قواعد وأثر سحب القرارات الإدارية فقها وقضاء

بقلم الدكتور محمد الهيني مستشار المحكمة الإدارية بالرباط
 لقد حفزني على الكتابة في الموضوع التساؤلات الفقهية والقانونية التي طرحها المهتمين بالشأن القانوني والاجتماعي حول مشروعية سحب قرار العفو الصادر عن جلالة الملك بوصفه سلطة إدارية ، الذي نعتبره أمرا عاديا تجريه السلطة الإدارية في ممارساتها ومسلكياتها الإدارية لدعاوي المصلحة العامة بإصدارها للقرار المضاد ،متى تبين لها خطأ القرار موضوع السحب إما من الناحية الواقعية أو القانونية  ،تأكيدا منها لحكامة المرفق العمومي لاعتبارات العدالة الإدارية واستقرار الأوضاع القانونية،وتفاديا لإثارة مسؤوليتها الإدارية للتعويض عن الأضرار المترتبة عن القرار الأصلي،لأن الرجوع للحق أفضل من التمادي في الخطأ،باعتباره فضيلة من فضائل الحكمة والتبصر وإعلاء منطق احترام القانون  .
والحقيقة أن قرار العفو يعتبر قرارا إداريا صادرا عن الملك بوصفه سلطة إدارية  سامية يقبل الطعن القضائي الإداري  أمام الغرفة الإدارية بمحكمة النقض لكون الفصل 118 من الدستور صريح في خضوع جميع القرارات الإدارية للطعن دونما أي استثناء ،لأنه لم يعد قابلا في إطار دستور 2011 تحصين أي قرار إداري من الطعن ،لكون المشروعية عماد المؤسسات الديمقراطية وعنوان دولة الحق والقانون،لضمان مساواة الجميع أمام القانون حاكمين ومحكومين،وهو ما أكدته اتجاهات القضاء الإداري الحديث المغربي والمقارن. 
ولاشك أن سمو القاعدة الدستورية،على ماعداها من نصوص قانونية،يشكل تكريسا للشرعية وسيادة للقانون،باعتبارهما من مبادئ دولة الحق والقانون التي تأبى تحصين أي قرار إداري ،مهما علا شأنه،وتعددت مصادره،واختلفت مجالاته من الرقابة القضائية،لكون القضاء هو الحامي الطبيعي  والحارس الأمين  للحقوق والحريات[1] .
والملاحظ أنه إذا كانت القاعدة العامة أنه لا يجوز سحب القرارات الإدارية المشروعة متى ترتب عليها حق مكتسب، إلا في حالات استثنائية جد ضيقة، فإن القاعدة على عكس ذلك بالنسبة للقرارات غير المشروعة، حيث يكون السحب داخل أجل الطعن هو جزاء عدم المشروعية تحت طائلة تحصين القرار من كل عملية سحب إلا في حالة الغش أو التدليس أو الخطأ المادي.والسلطة التي تصدر القرار يجب أن تكون نفسها هي الجهة التي تقوم بسحبه طبقا لقاعدة توازي الأشكال والإجراءات وما يفرضه الدستور من تراتبية الهرمية والتراتبية القانونية  طبقا للفصل السادس من الدستور.
 وعليه سوف نتناول تباعا كلا من سحب القرارات الإدارية المشروعة وغير المشروعة.

المطلب الأول
سحب القرارات الإدارية المشروعة
القاعدة المسلم بها فقها وقضاء أنه لا يجوز سحب القرار الإداري متى صدر صحيحا متفقا مع أحكام القانون، وترتب على مقتضاه مركز قانوني لذوي الشأن وخول لهم حقوقا مكتسبة، إذ لا يجوز لأي سلطة إدارية المساس بها، وذلك تطبيقا لقاعدة مبدأ عدم رجعية القرارات الإدارية السليمة متى رتبت حقوقا مكتسبة للمعني بها.
 لذلك فإن القرارات الإدارية التي لا تنشئ مزايا أو مراكز أو أوضاعا قانونية بالنسبة للغير، يبقى من حق  الإدارة سحبها في أي وقت، لأن البنود التي تمنع سحبها، وهي إنشاء حقوق مكتسبة أو مزايا أو أوضاع قانونية معينة غير موجودة.
وقد استقر القضاء الإداري المقارن على التفرقة بين القرارات الإدارية التنظيمية العامة والقرارات الإدارية الفردية، ورتب على ذلك أنه يجوز للإدارة سحب القرارات التنظيمية العامة، سواء بالإلغاء أو التعديل، في أي وقت، تبعا لما تقتضيه المصلحة العامة دون القرارات الفردية[2].
وهكذا جاء في حكم للمحكمة الإدارية بالرباط صادر بتاريخ 27/9/2012 "إن انقضاء المدة المقررة قانونا للسحب، أي بمرور أجل الستين يوما اكتسب القرار الإداري الفردي المطعون فيه حصانة تعصمه من أي إلغاء أو سحب أو تعديل من جانب الإدارة، وترتب على ذلك أن إصدار القرار المضاد، يعد أمرا مخالفا للقانون، وإخلالا بالحقوق المكتسبة  وباستقرار الأوضاع القانونية، ومسا بالمال العام للدولة، وبالحق في الشغل كحق دستوري لعدم ارتكاب الطاعن لأي عمل تدليسي، مما يجعل القرار المتخذ لفائدته، قد أصبح حقا مكتسبا بالنسبة إليه، إذ القول بخلاف ذلك يحول دون انضباط العمل الإداري، ويفقد ثقة المستفيدين في استقرار مراكزهم القانونية المتولدة عن هذه القرارات، ويكون قرار السحب تبعا لذلك غير مؤسس ومشوب بعيب مخالفة القانون .
إن القرار المطعون فيه، فضلا عن عدم مشروعيته  لانبناءه على سبب غير صحيح يقيم قيدا إضافيا يفتقد في جميع الأحوال للقيمة القانونية لعدم إشارة المرسوم المنظم له، ولا سند له في القانون لأنه يضرب الحق في المساواة في الصميم، ويشكل اعتداءا مباشرا على الحقوق،كما يعصف بالأمن القانوني بشكل يجعله مشوبا بالتجاوز في استعمال السلطة وحليفه الإلغاء"[3]
كما اعتبرت نفس المحكمة بموجب حكمها الصادر بتاريخ 27-6-2013 "إن القرار  الوزاري المشترك المطعون فيه حين استند على علة الطبيعة الفلاحية  للعقار وملكيته لشركة أجنبية يكون فاقدا للمشروعية  من جهة المحل والسبب ،فضلا عن أن سحبه  بصفة غير مشروعة وخارج الأجل القانوني للقرار الأول ،بالمخالفة لمبدأ عدم رجعية القرارات الإدارية  وما تفرضه من  ثنائية عدم المساس بالحقوق المكتسبة وضرورة استقرار المراكز القانونية الناشئة عنها يجعل القرار مشوب بالتجاوز في استعمال السلطة مع ما يترتب عن ذلك من آثار قانونية.
ويمكن سحب القرارات المؤقتة، كقرارات الترخيص التي لا تكتسي إلا وضعا مؤقتا، متى اقتضت المصلحة العامة ذلك، أو تغيرت الظروف التي صدر على أساسها القرار أو وقع الإخلال بالالتزامات المفروضة بمقتضى القرار المؤثر في المركز القانوني[4]، ما لم يكن السحب مشوبا بعيب الانحراف في استعمال السلطة.

المطلب الثاني
سحب القرارات غير المشروعة
إذا كان الأصل أنه يحق للإدارة أن تصحح الأوضاع المخالفة للقانون، فإن دواعي الاستقرار، تقتضي أيضا، أنه إذا صدر قرار إداري فردي معيب بعيوب المشروعية وتولدت عنه حقوق مكتسبة، فإن هذا القرار يجب أن يستقر عقب فترة معينة من الزمن، ويسري عليه ما يسري على القرار الصحيح الذي يصدر في ذات الموضوع، ومن تم فالقرارات الفردية غير المؤقتة لا يجوز سحبها، ولو كانت مشوبة بعيب عدم المشروعية، إلا خلال الستين يوما من تاريخ صدورها، متى انقضى هذا الميعاد اكتسب القرار حصانة تعصمه من أي إلغاء أو تعديل، ويصبح عندئذ لصاحب الشأن حق مكتسب فيما تضمنه القرار، وكل إخلال بهذا الحق بقرار لاحق يعد أمرا مخالفا للقانون يعيب هذا القرار، ويجعله قابلا للإلغاء، إلا أن ثمة استثناءات من موعد الستين يوما تتمثل، أولا فيما لو حصل أحد الأفراد على قرار إداري نتيجة غش أو تدليس من صاحبه، أو شاب القرار خطأ مادي صرف، فهاته الأحوال الاستثنائية تجيز سحب القرار دون التقيد بموعد الستين يوما، فتصدر جهة الإدارة قرارها بالسحب، اعتمادا على الاستثناء المذكور في أي وقت كان.
وهكذا جاء في قرار للمحكمة الإدارية العليا المصرية صادر بتاريخ 25-6-1974"إن القاعدة المستقرة هي أن القرارات الإدارية التي تولد حقا أو مركزا شخصيا للأفراد، لا يجوز سحبها في أي وقت متى صدرت سليمة، وذلك استجابة لدواعي المصلحة العامة التي تقتضي استقرار تلك الأوامر، أما بالنسبة للقرارات الفردية غير المشروعة، فالقاعدة عكس ذلك، إذ يجب على جهة الإدارة أن تسحبها التزاما منها بحكم القانون، وتصحيحا للأوضاع المخالفة له، إلا أن دواعي المصلحة العامة أيضا، تقتضي أنه إذا صدر قرار معيب من شأنه أن يولد حقا، فإن هذا القرار يجب أن يستقر فترة معينة من الزمن، بحيث يسري عليه ما يسري على القرار الصحيح الذي يصدر في الموضوع ذاته، وقد اتفق على تحديد هذه الفترة بستين يوما من تاريخ نشر القرار أو إعلانه، قياسا على مدة الطعن القضائي، بحيث إذا انقضت هذه الفترة اكتسب القرار حصانة، تعصمه من أي إلغاء أو تعديل ويصبح عندئذ لصاحب الشأن من حق مكتسب فيما تضمنه القرار، وكل إخلال بهذا الحق بقرار لاحق يعد أمرا مخالفا للقانون يعيب القرار الأخير ويبطله إلا أن ثمة استثناءات من موعد الستين يوما هذه تتمثل أولا فيما إذا كان القرار المعيب معدوما أي لحقت به مخالفة جسيمة تجرده من صفته كتصرف قانوني، فتنزل به إلى حد غصب السلطة، وتنحدر به إلى مجرد الفصل المادي المنعدم الأثر قانونا، فلا تلحقه أية حصانة، وثانيا فيما لو حصل أحد الأفراد على قرار إداري، نتيجة غش أو تدليس من جانبه، إذ أن الغش يعيب الرضاء ويشوب الإرادة، والقرار الذي يصدر من جهة الإدارة نتيجة الغش والتدليس، يكون غير جدير بالحماية، فهذه الأحوال الاستثنائية توجب سحب القرار دون التقيد بموعد الستين يوما فتصدر جهة الإدارة قرارها بالسحب في أي وقت، حتى بعد فوات هذا الموعد كل ذلك، مراعاة أن خطأ الإدارة وهي بصدد استعمال اختصاص تقديري، لا يمكن أن يكون مبررا لها لسحب القرار".[5]
ويحق للهيئة الإدارية سحب القرار الإداري داخل  أجل ستين يوما على تاريخ إصداره ويكون تصرفها منضويا في إطار المشروعية ،طالما أنها عملت على مجرد تصحيح وتدارك الخطأ المادي[6]
إن السلطة الإدارية لها صلاحية محو العقوبات الإدارية، تطبيقا لقاعدة مألوفة في القانون الإداري والتي تخول السلطة المنشئة للقرار الإداري إمكانية التصرف فيه، وذلك بإلغائه أو تعديله أو نسخه، سواء تم ذلك بناء على طلب استعطافي من المعني بالأمر أو تلقائيا من لدن الإدارة، غير أن الإدارة تكون ملزمة بالمراجعة إذا قررها القانون أو حكم قضائي. ويشترط ألا يترتب عن القرار الصادر بالعقوبة حقوقا لفائدة الأغيار كي تتمكن الإدارة من مراجعته، ويعتبر تعويض عقوبة بعقوبة أخرى ضربا من المراجعة، غير أن الإدارة تكون ملزمة في هذه الحالة بتطبيق عقوبة أقل قسوة من الأولى تطبيقا للقاعدة التي تقضي بأن لا تعوض العقوبة إلا لفائدة من صدرت في حقه، أما إذا عوضتها بعقوبة أخرى أكثر قسوة، فإن  المعني بالأمر يرجع إلى الوضعية السابقة على صدور الجزاء،[7]  ويجب عدم الخلط بين هذه الحالة، والحالة التي تقدم فيها الإدارة على تشديد العقوبة المقترحة من الهيئة الاستشارية كالمجالس التأديبية واللجن المتساوية الأعضاء، والتي تكون ملزمة إثر ذلك بالتعليل، ذلك أن الحالة الأخيرة تكون في مرحلة سابقة على صدور القرار التأديبي.

 الهوامش
[1] -حكم المحكمة الإدارية بالرباط صادر بتاريخ 3-1-2013 في الملف عدد 163-5-2012، حكم غير منشور.
[2] - لا تملك الإدارة حق سحب قراراتها الفردية المشوبة بعيب عدم المشروعية متى أنشأت حقا لفائدة المعني بها إلا إذا تم السحب خلال أجل رفع دعوى الإلغاء(قرار محكمة الإستئناف الإدارية بمراكش عدد 170 بتاريخ 16/04/2008ملف عدد 227/5/07)، ،المنتقى من عمل القضاء في المنازعات الإدارية،مرجع سابق ص39.
[3] - ملف رقم: 178/5/2012، حكم غير منشور.
[4] -وهكذا جاء في حكم للمحكمة الإدارية صادر بتاريخ 31-1-2013 " توجيه الطعن ضد عمل تنفيذي   يتمثل في رفض تجديد رخصة النقل عوض القرار الإداري الصادر عن  لجنة الاستئناف بوزارة العدل بسحب الرخصة بصفة نهائية المؤثر في وضعية الطاعن  يحتم  التصريح بعدم قبول الطلب."،حكم في الملف عدد 132-5-2012،غير منشور.
[5] - في نفس الاتجاه يراجع قرار آخر صادر بتاريخ 5-4-2005، مجدي محمود محب حافظ، مرجع سابق ص 2408 و2411.
[6] -حكم المحكمة الإدارية بالرباط  صادر بتاريخ 31-1-2013 في الملف عدد 142-5-2012 ،حكم غير منشور.
[7] - قرار مجلس الدولة الفرنسي صادر بتاريخ 28-02-1908 Alain Planty  مرجع سابق.

Aucun commentaire: