسبة لمدة العقوبة المتبقية من تاريخ حدوث الهرب ووقوعه.

أما فيما يتعلق بالعقوبات المالية فإن مدة التقادم لا تنقطع إلا بالأداء أو الحجز أو تنفيذ الحبس استيفاء للمال. ولا تنقطع بالتبليغ أو بالإخطار والإنذار.

والفصلان 99 و 100 قد جاءا بما يفيد أن التدابير الوقائية غير المنفذة يسري عليها مفعول التقادم إذا مرت عليها فترة معينة من الزمن، أما المنع من الإقامة فقد ورد بشأنه في الفقرة الثانية من الفصل 689 ما يلي :

إذا مرت على العقوبة مدة التقادم الجنائي يخضع المحكوم عليه حتما طيلة حياته لعقوبة الأبعاد عن دائرة العمالة أو الإقليم التي يستقر بها المجني عليه أو ورثته المباشرون.

مدة التقادم :

1 – بمرور 20 سنة ميلادية كلملة ابتداء من يوم صدور الحكم المتعلق بالعقوبات الجنائية.
2 – بمرور خمس سنوات في القضايا الجنحية.
3 – بمرور سنتين فيما يتعلق بالمخالفات.

آثار التقادم :

ينص الفصل 288 من قانون المسطرة الجنائية على أنه (يترتب عن تقادم العقوبة تخلص المحكوم عليه من مفعول الحكم إذا لم تنفذ العقوبة خلال الآجال المحددة في الفصل 689 ومل يليه إلى الفصل 691 الآتية بعد.

غير أن ذلك التقادم لا يسقط عدم الأهلية التي ينص عليها الحكم الصادر بالعقوبة التي ترتبت عنها قانونيا.

فإن مرت على العقوبة مدة التقادم الجنائي خضع المحكوم عليه حتما طيلة حياته لعقوبة الإبعاد عن دائرة العمالة أو الإقليم التي يستقر بها المجني عليه أو ورثته المباشرون (الفقرة التـالية من الفــصل 689 ).

كما يخضع حتما لنفس عقوبة الإبعاد طيلة مدة خمسة أعوام من يوم اكتمال أمد التقادم، المحكوم عليه بالسجن المؤبد الذي سقطت عقوبته بالتقادم (الفقرة الثانية من فس الفصل).

أما فيما يتعلق بآثار التقادم عن المستقبل فإن مضامين الأحكام التي يترتب عنها التقادم تبقى بالسجل العدلي وتؤخذ بعين الاعتبار في حالة العود إلى ارتكاب الجريمة.

ثــانــيا : الأسباب الخاصة:

إعادة الاعتبار :

تعتبر إعادة الاعتبار حقا قرره القانون وأجاز لكل محكوم عليه بعقوبة، الحصول عليه إذا ما برهن عن حسن سلوكه.

ولإعادة الاعتبار نفس قوة العفو الشامل، فكلاهما يمحو الحكم الصادر بالعقوبة.

والفصل 60 من القانون الجنائي يقرر أنه ليس رد الاعتبار سببا من أسباب انقضاء العقوبة أو الإعفاء منها أو إيقافها، وإنما يمحو فيما يخص المستقبل فقط، آثار الحكم الزجري وحالات فقدان الأهلية المترتبة عن هذا الحكم، وذلك وفق مقتضيات الفصول 730 إلى 747 من قانون المسطرة الجنائية.

كما أن رد الاعتبار للمحكوم عليه، الذي يصدر وفق الشروط المقررة في الفصول 730 إلى 747 من قانون المسطرة الجنائية يضع حدا لتنفيذ تدابير الوقائية.

(إن كل شخص حكمت عليه محكمة زجرية بمملكتنا من أجل جناية أو جنحة يمكن أن تعاد له الحقوق التي حرم منها).

ويمحو رد الاعتبار هذا، فيما يخص المستقبل، العواقب الناتجة عن العقوبة والحرمان من الأهليات المترتب عنها.

ويعاد الاعتبار إما بموجب القانون وإما بموجب قرار تصدره غرفة الاتهام (الفصل 730 من قانون المسطرة الجنائية).

آثار إعادة الاعتبار :

1 – بالنسبة للمستقبل فإن إعادة الاعتبار تمحو الآثار الناتجة عن حكم (العقوبات الأصلية والإضافية)، فبعد الحصول على هذا الحق، فإن صاحبه الذي يرتكب جريمة يعد كمجرم مبتدئ.

2 – تضع حدا تنفيذ التدابير الوقائية (تدابير التهذيب، والتدابير العائلية) إذا ما كانت فيه التنفيذ.

ولنرى الآن ما هي شروط الحصول على إعادة الاعـتبـار القـانوني (أي بحــكم القانـون) في القـضـايـا الجنـائـيـة والجـنـحيـة

1 – فيما يخص العقوبات بالغرامة، فبعد انتهاء أجل قدره خمس سنوات من يوم أداء الغرامة أو من انتهاء الإجبار بالسجن أو انصرام أمد التقادم.

2 – فيما يخص العقوبة بالسجن لمدة لا تتجاوز ستة أشهر، فبعد انتهاء العقوبة المنفذة على المحكوم عليه، وإما من يوم انصرام أجل التقادم.

3 – فيما يخص العقوبة الوحيدة بالسجن لمدة لا تتجاوز سنتين أو فيما يخص عدة عقوبات لا يتجاوز مجموعها سنة واحدة، فبعد انتهاء أجل قدره خمس سنوات يعتبر ابتداء حسبما هو منصوص عليه في الفقرة الثانية السالفة.

4 - فيما يخص العقوبة الوحيدة بالسجن لمدة لا تتجاوز سنتين أو فيما يخص عدة عقوبات لا يتجاوز مجموعها سنتين، فبعد انصرام أجل قدره عشرون سنة يعتبر ابتدائه بنفس الصورة السابقة.

شروط الحصول على رد الاعتبار القضائي:

1 – يشترط وجود حكم سابق من أجل جناية أو جنحة.

2 – يجب أن يرفع طلب العفو من طرف المحكوم عليه و من طرف نائبه القانوني إذا كان محجورا، وفي حالة وفاة المحكوم عليه أمكن لزوجه أو أصوله أو فروعه رفع الطلب ضمن أجل سنة بعد الوفاة.

3 – يتعين أن يشمل طلب رد الاعتبار مجموع العقوبات الصادرة التي لم يتقدم محوها.

4 – لا يمكن تقديم طلب برد الاعتبار إلا بعد انصرام أجل قدره ثلاث سنوات، ويرفع إلى خمس سنوات في حق المحكوم عليهم بعقوبة جنائية ويبتدئ الأجل من يوم السراح من السجن في حق المحكوم عليهم بعقوبة تقضي بالحرمان من الحرية ومن يوم الأداء في حق المحكوم عليهم بالغرامة.

5 – يتعين على المحكوم عليه أن يدلي بما يثبت أداء المصاريف العدلية والغرامة  والتعويض عن الضرر أو بما يثبت إعفاؤه من أداء ما ذكر.

إجراءات إعادة الاعتبار القضائي:

1 – يقدم المحكوم عليه طلبا برد الاعتبار لوكيل الملك بمحل إقامته الحالي ويكون ملفه يشتمل على المعلومات التالية:
-    مدة إقامة المحكوم عليه بكل بلدة
-    سيرته أثناء هذه الإقامة
-    وسائل معيشته خلال نفس المدة.
-    ويطلب وكيل الملك شهادة العمال أو المفوضين من طرفهم بالأماكن التي أقام بها المحكوم عليه.
2 – يوجه وكيل الملك هذه الوثائق مشفوعة برأيه إلى وكيل العام لتبث فيه محكمة الاستئناف.

3 – وداخل أجل شهرين تبث محكمة الاستئناف في الطلب بناء على بيانات رئيس النيابة العامة، وبعد الاستماع إلى الفريق الذي يعنيه الأمر أو إلى وكيله.

وفي حالة رفض الطلب لا يمكن تقديم طلب جديد بمقتضى الفصل 745 من قانون المسطرة الجنائية إلا بعد انصرام أجل قدره سنتان من تاريخ الرفض.



الصلح إذا أجازه القانون :

ينص الفصل 3 من قانون المسطرة الجنائية في الفقرة الثانية على أنه يمكن أن تسقط الدعوى العامة بإبرام مصالحة إذا كان القانون ينص على ذلك بوجه صريح.

وقد جاء في الفقرة الثانية من الفصل 49 ما يعزز هذا المبدأ إذ أجاز أيضا إسقاط الدعوى العامة تبعا للمصالحة ولو تمت المصالحة بعدم صدور الحكم شرط أن يكون منصوصا على ذلك.

وتجدر الإشارة هنا إلى مفعول الفصل 13 من قانون المسطرة الجنائية إذ جاء فيه أنه يمكن للفريق المتضرر أن يتخلى عن حقه في الادعاء أو يصالح بشأنه أو يتنازل عن الدعوى من دون أن يترتب عن ذلك انقطاع سير الدعوى العامة أو توقيفه.

إذن، فمفعول الصلح محصور بجرائم معينة، وإننا لنذكر بهذه المناسبة النصوص القانونية التالية التي يجوز في شأنها التصالح :

1 – مدونة الجمارك الصادرة سنة 1977.
2 – الظهير الخاص بزجر مخالفات نظام الصرف.
3 – الظهير الخاص بنظام التبغ في المغرب.
4 – الظهير الخاص بشأن المحافظة على الغابات واستغلالها.
5 – الظهير الخاص بشأن صيد الأسماك في المياه الكائنة داخل الأراضي

Aucun commentaire: